خرجتُ من فرع المصرف فرِحاً وخجلاً بعض الشيء بفرحي وسروري. وأكتب متردّداً، سروري، لأن تسمية ما شعرتُ به حينذاك فرحاً، تبدو لي اليوم، بعد نحو عشرة أيام على الواقعة مبالغة في القول وفي النقل، أرجع منها إلى كلمة أضعف، وإلى شعور أقل دعوة إلى الخجل.
ومصدر الاثنين، السرور والخجل، هو أن فرع المصرف رضي أن يفتح بابه، ولو موارباً في أول الأمر، ثم قبِل حارس الباب- وهو رجل في منتصف العقد الرابع من العمر أو أواخره، تميل سمرته الحادة إلى حمرة داكنة، ويغذّي شعر ذقنه الأسود القاسي والمزمن، وانحسار الشعر عن رأسه، وافترار شفتيه عن أسنان صفر، وبروز عينيه الشاخصتين والناعستين معاً، (تغذّي هذه) عبارة وجه لا تنمّ بالحراسة ولكنها لا تستبعد وضاعة الحجابة أو النكاية- قبل السماح لي بالدخول إلى عقر المصرف.
وحرمتُ هذه النعمة منذ أسابيع، مثل مئات الآلاف غيري من "عملاء" المصارف اللبنانيين "الموطِّنين" مرتّباتهم في حساباتهم و"المودعين" بقايا دخلهم الثابت هذا وعوائد إضافية متأتية من أعمال أخرى وفرص سانحة. واقتص حرماننا، نحن العملاء الموظفين والمودعين، دخول المصارف من إقدام بعض إخوتنا في العمالة والإيداع، وهم نحو عشرة من نحو مليون وستمئة ألف عميل، على إلزام مصارفهم تسديد ودائعهم بعملتها الأولى، أي الدولار الأميركي.
المصرف الأخرس
وطوال ثلاثة أسابيع من الشهر لم يسعني مخاطبة موظف واحد من موظفي "مصرفي"، ومستودع "جرايتي"، على ما كان مقاتلو المماليك وأهل الدواوين العثمانية يقولون. فهم صمّوا هواتفهم عن السماع إلى شكاوى الزبائن أو أسئلتهم، وقصروا بهم على الرنّة الكريهة التي تفيد إدارة الظهر. وصادف أن هذا الشهر، تشرين الأول/ أوكتوبر، آخر شهر تصلح فيه بطاقتي لسحب مالي من آلة التوزيع. ودأبت الآلة، حيثما كانت وفي كل مرة أسألها الإفراج عن شطر من مالي عندها، على تذكيري بنهاية صلاحية بطاقتي الوشيكة، وعلى تعليق السحب إلى حين ضغطي على زر نظير التذكير ويرفع القيد على "متابعة" السحب.
ومن وجه آخر، علّق قَفْل المصارف أبوابها استعادة المودعين حصة ضئيلة من وديعتهم بالدولار الأميركي. وهذا الإجراء، بموجب إجراء المصرف المركزي المعروف باسم التعميم 158، "يعيد" إلى المودع على نحو مقطَّر ومقتِّر، قطرة قطرة، أربعمئة دولار "طازج" في الشهر، ومعها يُفرض عليه القبول بأخذ أربعمئة أخرى تُمنح بالليرة على سعر يقلّ عن ثلث سعر صرف الدولار الحقيقي. فإذا بلغت الوديعة "السابقة" 50 ألف دولار، وهو متوسط معتدل، وسع المودع استعادتها، على هذا المنوال، في غضون خمسة أعوام تامة. واحتاج إلى عشرة أعوام لاستعادة المئة ألف دولار العتيدة التي يلوح بها "سقفاً" للاستعادة المأمولة.
فبدا أن الإغلاق، والهواتف الصمّاء، وقطرة العملة الخضراء المحظورة في الصحراء "الكاوية"، على ما يقال في سعر الصرف المحلّق، وانتهاء صلاحية البطاقة، جميعها تحكم الطوق على مَن اختُصر كله في إجراء مصرفي واحد هو الإيداع، ورست هويّته على تعريفه مودعاً.
وحين شق الحارس الباب، ودعا العميل، القلق على بطاقته وآخر شهره وأوراقه الأربع من فئة المئة دولار، إلى دخول المكتب الذي كان يئس من وطء بلاطه وهو يرى صفوف العملاء الطويلة على بابه الموصد، لا ينكر العميل أن الشعور الذي استخفه قريب، لخجله الشديد، من الفرح. وفجأة، سرّت الدعوة القلق عنه، وتنفس الصعداء حقاً.
المربّع
واجتزت، بعدها، الجزء من الطريق الذي يؤدي بي، بعد المنعطف القريب، إلى مكان أركب منه سيارة عمومية تقلّني عائداً إلى بيتي. والمرور بهذا الموضع أو الشطر من الطريق، قبالة صخرة الروشة والمقاهي والمطاعم المطلة عليها، امتحان قاسٍ ودائم. فالمربع، المنحني إلى الشمال الشرقي من الصخرة، ويبلغ ضلعه نحو المئة وخمسين متراً، كان إلى عشية ابتداء الحروب الداخلية معرض أو مسرح عدد كبير، نحو ثمانية أو تسعة مقاهٍ- مطاعم في وقت واحد.
ونشأ هذا المربع، أو معظم مرافقه، في أوائل عقد 1960، ما خلا مقهيين- مطعمين قديمين كانا منذ الحرب العالمية الثانية مقصداً عائلياً تقليدياً و"سياسياً". وحضن، في حقيبته أو مرحلته الثانية، موجة المستخدمين والموظفين والعاملين في القطاع الثالث الجديد، ومكاتبه ووكالاته، والمدرّسين والطلاب الجامعيين والثانويين. ففي هذه السنوات، خرجت الحمرا(ء) وراس (رأس) بيروت من محليّتهما الأهلية والعائلية، واستقبلتا، على رحب وسعة، بعض نتاج الأعوام اللبنانية العشرة السابقة، الاقتصادي والتعليمي والسكاني والعمراني. وعمرت بالمكاتب والوكالات وفروع المصارف وصالات السينما والمقاهي والفنادق ومجمّعات الشقق المفروشة والحانات... وهي قطاعات الاستهلاك "الحديثة" والمتحررة من اكتظاظ كتل المدينة القديمة حول بوابات سورها المندثر.
وجمعت مقاهي المربع هذا ومطاعمه، طوال العقد السابع، صفتين. فكانت، في أثناء النهار، متطرفة، أو طرفية وبحرية، قياساً على الحمراء، وعلى قلب المدينة ووسطها. فلا يتردد إليها إلا قلة من قاصديها عمداً، وينعمون بالهدوء والعزلة. ويختلون بعيداً من العيون والفضول، أو يتحادثون من غير رقيب، في زمن كانت تخطو فيه العزلة والخلوة و"السرّية" خطواتها المتردّدة الأولى. وفي المساء والليل، كانت قبلة ساهرين كثيرين، بعضهم يداوم السهر، وبعض آخر يحتفل بذهابه المتقطّع إلى المكان الزاهي، وبعضٌ ثالث يقتصر على ذرع الأرصفة، غالباً في صحبة جماعة، ومشاهدة الساهرين من قرب، والنزهة في وسط الأضواء المتلألئة وحشد المشاة وصفوف السيارات.
وحفّ بالمربع سكن "فخم" أو "عالي التصنيف"، على زعم وسطاء الإيجار وسماسرته. وشاع طوال ثلاثة عقود، دليل لا يكذب على طبقة السكن والسكان- والحق أنه دليل على ذهنية الجمهور أولاً وعلى اعتقاده المكانات والمراتب-. والدليل هذا هو شراء ملك الأردن، الحسين بن طلال بن عبد الله، مبنى من نحو عشر طبقات، وكان العدد هذا استثنائياً، في المحلة أو الحي، عُرف بـ"بناية الملك حسين". والحق أن أثر المرتبة المفترضة في التردّد إلى مرافق الجزء المتقدّم (صوب البحر) من رأس بيروت كان ضئيلاً. فلم يفُق سعر ارتياد أي من هذه المرافق نظيره في المحلات القريبة الأخرى. ولم يُحمّل المتردّد ريع مكانة اقتصرت على المقيمين ونزلاء الفنادق ومؤجّري الشقق المفروشة، قبل أن يلحق بهم سمّار الليل في حانات تأخّر افتتاحها عن المقاهي والمطاعم نحو العقدين.
المفترق
يقوم فرع المصرف الذي يتولى معاملاتي المالية، وأولها توطين راتبي الشهري منذ أن عُهد إلى المصارف وليس إلى معتمدين يسلمون الراتب كله نقداً باليد، بصرف رواتب الموظفين الحكوميين، في الطبقة الأرضية من مبنى عالٍ تطل شرفاته العريضة والمخضوضرة على البحر والأفق. وكان بجنبه مبنى آخر يعود تشييده إلى العهد الأول من توسّع المحلة، ويقوم على زاوية الشارع الذي يحاذي الشاطئ، بين الرملة البيضاء جنوباً أو عين المريسة والزيتونة شمالاً وشرقاً، والشارع الآخر القادم من فروع رأس بيروت: الحمرا فالسادات فشارع أستراليا، وقريطم (الغربي)، وساقية الجنزير (الغربية) القادم منها أو الرائح إليها، طبعاً.
"خرجتُ من فرع المصرف فرِحاً وخجلاً بعض الشيء بفرحي وسروري... ومصدر الاثنين، السرور والخجل، هو أن فرع المصرف رضي أن يفتح بابه، ولو موارباً في أول الأمر، ثم قبِل حارس الباب... السماح لي بالدخول إلى عقر المصرف"
والمبنى الآخر، على مفترق الشارعين، أراده مشيّدوه زينة، على نحو إيطالي ومصري ربما. وطلوه بكلس زهري ساطع، وبنوا مدخله على شاكلة فاصلة كبيرة في المرآة، ضعيفة الانحناء المائل إلى يسار الداخل إلى المبنى، وشديدة الاستدارة إلى يمينه. واعترضت الواجهة، أمام الشرفات المتأخرة قليلاً، شبكة أعمدة هزيلة تُخيِّل أو تشبه القناع أو الخمار. فكان المنعطِف يميناً من أمام المبنى يمر بمقهى- مطعم نمساوي الأثاث، على قول الإعلان عنه، ويستقبله مقهى- حديقة، على الزاوية المقابلة، يضاء ليلاً إضاءة خافتة وداخلية (داخل الشجرة القصيرة والعبية) تترجّح بين الحانة وبين الغابة المسحورة.
ولما انفجرت "الحرب اللبنانية"، وهي مفترق حروب ونزاعات كثيرة المصادر والدوائر، أصابت المفترقات- مفترقات الجماعات والطرقات والسياسات والدوائر والتواريخ- أول وأشد ما أصابت. ولم تحتَجْ الجماعات المسلحة إلى نصب حاجز ثابت على مفترق المقهيين- المطعمين- على خلاف قوات الردع السورية التي رفعت حاجزاً مشهوداً ومعمّراً في الموضع. واقتصر الأمر على قذائف هاون قليلة، سقط معظمها في البحر القريب، وعلى حاجز جَوّال أو زائر، لكي ينفض القاصد (على وزن السامر والساهر والحاج) ويتفرّق. ويبدأ المفترق القريب من المصرف رحلة تردّيه وإسفافه.
وتباعاً، أغلقت مرافق المربع أبوابها ليلاً، ثم أرفقت الغلق الليلي بتضييق ساعات الاستقبال النهاري وحصرتها بالغداء. وقلّصت أصناف "الخدمة"، من طعام وشراب. وتقطّع وصول طاقم العمل من أماكن بقلب بيروت أو أطرافها. وهجر العاملون، شأن الزبائن، المدينة كلها. ورحل الأجانب، عرباً وغربيين وآسيويين.
ومهّدت هذه المراحل إلى صنف آخر من حياة معلّقة. فتقلّص الدم الذي يسري في الشرايين والأوردة، وخفّ النبض وتقطّع، وبان الشحوب وترجّح بين امتقاع اللون وبين نوبات لون عابرة. وبدا المكان كله، بمبانيه المنكفئة والساكتة، ومحاله المعتمة والمردودة الأبواب والستائر، وطرقاته العارية الإسفلت، والمارة الذين يشبهون الأطياف في الليل والنهار، وحاجزه الأمني الطافي شراعاً ممزقاً على بحر راكد- (بدا) مهجوراً ونازفاً، تحسّباً لتهديد كامن ومبهم أعقب عاصفة لم يفق المكان وأهله بعد من وطأة هبوبها.
أطوار الغلق
ودامت حياة المربّع، ومبانيه ومقاهيه ومطاعمه وفنادقه، المعلّقة والشاحبة على الحال هذه "أعواماً". وقياس دوام الحياة، في مثل هذه الأماكن وفي مدن وبلاد "تعمل" حروب الأهل في أحشائها، بالأعوام، أو بأي معيار زمني آخر، إنما هو من قبيل التمثيل أو الاستعارة. فالوقت، في الأثناء، وفوق ما هو عليه في أحواله "القويمة"، عليل، ومتهافت، يتكئ متهالكاً على عكّازين خشبيّين مرممين. وشيئاً فشيئاً، ألقى الجسم الحي والمأهول بعض أجزائه الميتة أو المتخشبة على الرصيف، أو أمام ستارة حديد أنزلت على محل سابق، أو على شرفة أرضية سابقة.
فأحد المرابع المتصلة بالطريق العام والمطلة على البحر، من غير اضطرار إلى اجتياز الطريق إلى الجهة البحرية، أسدل ستائره المخمل والقانية الحمرة خلف واجهته الزجاجية العالية، وأبقى بعض طاولاته، وحولها كراسٍ أو مقاعد من قش مشبوك، وعلى الكراسي طراحات محشوّة بالقطنِ على الشرفة، نهباً للهواء والغبار ورطوبة الليل والبحر، قبل المطر الوشيك، ورحل. وفي اليوم الثالث، أو قبله، حمل مارة المتروكات المشاعة هذه. وفي اليوم التالي، كسر مارة آخرون، أو بعض السابقين، موضعاً من الواجهة الزجاجية، وفتحوا فيها كوّة لم تلبث أن اتسعت، واستوت مدخلاً حراً إلى الداخل ومحتوياته.
وتعاقبت فصول "الإقواء"، على قول الشاعر في "دار مية بالعلياء والسند"، على مرافق هذه الناحية من مربّع الروشة. فالمقهى- الحديقة أُخلي من مصابيحه وطاولاته وكراسيه وآلات مطبخه. فوقفت شجراته حائرة، عارية وحيدة بعض الوقت. وعرى اليباس نواحي منها، ثم اجتاحها. وتناثرت على أرض الحديقة نفايات متفرقة: أغلفة شوكولا وبسكويت، زجاجات مشروبات غازية، أواني طعام من بلاستيك، محارم ورق، كبسولات قناني معدنية أو من فلين، وما شابه.
"المربع، المنحني إلى الشمال الشرقي من صخرة الروشة، ويبلغ ضلعه نحو المئة وخمسين متراً، كان إلى عشية ابتداء الحروب الداخلية معرض أو مسرح عدد كبير، نحو ثمانية أو تسعة مقاهٍ- مطاعم في وقت واحد. ونشأ هذا المربع، أو معظم مرافقه، في أوائل عقد 1960"
واستأنفت مبانٍ كاملة، من عشر طبقات أو نحوه، التعرّي والتفكّك هذين. فعلى مفترق قريب من مفترق المبنى اللصيق بـ"مصرفي"، تخفف المبنى المهيب والجسيم من أحد المقاهي الأوسع شهرة في المحلة، ثم من مطعم ذائع الصيت في الدور الأول، ثم من محل تصفيف شعر نسائي... وهجرت شقق مفروشة أربع طبقات كانت تشغلها. وفي الأثناء، كان انقطاع التيار الكهربائي العام أو "الرسمي" (المُضاف إلى الدولة أو "الشركة")، أو عودته الجزئية، قبل إعمال مولّدات وافدة وغير مألوفة في بداية الأمر، يتعقّب الطبقات ويغلقها الواحدة بعد الأخرى، من أعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى أعلى، من غير تمييز.
وانتهج صاحب المبنى، وهو، داوم على المجيء يومياً إلى مبناه، نهجاً مبتكراً في سياسة التقويض والتصديع. فإذا خلت طبقة، أو خلا جزء من طبقة، من شاغلها (أو شاغله)، بادر هو إلى النهب، ولم يمنع غيره منه. وفي غضون أسبوع أو عشرة أيام، كانت الإباحة تُسْلِم الجزء الخالي إلى نواته الأولى، أو هيكله العظمي ("عظمه"، على ما يقال في أعمدة الإسمنت العارية قبل بناء الجدران وتبليط الأرضيات وتركيب النوافذ والأبواب). فبقي من البناء المأهول ثمالته الفظة، ولونها الهادي المائل إلى خضرة العشب النابت في مجاري المياه المبتذلة. وبقي المبنى على حاله عقوداً. وعاد في حلة فندق فخم تتنازعه أحوال السياحة وتقلباتها.
الحاجز الآمن
وكان المبنى اللصيق بفرع المصرف أقل حظاً من المبنى الذي اختار صاحبه طوعاً تعريته. فقربه من "الحاجز السوري"، على ما كان يسمى، انتخبه هدفاً للقصف على وجهيه، الصديق والمعادي. وحمل قصفه، وهو لم يصبه مباشرة إلا مرة واحدة كانت بالغة الإقناع، جنود الحاجز على اللجوء إلى المبنى. ولم تشفع له عمارته على نمط مسرحي وديكوري. فانقسم طاقم الحاجز قسمين: وقف قسم في وسط الطريق وتولى الإشارة إلى السيارات بالوقوف أو السير، واتخذ قسم ثانٍ من مدخل المبنى مقيلاً ومستراحاً. فصفّت الكراسي والمقاعد. وانضمت إليها الأسرّة الضيقة ولحقت بها الكنبة العريضة المبقورة البطن والظاهرة الرفّاصات الصدئة والمخلّعة.
وصار المقيل منامةً ومطعماً ومقهى على بوابة المبنى، وتحت القوس. فتسلّل منه سكان شققه بعد أن حاول بعضهم التوسط لدى بعض ضباط القوات المرابطة في المربع. وكان رد الجواب الرتيب على الوساطة أن الحاجز كله، وبالأحرى الشطر المرابط منه بالمدخل ضمانة أمن مضافة للسكان.
ودام التسلّل أعواماً. ولم يحل محل المتسلّلين المنفضّين مستأجرون جدد. فنصب طاقم الحاجز، أي ضابطه الأول، نفسه وصياً على الشقق، ثم ارتأى أن يُسْكن فيها محتاجين إلى إقامة موقتة، أو إلى عمل تقتضي مزاولته محلاً للتخزين والحفظ. وغلب المحتاجون والمقيمون بالإعارة على المستأجرين الثابتين. فخلا المبنى كله للأوائل، ولم يبق من الآخرين إلى ضابط سافر ولداه إلى الخارج. وتآكلت الشرفات سريعاً، وتساقطت أجزاء منها، وتشقّقت بعض درجات السلّم، وانفكت من مكانها.
وفتح صاحب المبنى الضابط، المستأجر تحت بند المصادرة (وهو حق للعسكريين يخوّلهم الإيجار بجزء من القيمة العادية)، في شراء المبنى كله بثمن زهيد. فرد الضابط آسفاً ومعتذراً بأن التصرّف بالمبنى يعود إلى الحاجز العتيد. وصبر المالك إلى حين إخلاء الحاجز، وانسحاب طاقمه. فلما استرد ملكه عجَّل بهدمه. ولم يشأ تعبيد الساحة المستوية التي خلفها الهدم والمساواة بالأرض، واستثمارها موقفاً للسيارات سنتين، على ما يقضي قانون بلدي. وأوصى أولاده بالإبقاء على الأرض الخلاء والثمينة، في أحد أكثر المواقع في بيروت غلاءً، عقيمة ومجدبة.
وهي إلى اليوم، سبعاً وأربعين سنة غداة ابتداء المحنة، على حالها من الموات والترك. وكأن اللعنة التي حلّت عليها لم تصبها وحدها، فالحزام الذي يلفّها كله بقي بمعزل من التجدّد والإعمار اللذين دبّا في هذه الناحية من بيروت، وملآها مباني باهظة وفاخرة. وزاد الطين بلة أن محلاً لبيع الزجاج الجاهز حل مكان المقهى- الحديقة من قبل. ويرمي المحل نفاياته، أي دهونه وزيوته وعظام طيوره وبقايا زلال البيض الذي يقلي فيه أجزاء الطير وفتات الكعك والطحين، في حاويات صفت إلى جنب الطريق المنعطف من فرع المصرف و"العائد" إلى الحمرا وقريطم.
التجربة
والنفايات التي تُرمى كل يوم في الحاويات، وتملأها إلى حرفها وتفيض عنها إلى الرصيف المحاذي وإلى إسفلت الطريق، من الجهة الأخرى، احتلت المكان كله، وفشت روائحها اللزجة فيه، وغطت دهونها وزيوتها الدبقة والممتزجة بالتراب والموحلة، الرصيفَ والطريق معاً. فالماشي على الرصيف، بين حائط الأرض المتروكة المتهدّم وبين الحاويات وقذاراتها وذبابها وحشراتها المحوّمة والمجتمعة أسراباً جائعة ونهمة، يخشى الانزلاق والسقوط على طبقات الأوساخ هذه.
وليس المرور في هذه المفازة فعلاً جسمانياً وحركة مجرّدة. فالجوار القريب يسلط على المرور المحض أو المحايد معنى الاختبار والتجربة، بل والابتلاء. ولولا خشية المبالغة لقلتُ، وها أنا أقول إن ثمة شيئاً من الحساب، أو الدينونة، في الاضطرار إلى المشي على هذا "الدرب"، على ما سمّى العرب الطريق المفضية إلى الأناضول في خاصرة جبل طوروس، وهو أبكى صاحب امرئ القيس (بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه/...). فلا يعقل أن يخوض إنسي في خلاصة القذارات والأوساخ والنفايات هذه من غير ذنب ارتكبه، ولا لعلّة غير عبوره إلى مكان ترضى السيارات العمومية الوقوف فيه، وتراه مربحاً وكسباً.
فشددت كمامتي، وقايتي من الجرثومة الأشهر، على أنفي وفمي وذقني، ومشيتُ أمتار الرصيف القليلة إلى موقف ما بعد الحاويات وأنا حابس أنفاسي. ولم أضطر هذه المرة إلى المضي قدماً، قبل الحظوة بسيارة، نحو مفترق تالٍ يبعد نحو مئة متر، وتلتقي عنده سيارات قادمة من أربع طرق. وقف السائق من تلقائه وهمّ بالسؤال، وهو يحني رأسه الأشيب ووجهه النحيل علامة على الانتظار، عن وجهتي. ولم أنتظر جوابه المتوقع في "السهلة" (المكان الفسيخ والخالي) المقفرة تقريباً، رغم توسّطها ثلاثة فنادق ومطاعم ومقاهي في عز النهار.
واستقبلني حال جلوسي، أو قبله، بالاحتجاج على خلو المكان من "الناس". وترجح مَن يعنيهم بالناس، وهم الركاب. وكرر- وهو جالس متكئاً على باب السيارة، وموارباً قعوده قليلاً، وذراعه اليسرى العارية على حرف الباب، ويسند رأسه إلى كفه، وينقّل عينين محمومتين من غير احتقان بين وجهي وبين الطريق ومنظرها- كرر: أين الناس؟ أين هم؟ وأجال بصره سريعاً، مراتٍ، فيَّ وفي دائرة نظره المتحركة-. وبدا عصبياً. ولكن عصبيته، مثل سؤاله، لا تتوجّه إلى الغير أو إلى الخارج. فهو يكلّم نفسه في حضور مَن يحضره، ويجلس في مقعد إلى جنبه، أو يمر به في سيره.
الناس
وبرزت علامات نحوله وطوله، في قميصه الزرقاء والقصيرة الكمّين واللصيقة بصدره والسافرة عن ذراعيه ورقبته، تدريجاً. وليس معنى هذا أن نحله وطوله استثنائيان، إلا أنهما غريبان بعض الشيء في مهنة تقتضي قعوداً طويلاً، وقلما يصادفهما، في غير الشبان المبتدئين والهواة، من اعتاد التنقّل في سيارات الأجرة. فجمع السائق الأشيب مظهراً فتيّاً إلى كهولة لا شك فيها، تنمّ بها قسماته المتعبة والحزينة.
وطوال الطريق، من الروشة إلى كركول الدروز- اسم المحلة التي تتوسط غرب بيروت، وتتربع، قبالة هضبة الأشرفية (الشرقية)، في رأس الهضبة المشرفة على أحياء المنحدرات والسفوح- لم يكلّ السائق عن إلحاحه في السؤال عن "الناس"، والتلفّت بحثاً عنهم، وملاحظة المارين فُرادى في ناحية من النواحي الكثيرة التي نعبر بها، والإنحاء بلومهم على استنكافهم عن ركوب سيارات النقل العمومية. وكان يختم الجولة من جولاته باستدراجي، أنا الراكب الوحيد، من غير كلام ولا تمهّل في انتظار جواب، إلى مماشاة سؤاله القلق عن "وجود" الناس.
وفي الشطر الأخير من الطريق، عندما تبلغ السيارة محلة المنلا (وتُلفظ المَلّا) المفضية إلى كركول الدروز، يكثر المارة على الأرصفة، وينزل الناس من الأبنية الكثيرة التي تحف بالشارع إلى المحال في أسفل الأبنية، وتضطر السيارات إلى السير ببطء، ويجتاز المشاة الطريق غير عابئين بالسيارات ويملون عليها التمهل أو الوقوف. فسكت السائق عن سؤاله، وأقام على قلقه واضطرابه، واستمرت عيناه على جولتهما وتنقّلهما بين الرائحين والغادين، وبين المواضع والأبواب والمحال والشرفات القريبة، والعودة منها إليَّ.
وفي موضع من الطريق، بين فرع مصرف كبير وبين محل سمانة وبقالة مشهور، يرتاده أهل الحي ويزعم السوّاقون المغتاظون من زحام لا يعود عليهم بزبائن ويسد الطريق، أنه يرشو الشرطيين فيغضّون نظرهم عن وقوف آلات المتسوّقين كيفما اتفق- لم يسع السائق إلا الثبات في مكانه، ثم السير سنتيمترات قليلة قبل العودة إلى "الجمود". وتضطر المزاوجة هذه السواقين إلى قضاء نحو ثلاث إلى خمس دقائق في سبيل اجتياز خمسين متراً تقريباً. وبينما يحاول السائق الصامت والمقيم على تنبّهه استئناف سيره توسطت الطريق امرأة فارعة الطول، في جلباب أسود فضفاض مثل عباءة، وفي يدها اليمنى عكّاز ترفعه لتشق طريقها وتلوح به يساراً ويميناً، ولا تسند طرفه المطاط إلى الأرض.
ولم يبدر من السائق، وهو على بعد شبرين من المرأة وعصاها المرفوعة صوبه، وصوب مقدّم سيارته، أنه ينوي الوقوف. ولم ترجع المرأة إلى الخلف خطوة كانت، لو خطتها، تتيح مرور السيارة، والخروج من الزحام المطبق عليها. فأدارت المرأة نحونا وجهاً مغضباً، صحراوي القسمات والحدّة والسُّمرة، وضربت بطرف عصاها غطاء المحرّك. ووجّهت العصا، وهي تجتاز بقية الطريق إلى الرصيف القريب، إلى الزجاج الذي يجلس السائق، وأنا معه، وراءه، متوعّدة مهدّدة.
والتفتُّ إلى السائق منبّهاً، وخائفاً نصف خوف، إذا جازت القسمة في هذا المعرض، ومستطلعاً ما يفعل، ولماذا يفعله. وسألته: ألا يرى المرأة؟ أأراد فعلاً دهسها أو "خبصها"؟ فوجدته مرتبكاً ارتباكاً شديداً، ويغمغم كلاماً أو مقاطع صوتية غير مفهومة، يكلّم نفسه، وجسمه يتداعى بعضه على بعض، ويسند صدره إلى المقود متهالكاً لحظة خاطفة. وإذا عاد واتكأ بظهره على ظهر المقعد، وجلس مستقيماً تقريباً، لم ينفك مشيحاً نظره المعتم عني وعن جهتي كلها. وسكن اضطرابه وقلقه، وحلّت محلهما خيبة لا شاغل لها من "الناس".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...