شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
العنف المضاعف الممارس على الفلسطينيات في إسرائيل... الشرطة مصدر خطر والمجتمع لا يرحم

العنف المضاعف الممارس على الفلسطينيات في إسرائيل... الشرطة مصدر خطر والمجتمع لا يرحم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والنساء

الجمعة 11 نوفمبر 202203:04 م

هذا التقرير أُنتج ضمن مشروع "المدافعات عن حقوق المرأة"، بدعم من منظمة Civil Rights Defenders.

استوقفني حديث جارتنا مع جدتي، بينما كنتُ طفلةً في المدرسة الابتدائيّة، حين سمعتها تستعمل مثلاً شعبياً لتؤكد صحة موقفها، فتقول إن "ضرب الحبيب زبيب". كنت أخاف من الضرب، من المسطرة الخشبيّة الكبيرة التي يحملها أستاذنا في المدرسة، ولم أفهم كيف يمكن أن يكون الضرب كالزبيب... استوقفتني الجملة، ولكني لم أكن أحب الزبيب على أي حال.

بقيت هذه الجملة ترافقني، خوفاً وفضولاً. حتى فهمت، من تجارب شخصيّة في الأساس، أننا كنساء فلسطينيّات في إسرائيل نعاني من تمييز مزدوج، الأوّل أساسه جندري ومجتمعي، كوننا نساءً في مجتمع ذكوري رسّخ أفكاراً مثل "ضرب الحبيب زبيب"، ومُركّب التمييز الثّاني أساسه قومي، كوننا مواطنات في دولة استعمار وعسكرة، دولة تحتل شعبنا وتتعامل معنا كأعداء.

"توضح هذه الدراسة، من خلال البيانات الكميّة، كيـف يتم الحفاظ على سياسة التّمييز بين النّساء الفلسـطينيّات واليهوديّات في كلّ ما يتعلق بواجـب الدّولة في توفير الحماية وفي التّحقيق في حالات القتل"

فروقات العقوبات المفروضة

في بحث أصدره تحالف نسوي يضم جمعيّة "نساء ضد العنف" و"مركز الطفولة" ولوبي النّساء، في تشرين الثّاني/ نوفمبر العام الماضي، تشير المحاميّة والباحثة الفلسطينية شيرين بطشون، إلى وجود تباينات كبيرة في تعامل الشّرطة الإسرائيليّة مع جرائم قتل النّساء العربيّات المواطنات في إسرائيل، مقارنةً بجرائم قتل النّساء اليهوديّات. فمثلاً، قدّمت الشّرطة لوائح اتهام في 94.3% من الجرائم في المجتمع الإسرائيليّ (ضحايا يهوديّات)، بينما في جرائم قتل لنساء فلسطينيّات (مواطنات دولة إسرائيل)، قدّمت الشّرطة لوائح اتهام في 56% من الحالات فقط.

كما تشير بطشون في بحثها إلى فروقات في العقوبات المفروضة على المتهمين بجرائم القتل، ففي جرائم قتل النّساء اليهوديّات، يتراوح الحد الأدنى للعقوبة المفروضة على الجريمة بين 14 و18 سنة سجن. بينما في جرائم قتل النّساء الفلسطينيّات، الحد الأدنى للعقوبات كان 5.5 سنوات فقط.

وتقول بطشون: "توضح هذه الدراسة، من خلال البيانات الكميّة، كيـف يتم الحفاظ على سياسة التّمييز بين النّساء الفلسـطينيّات واليهوديّات في كلّ ما يتعلق بواجـب الدّولة في توفير الحماية وفي التّحقيق في حالات القتل. ويشير تحليل البيانات الكميّة ومقارنتها إلى وجود فجوات كبيرة بين جرائم قتل النساء الفلسـطينيّات واليهوديّـات في ما يتعلّق بتطبيـق القانون في إسرائيل، ويتضمن ذلك الفجوات الكامنة في نسبة لوائح الاتهام المقدّمة، ومعدّلات الإدانة فيها، والفجوات في الحد الأدنى للعقوبات المفروضة في المحاكم".

