حياكة الكلام
كان أمل دنقل شاعره المفضّل، ولم يقصّر معه أبداً، لقد أخبره بكل شيء: "إن الطيور مُعلّقة في السموات وليس لها أن تحط على الأرض، والطيور التي لا تطير، طوت الريش واستسلمت.
ما الذي يتبقى لها غير انتظار النهاية، وأن تحتوي الأرض على جثمانها في السقوط الأخير...".
لكن فايز لم ينتبه له وقرّر أن يسدّ أذنيه، ليبدأ طريقه إلى النهاية.
الحذاء
"كفّاره يا فايز!".
قالها لنفسه ليهدأ من روعها، فقد كان الجوّ متقلب المزاج هو الآخر، تارة دافئ وتارة قارس البرودة، ولكن هذا لا يشكل فارقاً كبيراً بالنسبة إليه، فهو مدرس اللغة العربية سابقاً وخريج السجن حالياً، وهذا يعني أن كل الفصول لديه سواء، وقد تمرّن منذ زمن أن يعتاد كل شيء ولا يتذمر، لكن حذاءه المقطوع كان يصدر صوتاً مزعجاً كلما احتكّ بالأرض، ما دفعه ليتوقف، رافعاً رأسه ناحية السماء متوسلاً: "كل ما أريده هو اليوم... اليوم فقط"، فقد طال انتظاره عشرين عاماً وثلاثين يوماً من أجل هذه المقابلة، وقد تأجّلت ثلاث مرات من قبل دون إبداء أي أسباب واضحة، وها هي المرة الرابعة ولا يوجد سبب أقوى من الطقس السيء لتأجيلها هي الأخرى.
لكنه قرّر ألا يستسلم، وأخذ يحثّ الخطى باتجاه محل الإسكافي الذي صارحه بالأمر... أن حذاءه يستدعي وقتاً لإصلاحه ولن يتسلّمه فوراً.
تنهّد حائراً لا يدري ما العمل، فعرض عليه الإسكافي أن يعطيه حذاء قديماً لديه، نظيفاً وذا نعل قوي، رغم أنه أصغر من مقاس قدمه نمرة واحدة، لكن فايز قبل على الفور، لأنه ظن أن بإمكانه تحمُّل ذلك الضيق، وانطلق ليكمل المسير باتجاه غايته.
المدينة
سار في طرقات المدينة مذهولاً، كم تبدلت! لطالما حفظ معالمها وطُبعت في ذاكرته، لكن لم يعد لها وجود الآن، وكانت هناك أشجار على طول هذا الطريق،كيف جرفها الزمن من جذورها؟
كاد اليأس يتسلّل إلى قلبه، حتى وقعت عيناه على رجل يحمل طفلاً، تتحرك شفتاه بحروف كلمة "بابا"، فعاد إليه الأمل، وذلك هو الشيء الوحيد الذي تمسك به طوال سنواته الماضية، ألم يأمل أن يسامحه ضحيته، ويقبل الله توبته؟ وها هو الآن في براح الدنيا حر، فكيف لا يأمل أن يتقبله ابنه من جديد؟
كان أمل دنقل شاعره المفضّل، ولم يقصّر معه أبداً، لقد أخبره بكل شيء: "إن الطيور مُعلّقة في السموات وليس لها أن تحط على الأرض، والطيور التي لا تطير، طوت الريش واستسلمت، ما الذي يتبقى لها غير انتظار النهاية، وأن تحتوي الأرض على جثمانها في السقوط الأخير..."... مجاز
اطمأن قلبه لهذه الفكرة، وتمسك جيدا بألبوم الصور ذي الغلاف الأحمر، ذكرياتهما سوية وكل ما بقى لديه من حياته السابقة، وأكمل طريقه حتى وصل إلى المطعم المتفق عليه، ودون تردد، دخل ليخطو خطوته الأولى باتجاه حياته الجديدة، أو هكذا كان يأمل كعادته.
الانتظار
تقدم باتجاه منضدة منفردة بكرسيين، موضوعة في الركن وتعلوها نافذة مفتوحة، كانت الاختيار الأمثل لفايز حتى يمارس هوايته التي اعتادها، أن يراقب كل تفصيلة، حركة، إيماءة، يصل الخطوط ببعضها ليكوّن صورة واضحة عن الحكايات والأشخاص، وكانت تلك إحدى هبات السجن إليه: الوضوح، فهذا قاتل، وهذا تاجر مخدرات، أما ذاك فشاب طائش يضرب كل من تطال يده، وهكذا لا يمكنهم الكذب على بعضهم، والأهم على أنفسهم، وربما ذلك ما ساعده على تقبّل نفسه وأخطائها ومصالحتها بعد معاناة.
تذكّر ألم قدمه المختبئة في حذاء لا يسعها، وأخذ يحرّكها مراراً ليريحها قليلاً، وحينها لاحظ سيارة فارهة تركن بالخارج، خرجت منها امرأة تشبه زوجته السابقة، ثم دخلت إلى المطعم ودقّقت النظر في كل الموجودين، حتى وقعت عيناها عليه. نهض فايز مندهشاً، إنها نجلاء، طالها التغيير هي الأخرى، وصارت أنحف وشعرها أطول، جميلة حقاً رغم أنها شارفت على الخمسين، لكنه شعر أنها غريبة بالنسبة له، فحاولت أن تزيح الحاجز بينهما، وربتت على كتفه لتخبره أنها سعيدة بعودته، ثم تساءلت عن أحواله، فلم يعرف بما يجيب، لكنه قال: "بخير، ما زلت حياً".
تبادلا الابتسامات ولم يكن هناك شيء ليقال، فنهضت وهي تخبره أنها ستدعو كريم، وقبل أن تتحرّك أباحت بما في صدرها: "لدي طلب واحد يا فايز، ألا تضغط عليه"، وخرجت تاركة إياه غارقاً في تساؤلاته، فلماذا يضغط عليه من الأساس؟ لم يفهم، لكنه راقب السيارة بالخارج حتى خرج منها ابنه.
تأمّله جيداً. كان يشبهه بملامحه الحادة وبشرته الخمرية، غير أن قامته أطول قليلاً بجسد ممشوق، لا يقارن بجسد فايز المتهدل الذي أخذ يراقبه بلهفة الأطفال، وبعدما ظن أنه ظفر بغايته أخيراً، خانه قلبه، تسارعت دقاته واجتاحت جسده برودة لا يتحملها. لقد تركته تلك الحالة منذ سنوات، فلماذا تعود إليه الآن؟! تلفت حوله باحثاً عن مخرَج، فلم يجد إلا الحمّام، المكان الوحيد الذي يصلح للاختباء.
غريبان في الحمام
أغلق خلفه الباب بيد مرتعشة، ضمّ جسده بشدة لعلّه يطمئن، لكنه كان يأبى، متذكراً كم المرات التي لاحقه فيها الخوف، كأنه كلب مسعور يضيق الخناق على فريسته، وللمفارقة أنه كان يخاف دوماً أن يصبح فريسة لأحد الكلاب، وكلما رأى أحدهم في طريقه، كان يتراجع ويلف من أي شارع جانبي، لكن السجن لا يملك أي طرق جانبية، فكان الخوف يحكم قبضته حوله حتى يقع مغشياً عليه وسط السجناء، لكنه هنا، في هذه اللحظة، لا يريد أن ينفصل عن العالم، ولن يقبل أن يراه ابنه ضعيفاً بجسد منزو في ركن الحمام.
حاول أن يتماسك، وأخذ ينظّم أنفاسه وهو يغسل وجهه مرة تلو الأخرى، وحينها فُتح الباب ودخل أحدهم ليقف على الحوض الآخر بجانبه. رفع وجهه ليكتشف أنه كريم، تسّمر لعدة لحظات، فقد كان هو وابنه يتجاوران، يلتصقان ببعضهما، لا تفصلهما أي مسافة، ورغم ذلك كانا غريبين تماماً.
كان يعلم تماماً أنه مذنب، وعاش سنواته الأولى في سجنه مرعوباً، يصلي ليلاً نهاراً، يصحو في الليل بجسد مرتعش، لا يصدق أنه فعلها!
حاول فايز أن يسترق النظرات إلى وجه كريم العابس وفمه الذي يتحرّك بكلمات لا يسمع منها إلا "مقرف!" فلم يفهم، هل هو هذا "المقرف"؟ أم المقابلة؟ أم صنبور المياة الذي يحاول كريم فتحه ولا تنزل منه أية قطرة؟
أخذ يضرب الصنبور بيده غاضباً حتى اندفعت المياه فجأة، وتناثرت قطراتها عليهما سوياً. تسمّر في مكانه مندهشاً مما حدث، والتفت ليعتذر من فايز الذي ظهر على وجهه ضحكة مكتومة، ارتاح لها كريم وسايره في الأمر، ثم انفجرا يضحكان سوية على الموقف.
أخرج فايز من جيبه منديلاً وناوله إياه، فمسح ملابسه وشكره ثم خرج.
كاد فايز أن يتبعه ويحضنه مزيلاً الحواجز، لكنه انتظر متسائلاً، كيف لم يتعرف عليه؟ هل نسيه تماماً؟ لكن عندما واجه انعكاسه في المرآة، وصلته الإجابة، فقد طبع السجن علاماته فوق ملامحه، وزاد اسمرار بشرته، وعيناه أصبحتا أضيق من الضيق ذاته، وفقد شعره فصار منحولاً يخبئه تحت قبعة ليظهر بشكل أكثر قبولاً، حتى أنه لم يكن يحب أي شيء يلامس رقبته، كان يراوده شعور الاختناق دوماً، لكنه اليوم ارتضي أن يرتدي بلوفر برقبة، ليخفي علامة الجرح القديم عن ابنه.
هكذا كان متنكراً. تنهد طويلاً متأملاً نفسه، ثم قال: "لم يعد هناك وقت للاختباء يا فايز. تحرّك".
الصمت
حينما جلس على الكرسي، أخذ كريم يتلفت حوله مستغرباً ليفهم أن ذلك الغريب الذي قابله في الحمام هو نفسه والده، فارتسمت على وجهه نظرة لا مبالاة، وأخذ يتأمل فايز بوجه مصمت كتمثال خال من أي مشاعر، على عكس فايز الذي تهلل وجهه بابتسامة بلهاء لم يستطع أن يمسحها، ثم حاول أن يبدأ الحديث قائلاً:
- أرأيت؟ لقد تعرفت عليك وحدي، لكنك لم تعرفني
- تبدلت ملامحك...
- أخبرتني أمك أنك درست الحقوق
- أممم
قالها وهو يحرك رأسه بإيماءة سريعة. لم يرفع نظره عن عين فايز أبداً، الذي بدأ القلق يدبّ في قلبه كأنه عاد إلى مكتب التحقيق من جديد، ولكنه حاول مجدداً وفتح ألبوم الصور ليخبره أنه كان يتخيّل دوماً كيف سيصبح شكله حينما يكبر، وأخذ يحكي له حكاية كل صورة، هنا في الترام الذي طالما أحبه كريم، وهنا أول يوم في المدرسة، وهنا حينما ذهبوا لشاطئ البحر سوية، ولعب كرة القدم في الشارع، وحديقة الحيوان... لكن كريم كان يتأمل الصور بعدم اكتراث، وأزاح وجهه ناحية الشباك، ثم قاطعه مسرعاً
- ماذا تريد؟
- ماذا تعني؟
- ألم تطلب أن تراني؟ أنا هنا، فماذا تريد؟
- ألا يكفي أن أريد رؤيتك؟
- أتدري، أنا أيضاً كنت أحتفظ بصورة لك، ولم أحتج أن أتأملها، فقد طُبعت في ذاكرتي للأبد.
اهتز فايز، وأطبق عليه صمت ثقيل، فقد كان يظن أن السجن أهداه كل المشاعر التي من المفترض أن يمر بها في رحلة حياته، من حزن وخوف، نبذ وعزلة ، وحدة وعجز، ولكن أتى ابنه ليمحي كل ذلك، ويطعن صدره بسكينٍ ليُهديه شعور الجرح، جرح عميق مفتوح لن يلتئم أبداً... مجاز
ثم أخرج من جيبه ورقة جريدة قديمة، يظهر بها فايز شاباً في نهاية عقده الثالث، وكان وقتها مجرد خبر كُتب فيه: "مدرس اللغة العربية يتحول إلى قاتل بين ليلة وضحاها". لحظتها رأى فايز شريط سنوات سجنه أمام عينيه، فمن أخبرهم أنها كانت ليلة وضحاها؟ لقد كان يغرق شهوراً طوالاً ولم تمتد يد لتنقذه، تماماً كما تتلوّى قدمه من الألم داخل الحذاء، وعليه أن يتحمل إلى النهاية، فأغلق البوم الصور وأراح ظهره على الكرسي، ورفع وجهه ليواجهه.
- إذا كنت لا تريد رؤيتي، فلماذا جئت؟
- لأفهم. لماذا فعلت بنا ذلك؟ قلبت حياتك وحياتنا إلى جحيم
- بكم؟ هل أذيتك أو أذيت أمك من قبل؟!
- إذن لماذا فعلتها؟
ارتعشت شفتاه. كيف يخبره أن الإهانة كانت تنخر عظامه وتأكل لحمه، ووجب عليه فعل أي شيء للدفاع عن ما تبقى منه.
- أخطأت.
- هكذا ببساطة؟ كنت أعرف، لم تفكر إلا بنفسك.
- ربما، لأنه لم يعرني أحدهم اهتماماً.
- لا تلعب دور الضحية هذا!
- وأنت لا تحاسبني! قد حاسبتني أمك ومن قبلها القانون والمجتمع ووزارة التربية والتعليم. لقد اكتفيت.
- كيف تتحدث هكذا! أنت قاتل! هل تعي معنى هذا؟
- عشرون عاماً كانت كافية لتجعلني أعي معناها. اطمئن. لكني لست مؤذياً. أنت فقط لا تعرفني، قابلتني الآن وأنا رجل عجوز على مشارف الستين.
- لو كنت تحكمت في غضبك وقتها، لكنت أعرفك الآن. لم يكن الا موقفاً بسيطاً.
- بسيطاً؟ لقد سرقني. بقيت شهراً كاملاً لا أرفع عيني في عين أمك لأنني ببساطة لا أستطيع أن أتكفّل بمصاريف البيت. اقترضت من أجل الذهاب للعمل، كل ذلك وأنا أرى سارقي أمامي، يوماً تلو الآخر ولا أقوى حتى على رفع عيني في عينه.
- كان بإمكانك أن تأخذ حقك بطريقة أخرى.
- أى طريقة؟ من يشبهونني يا بني يذهبون إلى القانون الذي درسته، لكنه لم يساعدني فليس هناك أي دليل، رغم أنه بلطجي معروف. بقيت وحدي، وكانت فرصته ليجمع حواشيه من بلطجية الحواري المجاورة، ثم قاموا بضربي وسط الشارع. أصبحت أضحوكة. كان الجميع يشاهد، ولم يساعدني أحد.
- كل المجرمين يلقون باللوم على الآخرين.
كل المجرمين يلقون باللوم على الآخرين.
كاد فايز أن ينفجر، لكنه تراجع، وأطال النظر في عين ابنه. هل كل ما يتذكره عنه أنه مجرّد مجرم؟ لكن كريم أزاح وجهه عنه متأففاً، فأباح فايز بما في خاطره:
- أخبرني كيف تتذكرني يا بني؟ أم لا تذكرني من الأساس؟
- لا يهم! أخبرني أنت، هل شعرت بالتحسّن بعدما فعلتها؟ هل انتهى ألمك؟
اهتز فايز، وأطبق عليه صمت ثقيل، فقد كان يظن أن السجن أهداه كل المشاعر التي من المفترض أن يمر بها في رحلة حياته، من حزن وخوف، نبذ وعزلة ، وحدة وعجز، ولكن أتى ابنه ليمحي كل ذلك، ويطعن صدره بسكينٍ ليُهديه شعور الجرح، جرح عميق مفتوح لن يلتئم أبداً.
تنهّد وأخذ يقبض يده ويبسطها عدة مرات، فقد كان يعلم تماماً أنه مذنب، مُدرك لخطيئته، وعاش سنواته الأولى في سجنه مرعوباً، يصلي ليلاً نهاراً، يصحو في الليل بجسد مرتعش، لا يصدق أنه فعلها! لابد أنه شخص غيره. ولكنه هنا، تحيطه الجدران من كل زاوية، ويرتعد كلما تذكر عين ضحيته وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. دعا الله أن يغفر له. انعزل. حاصرته الكآبة. أغلق كل الأبواب. نُقل عدة مرات إلى مستشفى السجن وتمنى أن ينتهي أمره في الحال. قضى خمس سنوات يناجي ربه أن يريحه من عذاب الضمير ويموت، لكنه لم يمت.
ولكن كيف يخبر ابنه الذي يدّعي معرفة كل شيء، أنه يجهل؟ دع الأيام تأتي بما تحمله له، وحينها سيعرف حقيقة نفسه حقاً. وهنا نهض فايز واستأذنه في دخول الحمّام لعدة دقائق، وتحرك بخطوات مرتجفة ليعاود الاختباء.
الانكشاف
أغلق باب الحمام وخلع الحذاء مسرعاً، حرر قدميه اللتين يعلو أصابعهما احمرار الألم، أخذ يدلكهما بكلتا يديه. يكفيه نبضات قلبه التي لا تنمّ عن أي راحة، فماذا بعد خيبة أمله أن ابنه لا يذكره من الأساس؟ لقد قالها: "لا يهم!"، ما المهم إذن؟ فكيف لا يتذكر أن المرة الوحيدة التي استطاع فايز فيها أن يعلو فوق خوفه، كانت حينما هوجم كريم من أحد الكلاب الضالة، فاستجمع شجاعته والتقط حجراً ليقذف به الكلب ويبعده عنه.
لم يولد قاتلاً بالفطرة كما يظن، لقد كان شخصاً عادياً، يملك أحلاماً مكرّرة كغيره من البشر. لم يتمنّ إلا يوماً بسيطاً ينتهي بنوم هادئ، ثم يستيقظ في الصباح ليقوم بمهمته كمُعلم للأجيال. ربما مثاليته زائدة عن الحد، لكن ذلك ما أراده، أن يسير دون أن يعترض أحدهم طريقه، وأدرك لحظتها أنه لم يغضب قط طوال حياته، لقد أعطوه راتباً قليلاً لا يقارن بأهمية عمله ووافق على الفور.
وقف أمام المدير منتظراً أن ينتهي من توبيخه بسبب تأخره يومين عن ميعاده، ورغم علمه أن ابنه كان مريضاً وقتها لكنه لم يقو على الدفاع عن نفسه أمام ذلك المدير، وهو نفس الشخص الذي يراقب المعلمات بعين تملؤها الشهوة والحرمان الجنسي، لكن فايز ليس من طبعه خلط الأوراق ببعضها، فقرر الاعتذار قائلاً لنفسه: "هذا خطأي ويجب أن أتحمله".
لم يولد قاتلاً بالفطرة كما يظن، لقد كان شخصاً عادياً، يملك أحلاماً مكرّرة كغيره من البشر. لم يتمنّ إلا يوماً بسيطاً ينتهي بنوم هادئ، ثم يستيقظ في الصباح ليقوم بمهمته كمُعلم للأجيال... مجاز
حتى عندما زادت أجرة المواصلات، كتم اعتراضه بداخله. قضى ساعتين واقفاً في طابور المصلحة الحكومية، وحينما وصل إلى الشباك قيل له بعدم اكتراث إن "السيستم" لم يعُد يعمل وعليه أن يأتي في الغد، ورغم الثقل الذي شعر به يكتم على صدره، لم يبد أي انفعال، حتى أن يلعن ذلك النظام وموظفيه، لكنه بدلاً من ذلك تنهّد وهز رأسه موافقاً ورحل بهدوء. أخفى كل ذلك الخراب بداخله دون أن يدرك، جمع كل المرات التي كان ولابد أن يغضب فيها وأطلقها كلها في مرة واحدة، غضب أخير وحتمي ونهائي.
يذكر وقتها أن الضغط كان يدفعه دفعاً لفعلها. نجلاء تقول: "لماذا تقترب منه وأنت لا تقوى على الدفاع عن نفسك؟ أتعجبك صورتنا في الشارع الآن؟"، ثم تحيطه نظرات سارقه والبلطجية المحيطين به، و تجبره أن يطأطئ رأسه صامتاً. حتى نفسه كانت تسأله دون كلل: "ذلك ليس خطأي فلماذا يجب أن أتحمله أيضاً؟!"، لكنه ظل شهوراً طويلة يبحث عن إجابة تريحها دون جدوى، حتى أتى ذلك اليوم، حينما رآهم متجمعين حول دكان المكوجي العجوز، يتعاركون معه ويرهبونه، والشارع كله لا يعترض. وقف فايز لحظتها أمام الدكان وهو يرى عيني العجوز يعلوهما الخوف وقلة الحيلة. تلك النظرة التي رافقته لوقت طويل. تلك الكسرة التي لم يعد في وسعه أن يتحملها بعد الآن، فاندفع ليمسك بالمكواة ويضرب بها رأس سارقه ضربات متتالية تنتهي ببحر من الدماء وجثة هامدة.
لم يقو أحد على رفع فايز من فوق ضحيته، وأقسم الجميع أنه كان شخصاً آخر غير جارهم الطيب الذي لا يُسمع له صوت، حينها فقط رأى الصورة كاملة. كان كريم على حق. لم ينته ألمه أبداً، بل تسرب إلى كل أنحاء جسده وأجبره على الصمت، لكنه في السجن استطاع أن يفهم دوافع سارقه، فقد تربى في بيئة جعلته يواجه الدنيا بوضع اليد وعلو الصوت، أما فايز فقد تربى على مبدأ تمرير الأمور دون أي إزعاج، ولهذا تقابلا في طريقيهما، كحجرين من الصوان احتكا ببعضهما فاشتعلت النار، وللمفارقة أحرقتهما سوياً.
الرحيل
خرج من الحمام ووقف يتأمل ابنه المنتظر بجانب النافذة. أخفض رأسه وكاد أن يرحل، فقال كريم بصوت عال: "بــابــا!". التفت فايز مسرعاً، ظناً منه أنه أخيراً حصل على غايته، لكنه بالطبع لم يكن يناديه هو بهذا اللقب، بل كان يشير إلى زوج والدته في السيارة. وقف فايز متأملاً كريم من خلال الباب الزجاجي للمطعم، كان يفصلهما حاجز كبير : ابنه في جانب وهو في جانب آخر، عالمان متنافران.
وهنا أدرك الحقيقة كاملة، ونظر إلى الباب الخلفي للمطعم كأنه صنع خصيصاً له، متذكراً كلمات أمل دنقل: " ليس أمامك غير الفرار. الفرار الذي يتجدّد كُلَّ صباح"، ثم قال لنفسه: "كان القيد يلتف حول يدي لمدة عشرين عاماً،وتحملته من أجل ذلك اليوم، لكني ها هنا، أحنّ إلى القيد، وأشعر أنني غريب لأقصى درجة. أدركت أن البراح لا يناسبني". ورحل تاركاً خلفه منضدة فارغة وكرسيين وألبوم صور يضم ذكريات لم يعد بحاجة إليها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 14 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 20 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com