شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
حداثة محمد عفيفي مطر وشاعريّة ثورة يناير

حداثة محمد عفيفي مطر وشاعريّة ثورة يناير

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 25 يناير 201906:00 م
كنتُ أعتبره متعاليًا عليّ كقارئ، وأندهشُ لنضالِه السياسي غير المواكب لشعره المُغرق في الغموض، أُخَطّطُ بقلمي الرّصاص على بعض كلمات شاعرية مدهشة، هذا كل حظّي من شعر محمد عفيفي مطر ( 1935-2010 ) عندما كنت أدرس اللغة العربية في الجامعة، ولكنّي منذ فترة، وعندما أعدتُ فتح الدواوين ذاتِها، اندهشتُ... الآن بعد مرور كل هذه السنوات، تُجسِّد تجربة محمد عفيفي مطر الفرديّة في ذروة توهّجها الإنساني، والهشّ، وانتشائها الداخلي، واغترابها الخارجي... في سياق انكساراتها تحت وطئة الظروف الراهنة من كساد اقتصادي، وتفتت الطبقة الوسطى، وغياب أي مشروع تنموي، ناهيك عن غياب الدولة المتمثل في التوظيف والرعاية الاجتماعية. وقد اعتبر بعض شعراء الحداثة أنّ القيم التي روّجت لها الحداثة الشعرية هي التي مهّدتت للربيع العربي، حيث أصبح للإنسان الفرد حضوره، مشاعره وحقوقه ورغباته، وسعي إلى نماذج إنسانية عالمية بعيدًا عن النعرات القبلية والقومية والوطنية، قبل الحداثة الشعرية لم يدخل القاموس العربي مفردات تمجد الفردية وتطلعاتها، والإنسانية المجردة بهذا الشكل.

فرديّة المواطن بين العرب والغرب

تتوهج فردية المواطن في أوروبا لأنه يعيش في نعيم "الوفرة" و"الدولة"، حيث تحفظ له الدولة حقه في الحياة، والمشاركة الفردية السياسية، وينظر الإنسان الغربي إلى العالم باعتباره "عالم من الممكنات" ليعيش في كل لحظة احتمالات شعرية خصبة، لها جانبها المظلم، المتمثل في الاغتراب، حيث الحرية هنا هي حرية بمعناها السلبي، "حرية من" وليست "حرية من أجل" بحسب تعبيرات عالم النفس الألماني إريك فروم، وتشيع البرودة في الشوارع، حيث تغيب الحميمية بين الناس، وتقل احتمالات مشاركة هذه "الحرية"، وتكاد تنعدم احتمالات حدوث ثورات اجتماعية أو سياسية للتغيير، بحسب رؤية عالم الأنثروبولجيا الأمريكي ديفيد غرابر في كتاب "مشروع الديمقراطية". مع التذكير أنّ كثيرًا من تلك القيم الإيجابية للحداثة بدأت تتداعى بعد الكساد الاقتصادي في 2008. ولكن الفردية التي يختبرها المواطن العربي مختلفة، تستغرقها المعاناة، معاناة في إشباع احتياجات رئيسية تتعلق بالمأكل والملبس والجنس، فردية بحكم الانفتاح "الافتراضي" على العالم عبر الفضائيات والإنترنت مُتطلّعة إلى أقصى حد، ولكن بحكم الانغلاق عن الواقع بسبب حالة الندرة والقمع والتقاليد المُتحكّمة؛ فهو بائس ومحبط لأقصى حد، فردية طالعة من قيم القرية الريفية التي يحاول العالم العصري مسخها لتواكب متطلبات السوق، تنشد حداثة مدنية مفقودة ومفتقدة، ولكنها على الجانب الآخر، وهو ما اتكأت عليها شاعرية مطر، فردية تنهل من تراثنا الغني بصوفيته، والمراوغ بشباكه الساحرة المغرية للإغراق فيه وتناسي مرارة الحاضر، فردية تتغذى بشاعرية المعارضة الاجتماعية والسياسية، بالمعنى الذي تحدث عنه إدوارد سعيد عن "المثقف المنفي". ولفهم خصوصية الفردية العربية علينا بالعودة إلى الحداثة الشعرية منذ محاولات زرعها في التربة الشعرية العربية.

حداثة وفردانيّة مطر

الحداثة الشعرية جاءت مع ترجمة شعر بودلير في بيروت، ثم العراق، ثم القاهرة، وجاءت منفصمة عن الحداثة السياسية، التي احتفت بالفرد واعتبرته، ولو نظريًا، الحاكم الواقعي في الدولة الحديثة، وتجسّد ذلك في الانتخابات، وفي استطلاعات الرأي، بينما الحداثة السياسية لم يعرفها المواطن العربي، وباتت تطرح نفسها نظريًا وافتراضيًا مع تخلّص العالم العربي من الاستعمار. لذا جاءت الحداثة الشعرية التي تتمحور حول ذات الشاعر، بثقافته، وتصوفه، وغربته، وكآبته، في وجه الإرث الشعري العربي الذي يُمجّد "الجماعة" مُتمثّلة في القبيلة أو الدين أو الوطن أو الأمة العربية والإسلامية. ولكن الجمهور العربي لم يتقبّل الشعر الحداثي، وإحدى أبرز إشكالياته معها تتمثل في التواصل، وعفيفي مطر يكاد يكون النقيض لشاعر آخر مثل نزار قباني، الذي وصف أحدهم تجربته بأنها "حداثة التواصل". ويتجلى الفرق في حالة التواصل الشعري بين المبدع والجمهور لدى الحداثيين والمتمسكين بالتقاليد الجمالية العربية في الغموض، ويحدّدها النقاد أكثر بظاهرة "الانزياح"، حيث حددت الذائقة العربية التقليدية مقومات الانزياح بوجود "القرينة"، أي أنّ الرمز الشعري يُفهم معناه بوجود "قرينة" سواء في السياق أو عملية التشبيه نفسها تجعلنا نُرجّح "معنى" دون آخر، وحدد الناقد جان كوهن الغموض "أو الانزياح" بإمكانية تأويله، مُثمّنًا التواصل اللغوي في شعرية اللغة. ودافع الشاعر السوري أدونيس عن الحدود القصوى لهذا "الانزياح"، وضخّ قيمة شعرية كبرى في الغموض الذي ينفي عملية التواصل المتضمنة في الطبيعة التواصلية للغة، والتي يعتبرها الحداثيون ممأسسة ومتمركزة حول المعاني التي يعتبرونها منتوجات السلطة. يقول أدونيس مثمّنًا غموض الشاعر وعزلته عن الناس: "الكاتب الثوري الذي يعيش وسط جمهور كجمهورنا العربي معزول بحكم إبداعه (أي ثوريته) من جهة، وبحكم التخلف الموروث الذي يخيم على هذا الجمهور، من جهة ثانية". في هذه الأجواء انبثقت حداثة عفيفي مطر الشعرية، في أشياء بداية من استحضار "جذوره"، عبر وجود الماضي المقدس الذي يسائله، ويعيد خلق معانيه مشروطًا باللحظة الراهنة، مرورًا بالتشبث بمفردات البيئة القروية التي عاشها في طفولته وشبابه، وآخرًا وليس أخيرًا باستلهام الحالة الصوفية.INSIDE_MAfifiMatarJan25_2 يقول"1" الناقد محمد عبد المطلب عن مطر واصفًا ظهور مطر الشعري: "خروج عفيفي مطر من القرية كان تفاعلًا وجوديًا مبشرًا بولادة خطاب إبداعي يحمل رائحة الطمي، ويُنصت إلى كلماته"، ولفت إلى أنه مرّ بمرحلة تطور في الرؤية تشبه بأعمى "حي بن يقظان"،  الذي عندما أبصر كانت بصيرته لها "طبيعة نورانية إشراقية تجتلي من النور نورًا". ولكن شاعرنا الحداثي واجه في المجال الثقافي ما يصطلح عليه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو "التطبع"، ويعني ما يواجهه المبدع من الآليات النفسية التي تتجسد في تفاعلات اجتماعية يتبناها المبدع في الوسط الاجتماعي الثقافي، هنا واجه مطر أدونيس، المبدع الذي تمكن من مراكمة أعمال إبداعية ونقدية أهلته للهيمنة على الحداثة الشعرية، أو ممتلكًا "لرأس مال رمزي" أهّلَته لحيازة سلطة في هذا "المجال"، بلغة بورديو. يقول صديقي، روائي سابق هجر العمل والقراءة الإبداعية متوجهًا للصحافة وبعض النشاطات الاستثمارية، مستلهمًا تجربة حياته، وأبطال قرأ لهم لنجيب محفوظ، ويوسف السباعي، وأفلام عاطف الطيب: "دايمًا الرسالة واحدة، أي حد يفكر يواجه المؤسسة، النظام، المجتمع، السلطة، بيتهزم في النهاية، ممكن يكمل حياته بالأمل، أو بالألم، بس النتيجة واحدة الهزيمة". من هذه الزاوية، اتجه عفيفي مطر لتجربته الشعرية، حالمًا كما قال في فيلم تسجيلي عنه، أراد أن يكون صوت جماعته وأمته، ليصطدم أولا بأمة لا تقرأ "ما الذي أكتبه؟، والليل أمامي، كتب مصفوفة والشعب لا يقرأ"، سلطة الجهل، ونظام يهيمن على المهيمنين على المجال الثقافي "بلغة غرامشي"، وحتى في هذه الفضاءات الحداثية التي تتبنى مواجهة السلطة في جمالياتها الشعرية، يصطدم بسلطة الممتلكين لـ"رأس مال رمزي"، وبأنماط قولبوها للحداثة، حاول مطر بشعره وتصريحاته ومواقفه مواجهتها. لذا غالبًا ما يتحدث مطر بلغة النفي قبل أن يعبّر عن رأيه "أنا ضد كذا" أو "لا أرى كذا" ثم يعقبها برأيه. ودائما ما يقارن تجربته بأدونيس، يقول مطر في حوار له: "التراث الصوفي ليس ملكًا لأدونيس، وليس ملكًا لأحد بالذات، أنا درستُ فلسفة، ودرستُ التصوّف في الفلسفة الإسلامية، وقرأت كثيرًا في التصوف، وأنا قارئ لفلسفة ما قبل سقراط، وفيها كثير من المصطلح الشعري المستخدم، فالفكرة في مسألة التأثير والتأثر أنها لا تقال من أجل التوضيح أو الفهم". ورفض مطر في هذا الحوار وغيره، وجود سلطة موحدة، مُؤكّدًا على مكانة أدونيس، ولكنّها مكانة لا تُلغي وجود شعراء آخرين، بعيدًا عن المنافسة المفروضة ضمنًا بينه وبين شعراء عظام في جيله كـأمل دنقل. وينتقد مطر آليات المجال الحداثي في الشعر، رافضًا زعم كل فريق بامتلاك إرث الشعر العربي، ووصف تلك الرغبة في احتكار الشعرية، سواء للمدرسة الكلاسيكية أو التفعيلة أو النثر بكل تداعيات تلك المدارس الجمالية، ووصفها بأنّها تعكس "رغبة فاشية"، غير منفصلة عن الثقافة العربية التي تنتصر للملك الواحد الذي يتربع على عرش السلطة. ويعيد مطر تعريف القصيدة، غير مدعي أنها التعريف الأوحد، يقول أنّ الشعر "فن زمني" "ناقص" تتكوّن فيه القصيدة بـ""التراكم والانتقال من سطر إلى سطر" هذا "التراكم ليس عشوائيًا ولا مجانيًا" يحكمه "منطق قصيدة معينة، وعالم قصيدة واضح ليس متروكًا للفراغ"، والشاعرية التي يراها في القصيدة "هل هي محكومة بمنطقها الخاص أم لا، وهل تؤدي في النهاية إلى هذا العمل الكلي المسمى القصيدة أم لا". وأكثر ما يتجلّى هذا التمرد لشاعرية مطر بالنسبة لي، في قصيدته عن تجربته في سجن لاظوغلي "هلاوس ليلة الظمأ" حيث تجتمع في تلك القصيدة خيوط هذه الفردية، جسدًا تخضبه الدماء من التعذيب، وروح تتوهج بالفلسفة، والتمرد، مستحضرًا الإرث الأخلاقي الشعبي في مواجهة لا أخلاقية السجّان.
وقد اعتبر بعض شعراء الحداثة أنّ القيم التي روّجت لها الحداثة الشعرية هي التي مهّدتت للربيع العربي، حيث أصبح للإنسان الفرد حضوره، مشاعره وحقوقه ورغباته، وسعي إلى نماذج إنسانية عالمية بعيدًا عن النعرات القبلية والقومية والوطنية.
ولكن الفردية التي يختبرها المواطن العربي مختلفة، تستغرقها المعاناة، معاناة في إشباع احتياجات رئيسية تتعلق بالمأكل والملبس والجنس، فردية بحكم الانفتاح "الافتراضي" على العالم عبر الفضائيات والإنترنت مُتطلّعة إلى أقصى حد، ولكن بحكم الانغلاق عن الواقع.
امتثل محمد عفيفي مطر بشكل فذ كثيرًا من الاحتمالات الشاعرية والجمالية في الحداثة الفردية، بشكل تتكامل فيه حياته الواقعية مع قصائده الشعرية، وكأن الأولى شعره والثانية حياته.

شاعريّة مطر: "هلاوس" سجين في واقع مُستلَب

كتب عفيفي مطر قصيدته "هلاوس ليلة الظمأ" في سجن لاظوغلي 1991، حيث اعتقل بسبب رفضه للحرب على العراق، وتدور حول بطل "هو الذات الشاعرة"، سجينة ومعذّبة جسديًا، ضُربت بالعصا، وكوّنت الدماء قشرة على وجهه، ونفسيًا بما تُمثّله الزنزانة من غربة عن الواقع، وبينما هو في غياهب السجن، ينفتح الواقع أمامه إلى واقعين، المُتخيَّل حيث هو في القرية يُربّت على ابنته، التي تُصدَم بقشرة الدم على وجهه، والواقعي حيث السجان عبد العليم، يقول مطر في مفتتح القصيدة: "غبشٌ يُبلّله دخول الليل، والغيطان تسحب من بدايات النعاس تنفّس الإيقاع مُنتظمًا على مد الحصيرة والمواويل، الزمان كأنه فجر قديم مستعاد قد كنت مضطجعا أعابث شعر بنتي.. الصغيرة أفزعتها قشرة الدم الصديد على عظام الأنف أهذي أم هي الزنزانة انفتحت على زمنين واتسعت على هول المكان؟!" ويصف جزع ابنته عندما شاهدَت "القيود" التي "تعضّ لحم المعصمين، فيرشح الدم": "فاستدارت، وارتمت في عثرة الرهبوت" ويصف السجانيْن وهما يتحاوران على ضربه بالعصا بالـ"مخنثين"، ويجسّد عفيفي مطر مشهد التعذيب في العصا التي ضربه بها "عبد العليم" السجّان، هذا الإرث الثقافي لدى المصريين المرتبط بالعصا، حيث الرقص عليها في الموالد، أو المبارزة كالرجال وجهًا لوجه، ولكن "المخنث" السجان خان هذا الإرث: "لم يترك الأهلون من نبل العصا في لعبة التحطيب ميراثًا لأوغاد الزمان النذل.. هل رجل وضربته تجيء من الوراء!! أَدرِك دمي بالبن بعد الماء يا عبدالعليم". ويرسم مطر صورة مُتخيّلة لأجواء حفلات الذكر في موالد الأولياء، حيث يجتمع الناس، ومنهم  أبو السجان "المخنث"، "قصاع الفت"، "في ليل الموالد بعد رقص الذكر والتخمير"، و "يهدر" والده في "مقام الحشد تأخذه الجلالة": "وجهه الطيني يلمع، والعصا في إصبعيه تدور مثل مغازل الأفلاك". ويستفيض في التفاصيل، ليعقد القارئ بخياله مقارنة بين الإرث الصوفي المتوهج في حفلات الذكر، وخيانة "عبد العليم" السجان في "حفلات" التعذيب، وكأنها رمز لخيانة نظام بالكامل لتقاليد البلد الأخلاقية والحضارية. هكذا امتثل محمد عفيفي مطر بشكل فذ كثيرًا من الاحتمالات الشاعرية والجمالية في الحداثة الفردية، لنا كقرّاء عرب متذوقي للشعر، بشكل تتكامل فيه حياته الواقعية مع قصائده الشعرية، وكأن الأولى شعره والثانية حياته، ليس فقط مواقفه من النظام السياسي، أو الهيمنة الثقافية المؤسساتية المصرية، ولكن هيمنة بعض التقاليد الحداثية الشعرية، مدافعًا عن التنوع والتفرد وكأنهما مقاومة لنظام سياسي آنذاك، يحاول بفاشيته "سستمة" هذا التنوع، وميكنة "التفرد" في قوالب اجتماعية مستأنسة. *** "1" - عن دراسة بعنوان "دوائر المعنى في: رباعية الفرح لمحمد عفيفي مطر" لمحمد عبد المطلب  في مجلة "أدب ونقد" العدد 82.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image