شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
نكات عواجيز يناير في قمة علاء عبد الفتاح

نكات عواجيز يناير في قمة علاء عبد الفتاح

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 12 نوفمبر 202206:00 م

شرارة من السخرية في روح المصريين سحرت تويتر أثناء قمة صحبتها من المشاعر والدراما والتأثير ما لم يفعله حدثٌ سياسي منذ أمد بعيد، قمة شرم الشيخ للمناخ، أو قمة علاء عبد الفتاح.

ولعلها تكون بداية شرارة، لحرائق تأكل وتنير.

أكاد أفكر أن هذه هي المرة الأولى التي ألمس هذا النمط الهزلي الفكه المصري في حدث سياسي منذ 2014، وبينما أعجب، أجدني أتساءل عن هذا النوع من الهزال والمرح، كيف يخفف من حدة آلام الواقع، وكيف لهذه السردية أن توحد لغوياًً مشاعر المصريين، أكثر من أي شيء آخر أخروي مُقدّس كالدين، أو دنيوي مُقدَّر كحقوق الإنسان.

روح السخرية جسدتها ثورة يناير، وباتت من ملامح وجهها وصوتها، فكلّما سخر الناسُ أكثر، بوعي طائش، أو بطيشٍ واعٍ اقتربوا من روح يناير قاب قوسين أو أدنى، وكلما جدّوا وتعصبوا، كلما ابتعدوا عن تلك "الروح" وعن هاتيك "الثورة"، وعن ملمح أصيل من ملامح مصر/الثورة.

لقد عجزنا وعُجِّزنا

كنت أبحر في تلك المشاعر، وأنا أتصفح هاشتاغ #عواجيز_يناير. نعم لقد عجزنا وعُجِّزنا، بما يعني من اجتماع حروف ع و ج و ز، من جرس في المبنى، وألم في المعنى.

إننا نكرر السردية ذاتها، رغم كثرة المتغيرات، ومضمضة الدهر واستنشاقاته عليها، إلا أننا في نفس الخط، نفس اللغة، هذا الإحساس دفعني إلى التفكير في كل خساراتنا الماضية، كانتفاضة الخبز في السبعينيات، ونكسة يوليو، وهزيمة عرابي الثورية، ومحمد علي العسكرية السياسية، إلى أول وأقسى الخسارات، انتفاضة المصريين في الخليفة المأمون، التي قال عنها أحد المؤرخين العرب: ولم تقم للمصريين بعدها قائمة.

"ياااه قد إيه احنا مجتمع عجوز، وشعب معجز!".

هذا العجز دفعني إلى التفكير مرة أخرى، عن معنى ما حدث لنا في تلك السنوات، سنوات ما بعد يناير، وتذكرت فرضية "البندول" لكاتب روسي، فاديم زيلادن، وتعني عندما ينخرط جمعٌ من الناس في حالة ما، يصبح لتلك الحالة شخصية (كاراكتر)، تكبر على أرواح المنشغلين به عاطفياً، وحياتهم.

في انتقاء المصريين للمفردات العربية التي تمثل مشاعرهم حكمة، فعندما يختارون "حاجة" بدلاً من "شيء" للدلالة على الشيء، أي شيء، وعندما يتخيرون مفردة "نكتة" بدلاً من "مزحة"، فهُم بذلك يعبرون عن "حاجاتهم" بـ"النكتة"

بندول يناير يتحرك، بدليل تذكير السلطة دائماً بأن هذا الحدث هو سبب نكستهم الاقتصادية، بندول يناير يتحرك بدليل تذكير سجن علاء بأن هذا الحدث هو ثورة إنسانية.

بندول يناير هو الذي يشعرنا جميعاً، بعجزنا، كبرنا، وفقداننا للحركة والتأثير، ليس نحن فقط كـ#عواجيز_يناير، ولكن نحن، كلنا كمصريين أعجزتنا خساراتُنا منذ القدم، وعجزتنا، فأصبحنا عواجيز حتى ونحن في عمر الأندرإيدج، مضمض الدهر علينا واستنشق.

بندول يناير الذي يتحرك بأكبر ملمحين من ملامح الشخصية المصرية، كتبهما الروائي الفرنسي ألبير قصيري في عناوين إحدى رواياته: العنف والسخرية.

فكلما اشتطت السلطة في شدّتها، بالغ المصريون في سخريتهم، وكلما بالغ المصريون في سخريتهم، اشتطت السلطة في شدتها.

