شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
الفلسطينيات يحاربن عنف الاحتلال والسلطة والمجتمع… فلماذا يقف الإعلام ضدهن أيضاً؟

الفلسطينيات يحاربن عنف الاحتلال والسلطة والمجتمع… فلماذا يقف الإعلام ضدهن أيضاً؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 9 سبتمبر 201902:59 م

تتواصل موجة احتجاجات تقودها نساء فلسطينيات، احتجاجاً على مقتل الفتاة إسراء غريب على يد أفرادٍ من عائلتها. وفي حين تُحارب النساء العنف الجامح ضدهن، ويعانين من قهر الاحتلال، السلطة، والمجتمع، يقف الإعلام ضدهن أيضاً في طريقة تعاطيه مع القضية. يتحدث هذا المقال عن دور الماكينة الإعلامية الحالية، بوصفها "عنصراً" من عناصر الأبوية التي تغذّي اضطهاد النساء بدلاً من دعمهن، وتتعامل مع قضاياهن بطريقةٍ "تقليديةٍ" تجعل مطالبهن غير مرئية بشكلٍ منتظم، وتسعى لتشويه نضال الحركة النسوية، وتتجاهل المنظور الجنساني/ منظور النوع الاجتماعي، في تغطيتها.

"عائلة إسراء غريب تروي تفاصيل لأوّل مرة حول وفاة ابنتها"، "إسراء غريب ... والبحث عن الحقيقة".. عناوين رئيسية تصدّرت إحدى وكالات الأنباء، وانفردت بها عبر شبكات التواصل الاجتماعي. فبدلاً من تحمّل المسؤولية والخروج عن الصمت المحيط بظروف العنف التي تعاني النساء منها، قرّرت هذه الوكالة اعتماد نهج "الحياد" بين الظالم والمظلوم، مسخّرةً نفسها منبراً لترويج خطاب الاضطهاد ونكران العنف.

لماذا تركّز وسائل الإعلام على تعدّد الروايات ونفيها، بدل من بناء تغطيتها على أساس مُحاربة العنف ضد النساء؟

أوضحت الوكالة أنها أعدّت هذه المواد من منطلق "المُساهمة في تقديم المجرمين إلى العدالة"، ومنح "الطرف الآخر" فرصةً للحديث، لكنها لم تكن "فرصة للحديث"، بل فرصة للتبرير وتغذية المتابعين بمعلومات وجد فيها البعض راحة لضميره. ثمّ كيف تعطي "الطرف الآخر" فرصة الحديث، وأنت لم تستمع إلى إسراء أولاً؟ وهل تُعامل قضايا الاضطهاد بالحياد؟ وما أشبه هذا الحديث، بالإعلام الذي يتخذ "الحياد" بين الفلسطينيين والاحتلال نهجاً له، وكأننا في كفة متساوية!

أجرى صحافيو هذه الوكالة مقابلات، شملت زوج شقيقة إسراء، أحد المتهمين بجريمة القتل، طبيب نفسي، وجارة إسراء. مادة صحافيّة كاملة عن قضية عنفٍ ضدّ النساء غابت فيها أصوات النساء اللواتي يتعرّضن للعنف. وفي المقابل، تخصّصت لحديثٍ لا فائدة منه، وخطاب ميسوجيني، وخيالٍ علمي، ومع أشخاص ليس لهم علاقة بالأمر.

في قضايا العنف والاضطهاد ضدّ النساء، من النادر أن نجد مؤسساتٍ إعلامية تقدّم تغطية شاملة وأكثر مسؤولية، وغير تمييزية ضد المعنَّفات/ المعنَّفين من غير الرّجال المُغايرين. لنتحدّث في الحقائق: لماذا تركّز وسائل الإعلام على تعدّد الروايات ونفيها، بدل من بناء تغطيتها على أساس مُحاربة العنف ضد النساء؟

ما تقوم به هذه المؤسّسات الإعلامية من توجيه مسار غضب الرأي العام، لانتقاد الروايات المتضاربة والحديث عنها، دون أي مهنيّة تراعي وجود اضطهاد وتمييز دائمين بحق النساء، ودون الاستماع لهن. بصورةٍ أخرى، حقيقة وجود عدّة روايات، قلّة الأدلّة، تحقيقات السلطة، هي أكثر من حقيقة تعرّض النساء للعُنف.

ولكن الواقع هو وجود اضطهاد منهجي للنساء، من التمييز الاقتصادي وصولاً إلى الاضطهاد الجسدي، مروراً بعدّة أنواع من العنف، بعيداً عن الاهتمام الإعلامي. لا يتم احترام أصواتهن. فبعد إثارة الرأي العام للحديث عن جريمة قتل إسراء، جلّ ما شملته العناوين الإخبارية ذات العلاقة، كان إمّا دحضاً لرواية، أو "دسّاً" لأخرى جديدة. وهذا يثير الغضب مرّة أخرى، لأنه لا يعكس المشاكل اليومية التي تتعرّض لها النساء، ولا الظلم المنهجي ضدّهن، ولا يمنحهن منبراً لإيصال أصواتهن.

كما أن تداول عناوين رئيسية أخرى مثل "قُتلت لأنّها خرجت مع خطيبها"، أو "قُتلت على خلفية الشرف"، لا يُلمّح سوى لكون إسراء هي التي تسبّبت في العنف الذي حدث ضدها، وهذا النوع من التغطية لا يمكن أن يحل مسائل العُنف المُمارس ضد النساء، بل إذا كانت وسائل الإعلام هي "صانع الرأي الرئيسي" في المجتمع، فعن طريق تقاسمها التحامل وفكرة أن النساء مسؤولات عن العنف الذي يعانين منه، فإنها بذلك ترسّخ وتؤيّد تلك الظروف التي تؤدي إلى هذا العنف.

إضافةً إلى ما سبق، بدلاً من وجود الإعلام كآليةٍ تحارب العنف ضد النساء، نجد أن تغطيته نفسها هي عُنف ضدّ النساء. عندما يتم الترويج للخطاب المُعترض على النساء بطريقةٍ جنسية، أو إلقاء اللوم على النساء بسبب العنف الذي يعانين منه، فهذا بلا أدنى شك، استنساخ لنفس العُنف الذي يعشنه مُسبقاً، بل وتخليد له أيضاً، بحيث لا توضّح الأسباب الحقيقية وراء العُنف ضد النساء، وينتهي الأمر عادةً بتلقّي النساء اللومَ على العُنف المُمارس ضدّهن في التغطية الإعلامية.

بدلاً من أن يحارب الإعلام العنف ضد النساء، نجد أن تغطيته نفسها هي عُنف. عندما يتم الترويج للخطاب المُعترض على النساء بطريقةٍ جنسية، أو إلقاء اللوم عليهن بسبب العنف الذي يعانين منه، فهذا بالتأكيد، استنساخ لنفس العُنف الذي يعشنه

على عاتق الإعلام المحلي، والذي يتعرّض هو الآخر إلى الاضطهاد من السلطة والاحتلال، مسؤولية تفعيل قضايا العنف ضدّ النساء، والعمل على تغطية أعمق وتمثيل أدق للحركة النسوية، ومنحهن الصوت، بدلاً من تغطيته بالأصوات الذكورية

في المحصّلة، يعمل الإعلام، بنيّةٍ مسبقةٍ أو بدونها، على ترسيخ صورةٍ نموذجية تحمّل النساء أنفسهن مسؤولية العنف الذي يعانين منه، من خلال تسليط الضوء عبر التقارير أو منشورات شبكات التواصل الاجتماعي، على أن غضب النساء غير عقلاني، وأسبابه غير منطقية، أو من خلال تجاهل تغطية أحداث التظاهرات الاحتجاجية في رام الله والقدس. ولكن غضب النساء موثّق بالكامل في الواقع اليومي الذي تعيشه النساء بعيداً عن الاهتمام الإعلامي.

