بدأت قصتي الشخصية مع بيروت، بحكم مكان ولادتي. فأنا ابنة مدينة صافيتا، إحدى المدن التابعة لمحافظة طرطوس السورية. تتبع لمدينتي هذه العديد من القرى الحدودية مع لبنان، تلك القرى التي كانت بمثابة معبر بين البلدين، وهذا ما مكّنني من الاحتكاك منذ طفولتي بالكثير من اللبنانيين الذين كانوا يقصدون سوريا لغايات مختلفة، بحكم سهولة التنقّل بين البلدين في تلك الفترة الزمنية، أي قبل أكثر من عشرين سنةً.
بدأت قصتي الشخصية مع بيروت، بحكم مكان ولادتي. فأنا ابنة مدينة صافيتا، إحدى المدن التابعة لمحافظة طرطوس السورية. ت
الصورة الأولى
كان من السهل جداً علينا تمييز أبناء المناطق الحدودية مع لبنان. لم يتعلق الأمر فقط بلهجتهم الأقرب إلى اللهجة اللبنانية، بل أيضاً بشدة أناقتهم وثقافتهم ومواكبتهم لأحدث صيحات الموضة. ففي الكثير من المرات شاهدت أمي تغمز جارتنا مشيرةً إلى إحداهن وكانت تجلس أمامنا في الباص، لترد جارتنا زامّةً شفتيها: "هدول ما بجيبوا تيابن غير من نص بيروت"، إشارةً إلى مقدار الأناقة في ثياب المرأة. حتى أنّ البضاعة أي بضاعة تصبح مصدراً للفخر والتباهي لصاحبها لمجرد أن تكون آتيةً من بيروت، وهذا طبعاً ما ساهم في رسم الملامح الأولى لتلك المدينة في رأسي من خلال أبنائها.
ولأكون أكثر دقةً، لم تكن بيروت بالنسبة لي منبع الجمال ومصدره فحسب، بل كانت أيضاً أم الفقراء والحل السحري والملجأ، لكلّ من أراد من وطنه السوري غير الخبز والزيتون والسياط. فمن أراد أن يدّخر المال ليكمل بناء منزله، ومن أراد أن يساعد أهله، ومن أراد أن يتزوج وينهي سنوات الانتظار الطويلة، يقصد بيروت.
عندما كبرت والتحقت بجامعة دمشق، اكتشفت أن هذه الصورة لا تخصّني وحدي، فكثيراً ما كنت أنتظر وصديقاتي المتحدرات من محافظات مختلفة، صديقتنا اللبنانية حتى تعود من بيروت وتحكي لنا في سهرة طويلة قصصاً كنا نراها أقرب إلى الخيال، ومغامرات اعتقدنا أنّها تخصّ الجزء الآخر من العالم فقط.
كنا نرتّب في نهاية السهرة، كل عبارة وصلتنا وكل حدث وكل قصة، حتى تشكلت أخيراً في أذهاننا نحن الشابات السوريات الباحثات عن الحياة والحرية والاستقلال، صورة واضحة لمدينة تشبه مدن الأحلام.
في الكثير من المرات شاهدت أمي تغمز جارتنا مشيرةً إلى إحداهن وكانت تجلس أمامنا في الباص، لترد جارتنا زامّةً شفتيها: "هدول ما بجيبوا تيابن غير من نص بيروت"، إشارةً إلى مقدار الأناقة في ثياب المرأة
بيروت الحياة
احتلت القنوات اللبنانية الأرضية أولاً، الشاشات السورية، بحكم العامل الجغرافي والقرب المكاني، ففي الكثير من المحافظات، مثل محافظات الساحل السوري ودمشق ودرعا والسويداء وجزء كبير من حمص، كان الاعتماد الرئيسي في المشاهدة على هذه القنوات التي كان بثها يصل حتى من دون الحاجة إلى أنتينات خارجية، وبعدها ظهرت القنوات الفضائية لتأخذ المكانة ذاتها، بالإضافة إلى إمكانية وصولها إلى بقية المحافظات. وحقيقةً، العاملان الأساسيان اللذان ساهما في انتشارها بهذا الشكل، الفقر الواضح في المادة الإعلامية المقدّمة من قبل القنوات السورية، والمحدودية في عددها. فحتى فترة طويلة من الزمن اعتمد بث التلفزيون السوري على قناتين أرضيتين وقناة فضائية واحدة، في حين كانت القنوات الفضائية اللبنانية في أوج شهرتها وقوتها ومجدها، مثل LBC وMTV، والمستقبل... وغيرها، وتقدّم برامج منوعات، وعروضاً راقصةً ومسرحيةً وفنيةً مبهرةً، وحفلات، وندوات ثقافية وأدبية، وحملات انتخابية، ومعارض فنية... وهذا ما أعطى صورةً عن أسلوب الحياة السائد في ربوع الجار القريب، وتحديداً في عروسه بيروت، الحياة كما نتمنى أن تكون، الحياة التي لا طائل منها هنا في مدننا الباهتة، مدننا التي تخاف الظلام، وتنام ما إن تغرب الشمس.