 كنساء فلسطينيّات في إسرائيل نعاني من تمييز مزدوج، الأوّل أساسه جندري ومجتمعي، كوننا نساءً في مجتمع ذكوري رسّخ أفكاراً مثل "ضرب الحبيب زبيب"، ومُركّب التمييز الثّاني أساسه قومي، كوننا مواطنات في دولة استعمار وعسكرة، دولة تحتل شعبنا وتتعامل معنا كأعداء

وتتابع بطشون في بحثها: "توضح البيانـات الواردة في هذه الدراسـة وجود مسـارين منفصلين، أحدهما للنسـاء اليهوديّات، والآخر للفلسـطينيّات: ففـي حين يتم إنفـاذ القانـون بطريقة تردع القتلة في حال كانت الضحية امرأةً يهوديّةً، فإن حكم القانون غير مجـدٍ ولا يطبّق في حالة النّساء الفلسطينيّات".

الأمر هذا تؤكده المحاميّة والنّاشطة النّسويّة، ميسا إرشيد، التي قالت في حديث أجريته معها، إن "وضعنا مُركّب، كون الشرطة تشكّل مصدر خطر وإسرائيل ليست بالضرورة مكاناً آمناً للمواطنين العرب عامةً، وليس فقط للنساء. فالتوجه في وضعنا هذا إلى سلطات إنفاذ القانون، ليست الحل الأوّل ولا الأكثر جدوى".

وتضيف ميسا حول واحدة من قضايا كثيرة: "في إحدى القضايا التي رافقتها كمحاميّة، قام الشّرطي (العربي بالمناسبة) بالتّحرش الجنسي بالمشتكية، بعد أن تلقى منها شكوى قدمتها ضد شخص معروف لها قام بمضايقتها وابتزازها هاتفياً، لرفضها مواعدته".

قصّة أريج

كذلك أريج (الاسم محفوظ في التحرير)، وهي طالبة جامعيّة من إحدى القرى في الجليل، قامت بالتّوجه إلى الشرطة بعد أن استنفذت كل الطرق الأخرى الممكنة لردع شاب يقوم بملاحقتها وابتزازها، لتؤكّد لي اليوم، وبعد تقديم 12 شكوى في الشّرطة ضد الرجل الذي يلاحقها، أنها على يقين بأن الشّرطة لن تحميها ولن تساعدها.

حدّثتني أريج عن علاقتها مع شاب من مدينة حيفا، تعرّفت إليه خلال تعليمها الجامعي في المدينة، وبعد علاقة دامت أكثر من سنتين، اكتشفت أن الشّاب متزوج أصلاً ولديه ابنة، فقررت الانفصال عنه، الأمر الذي لم يرُق له، فأعلن عليها الحرب، بدءاً من تهديدها برسائل ومكالمات سجّلت بعضها، وملاحقتها في الجامعة ومكان عملها، ثم قام بابتزازها، ونشر صورهما معاً. ووصل به الأمر إلى حرق سيارتها، أمام كاميرات المراقبة في موقف بجانب جامعة حيفا.

وبالرغم من كل هذا، وأكثر (التفاصيل اختزلتها حفاظاً على خصوصيتها)، لم تقم الشّرطة بأي فعل يُذكر لتحمي أريج من مجرم بات يهدد حياتها بعد أن دمّرها.

أريج ليست مهدّدةً فقط من مجرم لم يتقبل أن ترفضه شابة، بل من مجتمع بأسره، قد يعلن في أي لحظة أنها لا تستحق الحياة. "ما بدّي الصور يوصلوا لأهل البلد، مش عم بنام الليل، بتعرفي؟ يمكن لو يقتلوني أحسن!".

بعد توجهها الأوّل إلى الشرطة، قالت لها المحققة الإسرائيلية: "نعلم أن الصور نُشرت بإرادتك، كما أنه التقطها بإرادتك". وتابعت: "أنت المذنبة. من تبني علاقةً مع رجل متزوج عليها أن تتوقّع المشكلات، خاصةً في مجتمع متخلّف كمجتمعكم!".

بعد توجهها الأوّل إلى الشرطة، قالت لها المحققة الإسرائيلية: "نعلم أن الصور نُشرت بإرادتك، كما أنه التقطها بإرادتك". وتابعت: "أنت المذنبة. من تبني علاقةً مع رجل متزوج عليها أن تتوقّع المشكلات، خاصةً في مجتمع متخلّف كمجتمعكم!"

رفض التوجه إلى الشرطة

كنت أستمع إلى أريج وتذكرت جدتي مرّةً أخرى: "تشتكي لمين إذا القاضي غريمك؟". لماذا نستغرب إذاً عدم توجه النّساء العربيّات إلى الشرطة؟!
تؤكد تقارير مركز مساعدة ضحايا العنف الجنسي والجسدي في جمعيّة "نساء ضد العنف"، أن 83% من المتوجهات إلى المركز رفضن التّوجه إلى الشرطة، وجاء في التّقرير الأخير الذي نشره المركز، في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 2021: "عدم الثّقة مبني على تجربة تاريخيّة، تتنصّل فيها الدّولة من دورها في حماية المجتمع الفلسطينيّ عامةً والنساء الفلسطينيات بشكل خاص".

تحدّثت حول هذه المعطيات مع الناشطة في مركز المساعدة، ليندا خوالد أبو الحوف، التي أكّدت بدورها أن "النّساء ضحايا العنف الجنسي أو الجسدي يعبّرن عن عدم ثقتهن بالشّرطة، خاصةً في ظل القضايا الكثيرة التي فشلت فيها الشّرطة الإسرائيليّة في حماية الضحيّة أو في إيجاد حلول وتطبيق العدالة". ومن جهة أخرى تقول ليندا: "تقاعس الشّرطة ليس السبب الوحيد في عدم توجّه النّساء إلى تقديم شكوى، فهنالك عامل آخر لا يقل أهميّةً، وهو الضغط المجتمعي، خاصةً في قضايا الاعتداءات الجنسيّة، إذ تشير المعطيات إلى أن أكثر من 65% من الجرائم يكون المعتدي فيها من عائلة الضحيّة، الأمر الذي يعرّضها لضغوط داخل عائلتها أيضاً، ناهيك عن الخوف من المجتمع في هذه الحالات".

وكانت المحاميّة ميسا إرشيد، قد طرحت هذا الجانب أيضاً: "نحن في مجتمع سلطوي ذكوري يعيب على المرأة استعانتها بالشرطة ضد فرد من أفراد عائلتها، فتوصم مرتين، الأولى لأنها توجهت "إلى الاحتلال" لمساعدتها، وثانياً لأنها تجرأت على إهانة "زلام العيلة"، فنجد أنفسنا أمام منظومة ذكوريّة متكاملة الأطراف، تُقمع فيها النساء بصورة مضاعفة".

كنت أستمع إلى أريج وتذكرت جدتي مرّةً أخرى: "تشتكي لمين إذا القاضي غريمك؟". لماذا نستغرب إذاً عدم توجه النّساء العربيّات إلى الشرطة؟!

المسؤولية الأكبر

ولكنني لا زلت أميل إلى تحميل الشّرطة المسؤوليّة الأكبر، لا سيما أن تقاعسها ليس حكراً على جرائم العنف ضد النّساء، فتقاعس الشّرطة الإسرائيليّة في التّعامل مع الجريمة بشكل عام، المتفشيّة في مجتمعنا العربي، لم يعد محط جدال، وأصبح مثبتاً بالأرقام: قُتل منذ بداية العام 2022، وحتى كتابة هذه السطور، 92 مواطناً عربياً في إسرائيل (الرقم لا يشمل الضحايا في الأراضي المحتلة في القدس والجولان)، بينما نجحت الشرطة في فك رموز جرائم القتل في 19% من الحالات فقط! فيما تصل نسبة فك جرائم القتل في المجتمع اليهودي إلى 70%، الأمر الذي يشرعن كل الادّعاءات ضد الشّرطة، حتى تلك التي تتهمها بالتواطؤ والتعاون مع عصابات الإجرام.

ووفق ورقة موقف كتبتها لينا أبو الحلاوة، ونشرها المركز العربي للدراسات "مدى الكرمل"، بلغ إجمالي عدد القتلى في المجتمع العربي من يوم 1/1/2000 حتى 22/1/2017، 1،180 ضحيّةً. وبالرغم من أن نسبة العرب من سكّان إسرائيل لم تكن تتعدى 20%، إلّا أن نسبتهم في قضايا القتل 67%، والأهم من ذلك أن 85% من الجرائم لم تُفك ألغازها، أي عُرف المقتول ولم يُعرف القاتل.

وتتابع أبو حلاوة في ورقتها: "بحكم طبيعة ‘إسرائيل’ كدولة استعماريّة، يتكون جهازها الشُّرطيّ على أساس خدمة المجموعة المهيمنة، وهي بذلك تعمل على صعيدين: تحجيم وضبط المجموعات الإثنيّة الضعيفة، مثل الشرقيين والأثيوبيين وغيرهم؛ ومن جهة أخرى إحكام السيطرة والخناق على ‘المواطنين’ الفلسطينيين بوصفهم مجموعةً قوميةً تشكّل خطراً دائماً على كينونة الدولة".

وتضيف: "زيادةً على تقاعس الشرطة في ملفّات التحقيق في جرائم القتل، يمكننا تلمّس دَوْر الشّرطة الإسرائيليّة في تغذية العنف عند استحضار قضايا العنف ضدّ النّساء ورحلتهنّ الشاقة في التبليغ عند ضباط الشّرطة الذين، في أغلب الأحيان، لا يوفرّون لهنّ الحماية المطلوبة".

"نحن في مجتمع سلطوي ذكوري يعيب على المرأة استعانتها بالشرطة ضد فرد من أفراد عائلتها، فتوصم مرتين، الأولى لأنها توجهت "إلى الاحتلال" لمساعدتها، وثانياً لأنها تجرأت على إهانة 'زلام العيلة'"

"أنا من يقرر!"

في ظهر يوم 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، قُتلت وفاء عباهرة (أم لخمسة أبناء تتراوح أعمارهم بين 4 و18 عاماً)، في جريمة طعن في شارع رئيسي في مدينة عرابة البطوف في الجليل الأسفل، بيد طليقها ربيع كناعنة. بعد مقتلها، كشفت تسجيلات صوتيّة، أن وفاء عباهرة توجهت إلى الشرطة، لشعورها بأن خطراً يهدّد حياتها، غير أن ضابط الشّرطة الذي تحدثت إليه هاتفياً رفض توفير أي إجراءات حماية لها، بل استهتر بها وبمخاوفها وطلب منها أن "لا تعلّمه كيفية القيام بشغله"! كما قال لها: "أنا من يقرر. لا أحد يقرر غيري، أنا فقط من يقرر. من يريد أن يحل محلي في المنصب، فليأتِ ويقرر نيابةً عني".

إن تقاعس الشّرطة عن حماية حق النساء الفلسطينيات في حياة آمنة، ليس خطأً تقنيّاً، كما أنه ليس نابعاً من خلل في القدرات اللوجستيّة، إنه أحد الأعراض لسياسة متجذّرة ومتشعبة، نابعة عن عقلية فوقية ترى حياتنا أقل أهميةً

قرّر الضابط، وقُتلت وفاء، في وضح النهار، ليُستدل بعد مقتلها على أنها عانت لمدة طويلة من العنف والتنكيل، وكانت معروفةً للسلطات التي تعاملت مع المجرم بتسامح، وعكفت على إخلاء سراحه على الرغم من تهديداته واعتداءاته المتكررة عليها، وبالرغم من أنه أدين بتهم "ابتزاز وحيازة سلاح وعنف".

إن تقاعس الشّرطة عن حماية حق النساء الفلسطينيات في حياة آمنة، ليس خطأً تقنيّاً، كما أنه ليس نابعاً من خلل في القدرات اللوجستيّة، إنه أحد الأعراض لسياسة متجذّرة ومتشعبة، نابعة عن عقلية فوقية ترى حياتنا أقل أهميةً، وتمتنع عن تفكيك المنظومة الذكورية، بل تقوم بتعزيزها، كما تمتنع عن تفكيك عصابات الإجرام، التجلي الأكثر بشاعةً ودمويّةً لنظام ذكوري-أبوي.

ما يؤكّد، مرةً أخرى، أننا لا نملك ترف تجزئة نضالاتنا، ولا تأجيل بعضها حتى إحقاق "القضايا الوطنيّة الكبرى"، بينما نرى بأم أعيننا كيف تدفع النساء الثمن الأكبر، بحيواتهن ودمائهن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard