شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
قل للمليحة أن ترتدي الأسود... فغُصن البان قد رحل

قل للمليحة أن ترتدي الأسود... فغُصن البان قد رحل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 11 نوفمبر 202212:51 م

حدث هذا قبل عام؛ فجأةً أرسل إلي صديق خبراً عبر تطبيق واتس آب، وكان قد اعتاد على إرسال ما هو مهم فقط، إلي، بعد عزوفي عن متابعة الأخبار اليومية في سوريا، إذ كان قراري حينها بإيقاف حسابي على فيسبوك، وكنت قد أخبرته بألا يُقحمني في قراءة أي خبر سياسي، أو عسكري أو حتى اقتصادي، فلا خبر عن سوريا يسرُّ الخاطر.

قبل قراءة الخبر كاملاً، راح نظري إلى هاشتاغ صباح فخري، و"إيموجي" حزين. اعتذرت من صديقي الهندي، وكنا في طريقنا إلى تناول الغداء معاً، وطلبت منه أن يتوقف ويُنزلني بجانب الطريق. سألني: ماذا حصل؟ قلت أريد أن أستريح قليلاً، اذهب أنت وسأتصل بك لاحقاً. تفهَّم الموقف وشعر بأن شيئاً ما قد حدث: "سأكون في انتظارك"، قال وذهب.

لا أدري مَن أعلن الحداد في داخلي، وأنا في شرق شبه القارة الهندية التي تبعد أكثر من 7 آلاف كيلومتر عن حلب. أُصيب جسدي بكامله بالخدر، وكأني خرجت للتو من غرفة عمليات باردة، أهذي بكلمات لا أعرفها، حتى بدأَت "قل للمليحة بالخمار الأسود"، تجول في رأسي وصرت أغنيها: "قل للمليحة أن ترتدي الأسود فغُصن البان قد رحلَ".

 أُصيب جسدي بالخدر، وكأني خرجت للتو من غرفة عمليات باردة، أهذي بكلمات لا أعرفها، حتى بدأَت "قل للمليحة بالخمار الأسود"، تجول في رأسي وصرت أغنيها: "قل للمليحة أن ترتدي الأسود فغُصن البان قد رحلَ"

مع تدهور الأوضاع في حلب خلال الأزمة في سوريا، قصدَتْ الكثير من العائلات الحلبية اللاذقية، بحثاً عن ملاذٍ آمن، وعليه صار لدينا أصدقاء حلبيون كُثر، في العمل والدراسة وحتى في لعب كرة القدم، ولاحقاً أصبحوا أقارب من خلال علاقات الزواج التي نشأت. كان من المفترض على أي صديق حلبيّ الإجابة عن أسئلتي: "كم حفلةً حضرت لصباح فخري؟ كيف كانت ردة فعلك عندما غنّى أمامك؟ هل حقيقةً تستمعون إلى أغانيه منذ الصغر؟ وهل يطرب حتى الرضيع لسماعه؟".

كانت الأجوبة من قبيل: "نعم حضرت، ونعم هو كذلك في السحر والجمال، ونعم يطرب له الرضيع والكبير، والنساء والرجال، والفقير والغني".

اقترن اسم صباح فخري بقلعة حلب، حتى لقّبه البعض "قلعة حلب الثانية". يتربع على قلوب الجميع كما تزيّن القلعة مدينة حلب، وهو عرّاب كل من يريد كسب شرف التلمذة في تلك المدرسة، وينهل من طريقتها في الغناء. أما رقصته الشهيرة "السنبلة"، فأكاد أجزم أني لم أرَ ما يشبهها بالرغم من كثرة الرقصات الهندية التي أراها يومياً، إلا أن أياً منها لا تضاهي "ميلانه" كسنبلة مثقلة بالجمال، تنشر الطرب مع فرقته الموسيقية، فيطرب ليس سمعك فقط بل نظرك أيضاً، ويتمايل معه كل الحاضرين محاولين تقليد حركاته، حتى أنها صارت تقليداً في كل حفلات اللاذقية، إذ جرت العادة على أن تكون القدود الحلبية ورقصة السنبلة مسك ختام كل فرح يشارك فيها الجميع.

لا أعلم كيف صارت تلك الذكريات تعزّيني بهذا الفقد، وتخرج على هيئة دموع تتجمَّع وتنهمل دفعةً واحدةً على هيئة كلمات. اليوم صار حقاً "فوق إلنا خلّ" هناك في السماء، حيث ترقد روح صباح فخري

مرّت كل تلك الذكريات والجلسات التي قضيتها مع أصدقائي بلمح البصر بعد سماع خبر رحيل صباح فخري، في كل منزل، وعند كل شاطئ، وفي كل مطاعم جارة القمر "صلنفة"، وأخت الجبال "كسب"، عندما كان القمر بدراً، وهلالاً أو غائباً، لم أرَ فيها إلا صورته بلباسه الرسمي الذي اعتاد على الظهور به لاستقبال ضيوفه، ولم أسمع فيها إلا صوته الذي يملك عصا سحريةً تحوّلك إلى منتشٍ من دون خمر. أما معه، فيصبح كل قدَح تشربه يعادل اثنين في تأثيره، حتى أن أحد الطلاب الأفارقة في الجامعة الهندية، وكان مشهوراً بحبّه للرقص، وصف صوت صباح فخري بعد الرقص على أغانيه، بأنه يشعره بالثمالة.

كان صباح يشير إلى الفرقة الموسيقية بيد، ويطبطب بالأخرى على قلوبنا المرهقة من حرب لم تُبقِ أصواتها مجالاً لسماع أي نوع من أنواع الطرب، وكأنه يذكّرنا بأنه لا يزال ثمّة متسع للحياة على قساوة الظروف، فلا تيأسوا. كان ينجح في كل مرة في جعلنا ننسى الحزن المتكدّس ولو للحظة. حتى أن الكثير من أصدقائنا الهنود الذين يشاركونا احتفالاتنا بالأعياد ورأس السنة، قالوا: "لا نستطيع تصديق أنكم قدمتم من بلد مزّقته الحرب عندما نراكم في حالة النشوة هذه، وأنتم تستمعون إلى أغاني هذا المطرب".

لا أعلم كيف صارت تلك الذكريات تعزّيني بهذا الفقد، وتخرج على هيئة دموع تتجمَّع وتنهمل دفعةً واحدةً على هيئة كلمات. اليوم صار حقاً "فوق إلنا خلّ" هناك في السماء، حيث ترقد روح صباح فخري.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image