بيروت في الدراما السورية
ارتبطت بيروت في الدراما السورية بالفكرة ذاتها، ففي عدد كبير من الأعمال المهمة شاهدنا كيف تتحول بوصلة البطل مباشرةً إلى بيروت، إذا ما أراد الهروب بحثاً عن أمان أو مال أو مجد أو شهرة. لذا كانت وجهة عامر (باسل خياط)، الشاب الطائش في مسلسل "أسرار المدينة"، ووجهة عشتار (أمل عرفة)، الفتاة المظلومة الموهوبة التي تريد استعادة حقها من الحياة في مسلسل "عشتار"، ووجهة جلال (قصي خولي)، الكاتب الهارب من بطش السلطات في مسلسل "رسائل الحب والحرب".
بهذا كله لم تعد بيروت بالنسبة لنا نحن السوريين، مجرّد مدينة، بل صارت فكرةً راسخةً ومتجذرةً داخل عقولنا، فكرة بعيدة جداً عن السياسة والحدود والدول والشعوب، وأقرب ما تكون إلى ضوء متاحٍ دائماً في نهاية نفق معتم.
كنا نرتّب في نهاية السهرة، كل عبارة وصلتنا وكل حدث وكل قصة، حتى تشكلت أخيراً في أذهاننا نحن الشابات السوريات الباحثات عن الحياة والحرية والاستقلال، صورة واضحة لمدينة تشبه مدن الأحلام
بيروت في الأدب السوري
حقيقةً، لم تغب بيروت عن مؤلفات الكتّاب والشعراء السوريين، فهي "ست الدنيا"، كما قال عنها نزار قباني الشاعر: "يا ست الدنيا يا بيروت..." و"ألف مدينة ومدينة"، كما قال أدونيس.
حتى غادة السمان التي لم تقل من الشعر الكثير، كتبت لبيروت:
"رغم كل شيء
رغم أنني رحلت ثلاث مرات حول كوكبنا
وبدلت حيواتي ثلاث مرات
لكني ما زلت حتى اليوم
أجفف البنفسج والياسمين
بين أوراق خرائطك وصورك وتذكاراتك، حين تغنّي فيروز بذلك الصوت العذب الهش المجرّح بالحنين، بعدك على بالي،
وتنمو المدينة في ذاكرتي جرحاً
لا أريد أن أشفى منه...".
وأخيراً وليس آخراً، قال عنها الشاعر والكاتب والصحافي السوري هاني نديم: "دمشق أمي الصارمة. بيروت خالتي التي تسرّب لي السكاكر والحلوى"، وبهذه العبارة ربما نستطيع أن نصل إلى لبّ المعنى الذي أردنا الحديث عنه منذ البداية، ونرى هذه المدينة يداً حنونةً تربّت على قلوبنا بعد أن يصفعنا الوطن.
بهذا كله لم تعد بيروت بالنسبة لنا نحن السوريين، مجرّد مدينة، بل صارت فكرةً راسخةً ومتجذرةً داخل عقولنا، فكرة بعيدة جداً عن السياسة والحدود والدول والشعوب، وأقرب ما تكون إلى ضوء متاحٍ دائماً في نهاية نفق معتم
الطريق إلى بيروت... الطريق إلى الخلاص
هربت صديقتي من بيتها واضعةً حداً لقرار أهلها بتزويجها، وكانت الوجهة بيروت، المدينة الخلاص، المدينة التي تفتح أبوابها لكل تائه، لكلّ شارد. لم تفكر في دمشق حتى مجرد تفكير، دمشق لا تفتح أبوابها لمن يقول لا لوالديه. وحدها بيروت قادرة على احتضان فتاة وحيدة تحاول أن تكبر بعيداً عن سياط المجتمع وقراراته. وحدها بيروت تفهم الحب، وتقدّم شوارعها لاختبار الحياة.
ولم تكن بيروت وجهة صديقتي فقط، بل كانت مقصداً لكل سوري أراد تغيير حياته، لكل سوري سئم الحياة التي ليس منها بد، وأراد معنى آخر وطريقة عيش أخرى يختارها بنفسه، لكل رافض لم يجد ملجأً، ولكل عامل أراد حياةً أفضل لعائلته، وبعد الحرب صارت باب الخلاص الوحيد لكل من فاجأته الحرب وحاولت سرقة حياته، لكل من أراد تغيير سير الحكاية إلى الأبد، لكل من أراد النجاة، ولكل من اختار الضوء.
بالرغم من أني لم أختبر رائحة مقاهيها ولا الرقص في شوارعها، وكلّ ما عرفته عنها وصلني من أحاديث الآخرين ومغامراتهم وقصصهم، تبقى بالنسبة لي الفكرة الأجمل عن مدينة عصية تشبه "لا"، بين أكوام من نعم
كتب الكاتب السوري رأفت حكمت، في مقال نشره عبر صفحته في فيسبوك، واصفاً لحظات دخوله الأولى إلى بيروت:
"لا يؤلمني، أنني في المرة الأولى التي دخلت بها إلى بيروت، كنت بعينين معصوبتين، ويدين مقيّدتين وراء ظهري، إنما وقوفي منذ خمس ساعات وربما أكثر، خلف نافذة ضيقة في زنزانة عالية، فقط لأرى بيروت كحلم يتحقق".
أخيراً وبالرغم من أني لم أزر بيروت قط، وبالرغم من أني لم أختبر رائحة مقاهيها ولا الرقص في شوارعها، وكلّ ما عرفته عنها وصلني من أحاديث الآخرين ومغامراتهم وقصصهم، تبقى بالنسبة لي الفكرة الأجمل عن مدينة عصية تشبه "لا"، بين أكوام من نعم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع