شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"لو نموت معاً"... متى نخرج من هزيمة بهاء طاهر؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتاريخ

الجمعة 11 نوفمبر 202210:51 ص

يبلغ متوسط أعمار المصريين، أو العمر المتوقع لبقائهم على قيد الحياة، نحو 74 عاماً، حسب إحصاءات العام 2021 (73 عاماً للرجال و75 للنساء). وفق هذا المعدل، يكون الأديب الكبير بهاء طاهر، الذي توفي قبل أيام عن 87 عاماً، قد عاش عمراً مديداً وفق المعايير المصرية عموماً، ومقارنةً بأعمار الفنانين والكتّاب المصريين خصوصاً، الذين، باستثناءات نادرة، غالباً ما يرحلون قبل انتصاف سبعينات العمر، إن لم نقل ستيناته، إثر تضافر أسباب عديدة، عامة وخاصة، تشترك في أنها تضعف صحة القلب والشرايين، في ظل حياة ملؤها القلق، وغالباً الاكتئاب.

ربما كان هذا مدخلاً غريباً للحديث عن بهاء طاهر، لكنه -وأقصد العمر المديد- ربما يفسر أن حالة الحزن العامة لرحيله، كاتباً مبدعاً، وإنساناً نبيلاً في نظر معظم من عرفوه، لم تكن من نوع الحزن الفاجع لفقد إنسان كان قد أدى أمانته بالفعل، وأعجزته المعاناة الصحية عن الظهور الأدبي في سنواته الأخيرة، بل كان حزناً أقرب إلى مناسبة احتفاء بمسيرته الثقافية ومنجزاته الأدبية، حتى إن شاب هذا الحزن بعض الهجوم من محترفي مهاجمة الموتى، لكنه كان صوتاً نشازاً لم ينجح في إفساد السيمفونية.

كان حزناً أقرب إلى مناسبة احتفاء بمسيرته الثقافية ومنجزاته الأدبية، حتى إن شاب هذا الحزن بعض الهجوم من محترفي مهاجمة الموتى، لكنه كان صوتاً نشازاً لم ينجح في إفساد السيمفونية

على كل حال، فإن الحزن الأكبر، بدا واضحاً في الاقتباسات التي شاركها القراء من كتب طاهر. احتل المركز الأول فيها، لو جاز أن نمنح مراكز للاقتباسات، المقطع الشهير من روايته "شرق النخيل"، حين تبكي "فريدة" إثر مقتل حبيبها "حسين"، فتعلن عن أمنيتها المؤسفة: "لو أنَا نموت معاً. لو أن الناس كالزرع ينبتون معاً ويُحصدون معاً، فلا يحزن أحد على أحد ولا يبكي أحد على من يحب. لو يُحصد زرع البشر الذي ينبت معاً كله في وقت واحد، ثم يأتي نبت جديد يخضرّ ويكبر، لا يذكر شيئاً عما سبقه ولا يفكر في ما سيجيء".

بلغ من شهرة "أمنية" فريدة، أن الناشرين اختاروا -في الطبعات التالية من الرواية- أن يضعوا عبارة "لو أنّا نموت معاً"، على الغلاف وتحت اسم الرواية، بعد اختصارها أحياناً بحذف كلمة "أنّا"، لتصير "لو نموت معاً"، ولتصبح مثل اسم ثانٍ أو عنوانٍ فرعي للرواية. لسنا هنا في صدد عبارة اشتهرت نتيجة فيلم سينمائي مثلاً، كعبارة "جواز عتريس من فؤادة باطل"، التي وضعها الناشرون على غلاف رواية ثروت أباظة "شيء من الخوف". فلم تتحول "شرق النخيل" إلى رواية أو مسلسل تلفزيوني كما صار مع روايتيه "خالتي صفية والدير" أو "واحة الغروب". وإنما بدت عبارة "لو نموت معاً"، كأنها أمنية عامة لاقت صداها لدى كثير من القرّاء في زمن مصري/ عربي عصيب، حتى صارت أشهر من الرواية نفسها. وعلى الرغم من أن "شرق النخيل"، الرواية القصيرة التي تلت المجموعات القصصية الأولى لبهاء طاهر، وسبقت رواياته اللاحقة، لم تصبح في أي وقت أشهر أعماله، إلا أن الاقتباس المذكور لم يصبح فحسب أشهر مقاطعه الأدبية، بل صار ربما الأكثر تعبيراً عن الحزن/ اليأس الشامل في رواياته وقصصه، والمعبّر عن أبطاله المهزومين، الممزقين إما بين الشرق والغرب، أو المدينة والريف، والأهم: بين أمل شاحب ويأس شامل. إنهم مثقفون -حائرون- غالباً، على الرغم من أن "فريدة" التي جاءت العبارة على لسانها، لم تكن مثقفةً، لكنها عبّرت عن الأمنية العاجزة التي ظلت شخصيات طاهر تحملها من "قالت ضحى"، إلى "الحب في المنفى"، آخر أعماله الكبيرة في نظر البعض، وصولاً إلى "واحة الغروب".

بينما عاش مثقفو محفوظ في عالم تتلاشى فيه "مصر الليبرالية"، لصالح "مصر الاشتراكية/ البيروقراطية/ البوليسية"، في الستينيات، فلجأوا إلى "الثرثرة" والحشيش أحياناً، أو إلى الصوفية والشعر والدراويش في أحيان أخرى، فإن مثقفي بهاء طاهر، حملوا في شبابهم هموماً مختلفةً

يمكن القول إن شخصيات طاهر المثقفة اليائسة، قد تسلّمت عصا السباق من بعض أنماط مثقفي روايات نجيب محفوظ في العقود السابقة عليها، وبينما عاش مثقفو محفوظ في عالم تتلاشى فيه "مصر الليبرالية"، في أربعينيات القرن الماضي، لصالح "مصر الاشتراكية/ البيروقراطية/ البوليسية"، في الستينيات، فلجأوا إلى "الثرثرة" والحشيش أحياناً، أو إلى الصوفية والشعر والدراويش في أحيان أخرى، فإن مثقفي بهاء طاهر، حملوا في شبابهم هموماً مختلفةً -بفعل اختلاف الحقبة الزمنية- لها طابع عروبي ويساري في معظم الأحيان، ثم لجأوا بعد انكسارهم إلى الغرب (كموطن للعيش والحب وتذكر الماضي، ربما مثل حياة بهاء نفسه الذي عاش نحو عقدين من الزمن في جنيف). لكن إذا كان مثقفو روايات محفوظ قد امتلكوا القدرة على السخرية، واحتقار الحاضر من موقع تجربتهم السياسية الغنية في مصر، السابقة على ثورة تموز/ يوليو 1952، فإن مثقفي بهاء بدوا بوضوح أكثر هشاشةً وأشد حيرةً؛ لقد اشتكوا من العالم لكنهم عجزوا غالباً عن تفسيره، فاستسلموا لما فعله بهم لا التاريخ فقط بل الجغرافيا كذلك (يموت بطل "الحب في المنفى" على دكة باردة في حديقة أوروبية، بعيداً عن كل ما/ ومن أحبّه)، كأنه في موته لا يزال، بعد سنوات من بطل "شرق النخيل"، يعاني من عدم تحقق أمنية فريدة بـ"أن نموت معاً".

لا يحتاج القارئ إلى كثير تفكير ليدرك أن يأس شخصيات طاهر لا يتمدد فحسب في لحظتنا الراهنة، بل إنه وجد طريقه إلى الكثير من شخصيات روايات الأجيال اللاحقة، وصار نمطاً يعجز كثيرون من الكتّاب عن الخروج منه لأنه منهم وهم منه؛ شخصيات ترى الواقع وتدركه لكنها لا تجد طريقاً بعد للخروج من الهزيمة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image