على عاتق الإعلام المحلي، والذي يتعرّض هو الآخر إلى الاضطهاد من السلطة والاحتلال، مسؤولية تفعيل قضايا العنف ضدّ النساء، التعدّدية الجنسيّة، الجندر، الحقوق الإنجابية، وحقوق الإنسان، والعمل على تغطية أعمق وتمثيل أدق للحركة النسوية، ومنحهن الصوت، بدلاً من تغطيته بالأصوات الذكورية. بالتالي، المطلوب من وسائل الإعلام هو "كسر" تطبيع العنف ضد النساء الذي تمارسه، وذلك من خلال دمج المنظور الجنساني/ منظور النوع الاجتماعي في تغطيتها.

إن دور الإعلام يشمل الإبلاغ عن جميع أنواع العنف الذي تعاني منه النساء، من عُنفٍ بدني، جنسي، وحتى اقتصادي، في وقتٍ يغيب فيه عُنف السلطة أيضاً عن الإعلام المحلّي

توجد عدة آليات وأدوات وتوصيات حول كيفية تقديم تغطيةٍ إعلاميةٍ بمنظورٍ جنساني، لذلك يعدّ من السهل نسبيّاً على وسائل الإعلام تطبيقها. لكن ما يصعّب هذه العملية، أنها تنطوي على تغييرٍ هيكلي في كيفية تعريف وسائل الإعلام لنفسها، وما تمثّل.

ما أقصده بالمنظور الجنساني/ منظور النوع الاجتماعي، له علاقة بتحديد البروتوكولات من أجل تغطيةٍ صحافية أكثر دقّة، مع مراعاة احتياجات النساء ووجهات نظرهن ووجودهن. ذلك يجب أن يتمّ عن طريق تدريب الصحافيين والإعلاميين، مراسلين ومحرّرين، بشأن القضايا الجنسانية قبل خوضهم فيها، فعندما يتعلّق الأمر بتغطية أحداث عُنف ضد النساء، يجب أن يلتزم الإعلاميون بإعطاء صوتٍ للنساء اللواتي يعشن هذا العنف ويحتججن عليه، دون أيّ تشكيك أو لوم على كيفية تصرّفهن حيال الأمر. ما يعنيه ذلك من جهةٍ أخرى، أن الأخبار التي يصدرها الإعلام حول قضايا العُنف ضد النساء، يكون مصدّرها بيانٌ ما، أو أجهزة أمنية، أو جهة حكومية أخرى، بينما يتعيّن على الصحافي البحث والتحقيق في هذه المعلومات.

من ناحيةٍ أخرى، فإن دور الإعلام يشمل الإبلاغ الدقيق عن جميع أنواع العنف الذي تعاني منه النساء، من عُنفٍ بدني، جنسي، وحتى اقتصادي، في وقتٍ يغيب فيه عُنف السلطة أيضاً عن الإعلام المحلّي. وينطوي دور الإعلام بعدها على مساءلة واستجواب السلطة حول كيفية تصرّفهم للحدِّ من العُنف ضد النساء، وهذا أمر لا نجده في الإعلام، ويجب أن يحدث.

وبذكري ضرورة إقحام المنظور الجنساني/ منظور النوع الاجتماعي في التغطيات الإعلامية، لا أتحدّث عن وضع النساء فقط، بل هنالك عدّة موضوعات في هذا المنظور تؤثّر على الرجال أيضاً، وعلى أفراد آخرين ممن لا يعرّفون أنفسهم ضمن الثنائيات، يجب على الإعلام استخدام هذا المنظور للحديث عن قضاياهم في تغطياته، لأنهم أيضاً مجموعات اجتماعية موجودة وممثّلة تمثيلاً ناقصاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image