شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
حبّة

حبّة "مانجا" هزّت العالم...

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 15 أكتوبر 202201:19 م

حياكة الكلام


 الغريب، عزيزي القارئ، أنه منذ بدأ الخليقة يتمحور كل حدث كبير حول ثمرة التفاح، قضمها آدم من الشجرة فهوى من الجنة إلى الأرض، وهبطت تفاحة أخرى على رأس نيوتن فأوجد قانون الجاذبية، وكَرّه أجيالاً بعد أجيال في "ميتين أم الفيزياء"،  هكذا أصبح اسمها، وأصبح كل إغواء أو شهوة مرتبطاً بالتفاحة، لكن في حالتي أنا بالذات، كانت المانجا هي البطلة، هي إغوائي الذي كاد أن يضعني في جحيم السجن.

مقدمة الصف الثاني الاعدادي

كنت وقتها في أوج حالات الشغب والمشاكسة، فبعد كورس التشرّد المجاني في المدرسة الحكومية الابتدائية، وهو كورس لا بد منه حتى تتعلّم مواجهة الحياة، أعني تفاصيل الأزقة والمقاهي والمناطق الموبوءة ورفاق "السوق"، نقلني والداي، بعد عدة مشاورات، إلى مدرسة خاصة حتى لا أُفسد. والحقّ أنني كنت طالباً ذكياً وعلى خلق طيب، طفل خاف أبواه أن تتحول شقاوته إلى فجور، فالتحقت بمدرسة أبو يوسف الخاصة الإعدادية في حي العجمي بالإسكندرية.

كانت لي شخصية قوية اكتسبتها من ممارسة لعبة الكاراتيه، وحصلت على المركز الثاني كوميتيه (مباريات المواجهة)  على مستوى الإسكندرية، بالرغم من عدم حبي للعبة. زهوت بنفسي وكان جسدي وقتها أكبر من أقراني، صحيح أن طولي لم ينمُ كثيراً من بعدها، ولكن على كل، لم أكن ذا طباع فظة، أو "مفتري" كما يقال. كنت طفلاً يحاول اكتشاف نفسه والعالم.

بدأت طباع "النمردة" بعدما فزت بأمين الفصل في مدرستي الجديدة. كنت أذهب إلى الطابور المدرسي متأخراً رغم أن مدرستي على بعد 500 متر فقط من بيتي. ذاع صيت موهبتي الكروية، وفزت بأفضل لاعب في المدرسة، كما فزت بالطالب المثالي. كل تلك النجاحات الكبيرة لشخص صغير مثلي، زرعت بداخلي قوة بدأت تتحول لتمرد ورفض. الطفل بدأ يتحوّل إلى "مشاغب" صغير.

منذ بدأ الخليقة يتمحور كل حدث كبير حول ثمرة التفاح، قضمها آدم من الشجرة فهوى من الجنة إلى الأرض، وهبطت تفاحة أخرى على رأس نيوتن فأوجد قانون الجاذبية، وكَرّه أجيالاً بعد أجيال في "ميتين أم الفيزياء"، وأصبح كل إغواء أو شهوة مرتبط بالتفاحة، لكن في حالتي أنا بالذات، كانت المانجا هي البطلة... مجاز

واجه أبي تمردي بحزم، بعدما استيقظت ذات صباح لأذهب إلى المدرسة بعد انقضاء الطابور، منعني من الخروج إلى المدرسة، وقال لي: "غيّر هدومك. أنا هوديك للميكانيكي". بكيت بحرقة وقتها، حيث تزامن في هذا اليوم تحديداً مع مباراة نصف نهائي بين فصلي الدراسي  الذي بتّ نجمه الساطع، وفريقنا المنافس الذي يكبرنا بعام. ولا أعلم هل بكيت لأني سأذهب للميكانيكي أم لأنني لن أحضر المباراة؟

ترجيت أبي كثيراً ووعدته أنني سأتغير، وكنت صادقاً لا أكذب، لكنه صمّم على رأيه، ولم أخبره من الأساس أن هناك مباراة يتعين عليّ لعبها، لأنه سيفهم من ذلك أني ألاوعه من أجل لعب الكرة. وبينما أنا أعمل مع الميكانيكي وأشعر ببركان من الغضب والهوان، خرج فريقي مهزوماً 7-1، وما زلت إلى الآن أريد أن أعود إلى ساحة المدرسة لأقلب النتيجة بقدمي، أو ربما بيدي، كمارادونا.

 ما زلت أتمنى لو صدقني أبي حينئذ وسمح لي بالذهاب .ما زلت أتمنى العودة لأنقذ فريقي.

شجرة المانجا

لم تنفع حيلة أبي بردعي، ولا منع أمي الدائم باللعب في الشارع، إنما وَلّد ذلك في قلبي رغبة دائمة في العناد، وفي أحيان أخرى كنت أقوم بالمحايلة والزنّ. ولم يكن تمردي سوى رغبة في الانطلاق واكتشاف الحياة. لم أكن أبداً لأنتمي إلى فئة الطلاب "الشطار الوديعين". ما الذي يمنع أن ألعب وأقرأ وأجري وأغني، وحينما يأتي موعد الامتحانات أجلس وأذاكر، حتى الآن بعدما أصبحت طبيباً، مازلت هكذا!

 على كل، في صباح يوم صيفي كئيب، خبّأ لي القدر مساراً غير حياتي للأبد.

أخبرني صديقي مهند أن هناك شجرة مانجا في آخر الشارع، وأنه ينوي التسلّق ليجلب منها ما لذّ وطاب، وكل دوري هو تأمين الشارع من المارة، وعلىّ أن أخبره إذا ما سمعت أحداً قادماً. كنت متوجّساً من تلك الفكرة، خصوصاً بعدما أخبرني بأن تلك العملية سرية، وحذرني ألا أخبر والده، وقال لي: "أبويا لو عرف هيضربني". اتفقنا، وهكذا تمت الصفقة.

فوجئت عندما وصلنا إلى الشجرة أنها تبلغ في طولها مقدار طابقين، وتقبع داخل سور فيلّا. خفت وحذّرته، لكنه لم يتراجع. تسلق الشجرة. أسقط واحدة ثم الثانية، تشجّع. صعد لأعلى أكثر فأكثر. زادت حركته. بدأت أوراق الشجر تخشخش، وسمعنا صوتاً عالياً غاضباً يقول: "ولااا.". ولم يكمل كلامه حتى سقط صديقي مهند من علوّ طابقين، سقط على حجرة متوسطة الحجم، هذا ما عرفته بعد ذلك.

طبعاً ما فعلته أنني جريت بسرعة مهولة كأن كلباً يلاحقني، لم ألق نظرة طمأنينة حتى على الرفيق، اعتقدت في ذهني أن قدمه أو يده انكسرت. كنت عازماً وأنا أجري أن أذهب لبيت صديقي وأخبر والده بالحقيقة، ثم تذكرت الجملة: "أبويا لو عرف هيضربني". فكرت في اختلاق سبب يليق بكسر الرِّجل، لم أجد سوى لعب الكرة، ولكني استطردت أنه لا يلعب الكرة إلا بأذن والده، فهو مدرب كرة بالأساس، بالتالي يعلم كل تحركاته الكروية. اهتديت إلى إخباره أنه تشاجر... يا للغباوة!

لم أعد طفلاً  

لم أدرك فداحة كذبتي بعد، وبينما كنت في طريقي إلى الكذب، قلت الحقيقة لصديق مشترك قابلته أثناء عودتي من مكان الحدث، أخبرته أن يذهب ليتفقده بينما أنا سأذهب لأبيه.
عدت إلى حيث تركت مهند بصحبة أبيه. صُدمت، فما رأيته كان عدة فوط مليئة بالدماء موضوعة على رأس الصديق. لم أستوعب ما حدث، وذهب والده سريعاً بصحبة والد الصديق "العرص" المشترك، مصطفى، للمستشفى. تُركت وحيداً بين صرخات الأب وأمه التي تبعته.

ذهبت إلى المنزل بالكاد تحملني قدماي، وجهي شاحب. سألني أبي: "مالك ياض؟". لم أرد. كرّر سؤاله. أخبرته بالكذبة. صدقها وذهب للولد المستشفى. رجع لي طالباً مني ألا أكذب. كذبت ويا للفجور. أخبرته أنه حتى يمكنني أن أحلف له على المصحف، وحمداً لله أنه لم يطلب ذلك. لا أعرف إلى الآن لماذا صمّمت على حمايته؟ أو ربما كنت خائفاً كذلك من العقاب، وهذا هو الأرجح.
أخبرني والدي أن الجرح في رأسه كبير لدرجة يمكنني أن أضع أحد كفيّ بداخله. ولج مهند المستشفى بارتجاج في المخ، حيث سقط برأسه على الصخرة، مع فتحة من أول الرأس لآخره، على ما أذكر كانت تتطلب 60 غرزة بجانب التجميل، وحرّرت المستشفى محضر شروع في القتل.
ما عرفته في صباح تلك الليلة العصيبة أن صديقي مهند الذي كنت أحاول أن أنجيه من ضرب أبيه، بعدما عرف القصة التي اختلقتُها، قال إنني من جئت بالناس لضربه!

علمتني الحياة في موقف واحد درساً بمئة عام، ولكني ما زلت إلى الآن أتساءل: لماذا فعلت المانجا ذلك؟ كيف لحبة مانجا لم آكلها أن تودي بي إلى السجن؟... مجاز

هذا تماماً ما قاله قبل أن يدخل إلى غرفة العناية المركزة، ليجلس فيها ما يقرب من أسبوع بين الحياة والموت. جن جنوني وبدأ ذلك العقل الصغير الغبي يدرك خطورة الأمر، فعزمت على قول الحقيقة، نظر لي أبي بغلّ، وضربني بالقلم على وجهي، ضربني بقوّة مفرطة، ولم أنس تلك اللحظة إلى الآن ولن أنساها إلى الأبد.

ألف ليلة وليلة

عدت لرشدي أخيراً وذهبت للعرص مصطفى حتى يشهد على الحقيقة، عليه أن يقرّ أني قابلته وأخبرته أن مهند سقط من على الشجرة وهو يأتي بالمانجا، هكذا بكل بساطة، لكنه أنكر!

إلى الآن لا أفهم سبباً لهذا، وكأن العالم كله تحول ضدّ شخصي الضعيف الهزيل. كذبة واحدة كادت تودي بحياتي، فصاحب الشأن ملقى في عالم آخر بكذبة أشد وقاحة من إنكار العرص الطليق. طبعاً لم يقتنع والده بالحكاية، ولكن شيئاً واحداً أنقذني، أنني تذكرت كلمة صاحب الفيلّا وهو ينادي: " ولااا"، ولحسن الحظ أكّد الرجل روايتي أخيراً.
إذن أنا في إنتظار إفاقة مهند ليأكد صحة كلام صاحب الفيلّا، بينما صديقنا العرص المشترك لا أنظر في وجهه إلى الآن، وأرجو من الله، بحرقة الطفل الصغير في داخلي، أن ينال ما نلته من عذاب وقهر، لأني لن أسامحه أبداً ماحييت.
في تلك الأثناء كان على المحضر أن يُقفل، وطلب وكيل النيابة استدعائي، ولكن والد مهند مشكوراً رفض دخولي القسم، فكان رحيماً بي وبنفسيتي التي تهشّمت من كذب صديقي. أغلق المحضر بعدما أفاق مهند أخيراً، وواجهه أبوه بالحقيقة فأقرّها.
كان شهراً ثقيلاً مرّ كأنه عام كامل، هددت فيه حياة صديقي بالموت، وهددت حياتي بإمكانية الدخول إلى السجن. تحولت من الطالب النجيب إلى مجرم أحداث بكذبتي في غمضة عين. لم يشفع لي صدق نواياي، ولم يصدقني أحد سوى أهلي، حتى باقي الأصدقاء صدّقوا هذيان مهند إلى أن بانت الحقيقة، ولكني كنت طوال الوقت محاصراً، ينظر لي كأني مجرم. لما كل هذا أصلاً؟
في تلك الفترة أمتلأ البيت بالأهل، وأخبرونا فيما بعد أننا كنا نأكل الأكل نيئاً. كنت قاب قوسين أو أدنى من السجن! لا أصدق كلماتي حتى وأنا أكتبها الآن لأشيح بآلامي وثقل الماضي عن كاهلي. قد تبدو القصة غير واقعية بالمرة، أنا مثلك تماماً لا أصدق أنها حدثت إلى الآن، وأنني مررت بكل هذا.
ظللت لفترة كبيرة بعدها أشعر بالخجل كلما قام أبي أو أمي بشراء المانجا، أشعر بالحرج وبرغبة في البكاء، لم أكن محروماً منها، ولكني أتذكر كل تفصيلة في الواقعة، أصبحت والمانجا عدوين لدودين، وربما الآن أقول أن آدم أغوته حواء لأكل التفاحة، وأنا أغواني صديقي لأكل المانجا!
ذهبت بعد الواقعة لأمكث شهراً كاملاً في بيت جدي، حتى أغيب عن الأنظار، لأنسى ولترتاح نفسيتي قليلاً. تغيّرت حياتي كلية، فبعدما عدت إلى داري لم أخرج تقريباً لمدة عام، لم أقابل الأصدقاء، ولم ألعب ولم أغنّ. كنت حبيساً. فقدت ثقتي في الجميع، ولكني كعادة الإنسان بعد أي أزمة، تفوقت في دراستي وأصبحت أكثر رصانة. علمتني الحياة في موقف واحد درساً بمئة عام، ولكني ما زلت إلى الآن أتساءل: لماذا فعلت المانجا ذلك؟ كيف لحبة مانجا لم آكلها أن تودي بي إلى السجن؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image