ولكن طالما نُظر إلى روح السخرية بين المصريين في السياسة على أنها آلية للتكيف، وليست إستراتيجية للتغيير.

ألا يبدو هذا واقعياً؟

أحب دائماً أن أرجع إلى اللغة العربية وما تتصوره من معانٍ، فلا زلنا شديدي الالتصاق، عندما نتحرى التفكير السليم، بتلك اللغة؛ فمثلاً نجد في القاموس مفردتيْ "فكاهة" و"دعابة". الفكاهة، وشخص فكِه أي مستلمح، وهي قريبة من كلمة فاكهة، التي كانت تطلق على النار في الشتاء، وعن الأشياء الحلوة. وأسرتني معاني كلمة دعابة، وهي المبالغة في المزاح، خاصة اشتقاقها "المداعبة"، فالمداعبة هي الضحك والفرفشة، والنّكت والقصف، التي تكون ما قبل النكاح.

وفي انتقاء المصريين للمفردات العربية التي تمثل مشاعرهم حكمة؛ فعندما يختارون "حاجة" بدلاً من "شيء"، للدلالة على الشيء، أي شيء، وعندما يتخيرون مفردة "نكتة" بدلاً من "مزحة"، لتدل على الفكاهة، محورين معناها الأصلي إذ تعني جوهر الشيء وخلاصته، فهم بذلك يعبرون عن "حاجاتهم" بـ"النكتة".

إذا كانت للغتنا العربية، بنسختها المصرية "كاراكتر"، فهو يدفعنا إذا ما أردنا التمرد إلى الفكاهة الفكهة، والمداعبة، والنكات.

السخرية قد تكون إحدى الأدوات التي تبنتها الشعوب المغلوبة، كما نجد في "ألف ليلة وليلة"، أو كما أسميه "قرآن الغلابة"، حيث نقرأ قصصاً لأناس مؤمنين يصابون باللعنة، وللعفاريت حضورها القوي والمؤثر أكثر من الملائكة، وللخليفة والساحر حضور أكثر من النبي والصالح، والسخرية المُرّة من تناقضات الحياة، وإغواءاتها المهلكة، البعيدة عن السخرية العسكرية الجادة، أو الإسلامية القومية.

بندول يناير يتحرك، بدليل تذكير السلطة دائماً بأن هذا الحدث هو سبب نكستهم الاقتصادية، بندول يناير يتحرك بدليل تذكير سجن علاء بأن هذا الحدث هو ثورة إنسانية

أما نحن، كمصريين، فقد عارضنا الخلافة الإسلامية ما وسعتنا المعارضة. قتلنا الخليفة "المحابي للأمراء من أبناء عمومته" على حساب "الرعية"، وسط أحاديث تشدّد على تقديسه، وكنا نتمرّد تمردات بين الحين والآخر، وهذا ما دفع بالمأمون أن يستحل الأعراض والدّماء، لإذلال المصريين، وبيع أبناء وبنات المقاتلين في سوق العبيد بالشام.

يوجز تيري إيجلتون، ما تحس به رموز السلطة، خاصة المتبنية أشكالاَ بدائية في السيطرة، في "فلسفة الفكاهة": "ارتياب الكنيسة من الفكاهة كان نتيجةً لأمور تتعدى الخوف من العبث، فالأمر الأكثر جوهرية هو أن هذا الخوف يعكس الرعب من احتمال فقدان السيطرة".

ربما ليس صدفة أن تتوهج مصر في بدايات القرن الماضي في الحالة الطربية الصوفية، وفي فنّ السّخرية، الذي غذّى الصحافة في بداية توهجها على يد النديم، والمسارح، والسينما. في هذين النمطين أودع أجدادنا الكثير من هوياتهم، وأحلامهم. ربما يحتاج منا في عصر باتت ممكنة جداً أحلام الماضي، بقدر ما تبدو بعيدة ومستحيلة، أن ننظر إلى أنماط السخرية والإيمان الصوفي، الفكه، المتحلل من الأعراف الدينية والاجتماعية، بما يجعلنا نستشف تطلعاتهم الدنيوية المستحيلة، وأمانيهم الأخلاقية التي لا يمكن أن تتحقق إلا في المشمش، في إحساسنا الطرب اللعوب، الساخر، الوقح.

ومن يدري، قد تشبه سخرية تلك الهاشتاغات المداعبة، لـ #عواجيز_يناير في #قمة_علاء_عبد_الفتاح بمعناها اللغوي العربي القديم، مداعبةَ ما قبل تحقيق الأحلام، والنوم في العسل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image