هل وجدت ضمن حياتك مجموعة من المواضيع والكلمات التي تخضع لرقابة صارمة؟ وعند كل مرة تبدأ بذكرها أو الحديث عنها، تلتفت لترى هل يراقبك أحد.
تلك المشاعر تتشكل لديك مباشرة عند التحدث بتلك الكلمات والمصطلحات. هي أداة من أهم أدوات الرقابة التي وجدت عبر التاريخ. رقابة تجعلك تشعر بأنك تقول شيئاً خاطئاً دون أن يكون هنالك أي رادع سوى المخاوف التي تظهر من نتيجة حديثك بهذه الكلمات. وهذا الأسلوب مرتبط بالمبدأ المنتشر بكثرة، ألا وهو: ازرع الخوف في نفوس الناس لتحصل على رضاهم.
نعيش في سوريا حرباً منذ سنوات. خلال هذه السنوات الطويلة، كان لدينا العديد من الخطوط الحمراء التي لا يمكن لنا أن نتجاوزها، لأن خطورة تجاوزها تبلغ خطورة القتل في البلاد الأخرى
نعيش في سوريا حرباً منذ سنوات. خلال هذه السنوات الطويلة، كان لدينا العديد من الخطوط الحمراء التي لا يمكن لنا أن نتجاوزها، لأن خطورة تجاوزها تبلغ خطورة القتل في البلاد الأخرى. حتى من الممكن أن يكون حد تجاوزها مفتوحاً إلى ما لا نهاية. انتشرت خلال هذه الحرب مصطلحات ومفردات لا تعد ولا تحصى. ولكن، كان هنالك إجماع على الكلمات التي تخلق حالة الهلع تلك. من أهم تلك الكلمات هي "الحرية". أي مواطن سوري كان يرغب بحماية نفسه، قام بمسحها من قاموس مفرداته، مثلها مثل أي جملة تبدأ بمفردتي "الشعب يريد"، إذ كان من الأفضل ألّا تتابع بعدها.
اختفى العديد من الأصدقاء بعد صدور تلك الكلمات منهم، لتخلق مع الزمن حالة خوف شديد عند ظهورها. نسرع دوماً إلى الالتفات عندما نقولها حتى ولو كان الحديث لا يمت إلى الشق السياسي بأي صلة.
كانت كلمة "الحرية" من أكثر الكلمات التي أخاف من نطقها بصوت عالٍ في سوريا.
تلك المخاوف ولدت معنا في طفولتنا، فتاريخنا حافل بالقصص والروايات التي تجعل الخوف هاجساً لا يمكنه مفارقتك. هذه الأفعال جزء من أنظمتنا وأداة متبعة من قبلها لجعل السطوة الأمنية متوافرة بشكل كبير وهي القوة الأكبر.
كانت كلمة "الحرية" من أكثر الكلمة التي أخاف من نطقها بصوت عالٍ في سوريا. من الصعب أن أفكر دائماً بالنتيجة التي أحصل عليها. تلك الكلمة التي وصلت لنا عبر نشرات الأخبار والمقاطع المصورة من أغلب المدن والعواصم العربية أثناء انتفاضتها. هنالك شعور غريب يملكك عندما تصلك بصوت واحد من قبل أعداد هائلة من المتظاهرين في الساحات. فقدت تلك الكلمة قيمتها نظراً لإمكانية زجها في أغلب الجمل التي لا تنتمي لها، مثل وجود نادٍ سوري في مدينة حلب اسمه الحرية، ولكن التنظيم الرياضي لا يملك أي قيمة مستقاة من تلك الكلمة.
تحدثت مع الكثير من الأصدقاء عن المرة الأولى التي نطقوا بها هذه الكلمة خارج حدود خوفهم. قالت لي صديقتي إنّها المرّة الأولى التي نطقت بها هذه الكلمة ووصلها شعور بمدى حقيقتها، وإنها في لحظة ما أصبحت شيئاً سهل المنال وواقعاً تستطيع العيش فيه بشكل كامل دون أن يكون حلماً أو مطلباً صعباً. وإن المرة الأولى لم تكن تنتمي للخوف بقدر ما كانت منتمية للتوكيد بأن هذا الشيء موجود وأنه ليس بحلم بعيد.
اليوم أنا موجود في مصر. أحاول ألا أخوض أي حديث عن الحرب في سوريا، وعدم الدخول في تفاصيل ما جرى وما يجري. أحاول أن أقول فقط إن الشعب يريد العيش بكرامة فحسب. في مصر، تعلمت أن نطق كلمة "الحرية" ليس بهذه الصعوبة. ترافقني هذه الكلمة اليوم في كل فترات يومي وكأنه تعويض عن عدم قدرتي على البوح بها سابقاً. لم أنكر أن أول فترة لي عندما تذكر أمامي ألتفت يميناً ويساراً لأتفقد تأثيرها. ولكنني اليوم، أقطن في برج يطلق عليه "برج الحرية"، أقرب المعالم له هو ميدان يسمى "ميدان الحرية". أقول لسائق الأجرة أنني أقطن في "برج الحرية" ولعامل التوصيل. كان السائق في البداية يستغرب من التفاتي عند نطقها. ولكن، اليوم أقولها وكأني جزء ممن نادوا بها.
فبحسب الكاتبة المصرية نوال السعداوي "الوطن حيث يكون الحب وتكون الحرية". أما حيث يوجد الخوف فتكون الغربة دون أدنى شك
كان أفراد فرقة الروك الغنائية "كايروكي" في حفلتهم الأخيرة في القاهرة يقدّمون أغنية "صوت الحرية". وفي أحد مقاطعها، يتركون الجمهور ليغنيها. والعبارة هي: "في كل شارع في بلادي، صوت الحرية بنادي". تلك القدرة لدى شعب ما على أن يكون مؤدياً لتلك الكلمات بأسهل شكل ممكن هو شكل بسيط من أشكال الحرية التي تم النداء بها. ونعيش حلماً لإمكانية الحصول عليه. ما الذي يعنيه أن يكون هنالك حشد لعشرين ألف شخص في حفلة موسيقية وتسمع صدى كلمة "الحرية" يسكن القاهرة بأكملها.
أعتقد أنني لن أستطع أن أتخلص من كل هذا الخوف الذي تم زرعه فينا. تلك البلاد التي تحاول جعل أبنائها خائفين من مناداتهم بأبسط الأشياء ستصحو في يوم ما لتدرك أهمية ما فاتها. تلك البلاد التي تجعل كل ما هو بسيط في غاية الصعوبة لا يمكن أن يتم إطلاق صفة الوطن عليها. فبحسب الكاتبة المصرية نوال السعداوي "الوطن حيث يكون الحب وتكون الحرية". أما حيث يوجد الخوف فتكون الغربة دون أدنى شك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون