هناك، في مديرية سيان، جنوب محافظة إب، في وسط اليمن، حيث جبل "التعكر" الذي يرتفع ثلاثة آلاف متر فوف سطح البحر، ويضم في طياته مئات القرى والحصون والقلاع والمدافن القديمة والأودية الواسعة، ما زال صدى كرامات "صاحب المطر"، يتردد في الأرجاء.
جيلاً بعد جيل، قصد الناس آل العاشة، طالبين عون الجد الأكبر، ثم من بعده الابن فالحفيدة، ليستدعوا لهم الغيوم، وينقذوا بالأمطار حقولهم وبساتينهم من العطش والموت.
يروي محمد قايد (72 سنة)، كيف كان الجد أحمد العاشة يجلس في تسعينيات القرن الماضي، في أحد الدكاكين في سوق الثلاثاء، في حي المرباع في مدينة القاعدة التابعة لمحافظة إب، مع الناس القادمين من مختلف مناطق المحافظة، فضلاً عن تعز، والذين يتزاحمون حوله ليمنحهم المطر، مقابل كيس من الحبوب أو قليل من المال.
تنقبض ملامحه المليئة بالتجاعيد، وهو يستعيد تلك الذكريات ويقول: "كنّا نقصده بصفاء قلب، والله يحقق أمنياتنا من خلاله ويتساقط المطر".
ويذكر قايد أن أحمد العاشة، أو كما عرفه الناس بـ"صاحب المطر"، كان ذا شعبية واسعة طوال أربعين سنةً من عمله في استدعاء الغيوم، حتى وفاته في أواخر التسعينيات، ويفسر ذلك بقوله: "كان الناس طيبين، وبفطرة سليمة".
يُفرج عن ابتسامة ويهز رأسه وهو يقول: "لقد كنتُ واحداً منهم".
يرفع محمد علي (65 سنةً) إصبعه عالياً كأنه تلميذٌ يستأذن للحديث: "أنا أيضاً!"، يسود الصمت قليلاً ثم يقطعه متابعاً: "كنت أقصد ابنه عبد الجليل عاشة في منزله في قرية الجرذم في منطقة النقيلين، لكن في الصباح الباكر أو المساء، كيلا يرصدني القرويون الفضوليون"، مشيراً بذلك إلى أن السكان نظروا إلى العاشة الابن، نظرةً مختلفةً عن الأب، إذ صاروا يعدّونه مشعوذاً.
ويذكر محمد علي أنه كان يخرج من عند العاشة بفرح غامر، لأنه كان واثقاً من أن المطر سينزل على حقول القات الخاصة به في وادي مُقيفع.
"ماذا أفعل؟"، يقول لرصيف22، وهو يمد كفيه الضخمين أمامه: "كان هذا قبل سنوات. اضطرني الجفاف إلى فعل ذلك. آبار القرية المحفورة يدوياً تضاءل ماؤها، وأشجار القات في حقولي، والتي وصل عمر بعضها إلى نصف قرن، كانت على وشك الموت".
هكذا يبرر لجوءه إلى مَن يصرّ على وصفه بـ"صاحب المطر"، على الرغم من أنه سمع كثيراً أقوالاً عن أنه "دجّال". يضع يده على صدره كمَن سيردد قسماً: "أعطيته ذات مرة خمسين ألف ريال، وأمرني بأن أنتظر دوري عصر اليوم التالي، وبالفعل جاء المطر في الموعد المحدد!".
لم تكن تلك المرة الأولى التي يستنجد فيها الرجل بقدرات العاشة الابن، إذ يؤكد أنه ذهب إليه مراراً وتكراراً، وكان يصدق معه دائماً. ثم يستدرك: "ليس دائماً دائماً، ولكن أغلب المرات".
محمد علي ليس وحيداً في اعتقاده. يشاركه فيه رجال من قريته التي تبعد عن منزل العاشة خمسين كيلومتراً، وكانوا مثله من أصحاب حقول القات وقلقين من مرور الشتاء القاحل عليهم (تسقط الأمطار في اليمن بكثرة خلال فصل الصيف). هؤلاء الرجال قاموا أكثر من مرة بجمع مبالغ من المال ليعطوها للعاشة من أجل المطر.
"صاحب المطر"
لا أحد في تلك الأنحاء يعرف الآلية التي يستدعي بها آل عاشة المطر، وكل مَن زاروهما من أجل ذلك، قدّموا الهدايا وغادروا إلى منازلهم ينتظرون الأمطار. ويعتقد بعض مَن التقيناهم أن ذلك يكون بواسطة آيات قرآنية وأدعية مع طلاسم يكتبونها ثم يحرقونها كما يفعل المشعوذون عادةً، لكن لم يؤكد أي منهم أنه رأى شيئاً بعينيه.
تتوالى القصص حول ما يُسمى "كرامات" صاحب المطر. يسرد محمد أحمد (55 سنة)، من سكان قرية القريعاء، واحدة منها. يقول لرصيف22 إنه شاهد عيان على قدرات العاشة الأكبر أحمد، وإنه حاول في موسم صيفٍ قلّت فيه الأمطار إقناع أهل قريته بجمع المال والذهاب به إلى العاشة ليرسل إليهم المطر.
وافق البعض، لكن البعض الآخر من المتشددين دينياً هاجموه، وصار موضوعاً لخطبة الجمعة في ذلك الأسبوع، فنصحه بعض أصدقائه بالتواري في منزله عن الأنظار، لأسبوعيين متتاليين على الأقل، أو ترك القرية حتى لا يتعرض لمكروه.
يمرر يده على جبهته، ويقول بحيرة: "قبل العاشة الأب، كان سكان القرى يذهبون إلى قبر الولي علي بن سالم، الكائن في مسجده في قريتنا، وكانوا يأخذون معهم عجلاً يذبحونه ثم يوزعون لحمه على النسور ويعودون أدراجهم، فيسقط المطر حتى قبل وصولهم إلى بيوتهم".
"قبل العاشة الأب، كان سكان القرى يذهبون إلى قبر الولي علي بن سالم، الكائن في مسجده في قريتنا، وكانوا يأخذون معهم عجلاً يذبحونه ثم يوزعون لحمه على النسور ويعودون أدراجهم، فيسقط المطر حتى قبل وصولهم إلى بيوتهم"
يفكر برهةً، ثم يضيف بجدية تامة: "المتشددون أنفسهم منعونا من الاستسقاء عند الولي علي بن سالم، كما فعل آباؤنا وأجدادنا، وأيضاً منعونا من التوجه نحو العاشة لاستجلاب المطر!".
"العاشة"، بحسب عدد من سكان جبل التعكر، هو كيس دهني ينمو في ظهر الإنسان، وكان للجد أحمد واحد في ظهره، لذا لقّبه الأهالي بالعاشة، فصار لقباً عائلياً متوارثاً. وهنالك عائلات مشابهة في عموم مناطق اليمن، يعتقد الأهالي أنها تملك قدرات يصفونها بالخارقة.
ويعزو المتخصصون في علم الاجتماع لجوء الناس إلى أشخاص كالعاشة، من أجل قضاء حوائجهم، إلى الجهل السائد، واستغلال ذلك من قبل مشعوذين يقدّمون أنفسهم في الغالب كرجال دين، ضماناً للقبول بسبب طبيعة أهل المناطق الريفية اليمنية، الملتزمين دينياً.
وللمختص بالموروث الشعبي اليمني ناصر الدبا رأيه الخاص في ذلك. يقول لرصيف22: "مثلما ترسخت العادات والتقاليد الاجتماعية في اليمن، ترسخت كذلك معتقدات اجتماعية معيّنة، كالاعتقاد بامتلاك بعض الأشخاص كرامات تمكّنهم من إنزال المطر".
ويلفت إلى أن لكل منطقة يمنية معتقداتها الاجتماعية المتوارثة، وهي تختلف عن "العادات والتقاليد الاجتماعية والأعراف القبلية في اليمن". ويوضح: "المعتقدات لا يُلام معتنقها ولا يُعاب تاركها، بخلاف التقاليد. فعلى سبيل المثال، كشف عائلة العروس النقاب عن وجهها، عقب وصولها إلى منزل عريسها، تقليد اجتماعي متّبع في أغلب المحافظات اليمنية، ويُعدّ تركه معيباً".
كرامات إلهية أو أوهام؟
ما زال البعض في قرية عميد، في محافظة إب، يتداولون قصصاً عن تحريك العاشة الابن للسحب المثقلة بالأمطار، صوب قريتهم، بعد أن طلب منه ذلك وفدٌ من رجالاتها.
لكن أحد سكان القرية، وهو محمد مصلح (62 سنة)، لديه رأي مغاير. يقول لرصيف22 إنه كان يملك سيارةً تويوتا من طراز "هايلُكس"، وطلب قريب له اسمه عبد الحميد قاسم، ذات يوم جمعة قبل سنوات، أن ينقله بها على سبيل الأجرة لكي يتداوى بالقرآن عند العاشة عبد الجليل، في قرية الجرذم.
هناك، وبينما هو ينتظر عودة عبد الحميد من منزل العاشة، أدرك من خلال نظرات الازدراء التي يوجهها إليه سكان القرية العابرون، أن شيئاً خطأً يحدث، وبعد ساعتين من الانتظار عاد عبد الحميد سعيداً، وأعلن عن هطول الأمطار في قريتهما خلال اليوم التالي.
كان يزور "صاحب المطر"، ويمنحه العسل والسمن والبخور والمال مقابل المطر، و"الذين كانوا يبخلون على العاشة بالفلوس والعسل والسمن والبخور، كانت السماء تمطر بَرَداً على قراهم"
يقول محمد مصلح: "لقد خدعني، لأنه لو أخبرني بالحقيقة قبلها لما كنت أوصلته بسيارتي حتى لو دفع لي مثل ثمنها أجرةً". كان عليهما في ذلك اليوم أداء صلاة الجمعة في مسجد قرية العاشة، وبعد فراغهما منها، لم يدعُهما أحد للغداء في منزله كما هو معتاد في قرى اليمن المعروفة بضيافة الغريب كتقاليد متبعة.
يوجّه مصلح سبابته إلى رأسه، ويضيف: "هنا تأكدت من أن أهل القرية يكرهون ما يفعله العاشة، ولا يثقون بكل مَن يأتي لزيارته".
أما قريبه عبد الحميد قاسم، فدافع عن نفسه وكال المديح للعاشة، وذكر أن تلك المرة لم تكن الأولى التي يزور فيها عبد الجليل، الذي وصفه بـ"صاحب المطر"، فقد فعل ذلك مرات عديدةً وكان يمنحه العسل والسمن والبخور والمال مقابل المطر.
ليس هذا فقط، بل كان يطلب منه أن يجنّب حقله تساقط البَرَد، مع المطر، كيلا يتضرر محصول القات، ويقول بإيمان تام: "الذين كانوا يبخلون على العاشة بالفلوس والعسل والسمن والبخور، كانت السماء تمطر بَرَداً على قراهم".
وينتقد رجال الدين في قريته والقرى الأخرى، الذين كانوا يتهمون العاشة بالدجل والشرك بالله، مؤكداً أنهم كانوا يفعلون ذلك تبريراً لعجزهم: "لأنهم لو كانوا صادقين في أدعيتهم على المنابر، لكان الله استجاب لهم وأنزل المطر، لكن العاشة كان دعاؤه مستجاباً ولديه كرامات إلهية، لأنه صادق مع الله أكثر منهم".
ويعبّر عبد الحميد عن شعوره بالأسف لأن العاشة عبد الجليل توفي، ويقول إنه لم يزر ابنته التي خلفته في الأمر ذاته، لأنه لا يتوقع أن تكون مثل أبيها.
وكان عبد الجليل عاشة، قد توفي قبل ثماني سنوات في حادث سير مروع في منطقة شبان. كان يومها في طريق عودته إلى قريته من حفل زفاف شارك فيه في مدينة إب، عندما مالت شاحنة كبيرة محمّلة على سيارته، ليُقتل في الحال مع أربعة آخرين كانوا معه في السيارة.
ويذكر أهالي قرية الجرذم أن ابنته محصنة، أصبحت هي صاحبة المطر من بعده، وتمارس ما كان يفعله أبوها وجدّها بسرّية تامة، بسبب الأوضاع التي يعيشها اليمن في الوقت الراهن، والإجراءات الحازمة التي يتخذها الحوثيون ضد مَن يمارسون أعمال السحر والشعوذة، مع أن كثيرين في اليمن يؤمنون بأن إنزال المطر لا يدخل ضمن التصنيفين، بل هو من "الكرامات الإلهية التي لا يهبها الله إلا للمصطفين الأخيار من خلقه، وليس لكل مَن هبّ ودبّ".
ويؤكد محمد ثابت (35 سنةً)، ويسكن بالقرب من منزل العاشة، أنه سمع من والده أن الكثير من الغرباء كانوا يأتون لطلب المطر من أحمد العاشة، ومن بعده ابنه عبد الجليل، وهو شاهد على أن ذلك يحدث مع الحفيدة كذلك، وأن أغلب أهل المنطقة ينظرون إلى الأمر بعين السخط والسخرية، لأنهم يعتقدون بأن استجلاب المطر ولقب صاحب المطر أو صاحبة المطر، عبارة عن "خزعبلات وشعوذة" وفقاً لما عبّر عنه باستياء.
لكنه لا ينكر أن العاشة الأكبر وابنه كانا متفانيَين في خدمة أهالي القرية، ولا يدّخرون وسعاً في مساعدتهم واتّصفا بالاحترام والأخلاق.
ويضرب يداً بيد فجأةً، ويقول بصوت عالٍ: "لكن ما كانا يفعلانه حرام، فإنزال المطر من عند الله وليس من عند البشر".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...