أشهر النوادر المروية عن الروائي الراحل الطاهر وطار، أنه دعي ذات عام إلى إحدى ولايات الشرق الجزائري لحفلةِ تكريم نظمت خصيصاً له، دعيتْ لها مطربة موسيقى الراي شهيرة لإحياء سهرة على شرفِه.
وبعد أن انتهى الحفل قُدّمت له شهادة ورقية وكلمة شكر لقبولِه ألقاها مديرُ الثقافة التي لم ينس فيها أن يذكر أن الطاهر وطار أول جزائري يكتب رواية باللغة العربية، وأن بفضله تمكّن السردُ الجزائري من دخول ساحة السردِ العربية من أبوابها الواسعة. كانت كلمة رسمتْ على وجهِ وطار ابتسامةً من النادر أن ترتسم على وجهِ رجلٍ متطلب مثله، أو مثل ما عُرف به عند أصدقائه قبل خصومه.
عندما انتهى الحفل، لاحظ وطار رجالاً نحافاً ببدلات وحقائب جلدية سوداء يدخلون القاعة. لوّح أحدُهم إلى مدير الثقافة بيدِه محرِّكاً رأسَه، فابتسم المدير، وهمس بشيء في أذن مغنية الراي، مشيراً إلى الرجال أصحاب البدلات الرسمية وحقائب الجلد، وما هي إلا ثوان حتى رأى وطار أن الرجال سلموا المدير كيساً أسود وثلاث وريقات مكتوبة على وجهٍ واحد. وبمجرد أن انصرفوا مالت مغنية الراي على الوريقات، ووقّعت على آخر صفحة منها، ثم أخذت الكيسَ، وأخرجت ما فيه، مطلِقة دعابةً سخيفة: "أثق فيكم ولكن المحاسبة الجيدة تصنع الأصدقاء الجيدين".
كان وطار إذ ذاك قد سمّرته الدهشة في مكانه، إلى درجةٍ أن اعتراه البكمُ وهو يرى مغنية الراي تخرج من كيسها الأسود رزماً من الأوراق النقدية، وتعدّها كآلة حساب بنكية، قبل أن تنصرف مطلِقة قهقهةً وتعليقاً أسخف من الأوّل.
سأل الطاهر وطار مديرَ الثقافة: "لمَ لمْ أحصل على أيِّ مكافئة وهذا الحفل لتكريمي؟". ضحك المدير: "هذا لأنك كاتب، لا يوجد قانون يسمح لنا بتقديم المال للكتاب، على عكس المغنيات والموسيقيين
بعد انصرافها جاء وطار إلى مدير الثقافة وسأله عما رأى. فأجابه أنها مكافأة المغنية لقاءَ إحياءِ حفل تكريمه. سأله مجدداً: "ولمَ لمْ أحصل على أيِّ مكافئة وهذا الحفل لتكريمي؟". ضحك المدير مُخفياً استغرابَه من سؤال وطار الساذج: "هذا لأنك كاتب، لا يوجد قانون يسمح لنا بتقديم المال للكتاب، على عكس المغنيات والموسيقيين، إلخ". قاطعه وطار: "طيب، اعتبرْني كذلك، واكتبْ في العقد أنني لست كاتباً، وادفعْ لي".
رواية أخرى
بالطبع لم تحدث هذه الواقعة بكلّ تلك التفاصيل، ولكنها وقعت فعلاً، وانتهت بعبارة وطّار التي كتُبت لاحقاً في مدوّنة الدعابات الجزائرية، وبالتحديد في القسم المخصص للكتّاب، ولعلّه القسم الأكبر حجماً والأكثر مدعاةً للسخرية، كتلك التي تعرّض لها الروائي بشير مفتي حين طالب بمستحقاتهِ إزاء مقالاتٍ كتبها لجريدة جزائرية.
يقول مفتي مستهلاً حديثه بدعابة الطاهر وطار، لكن بتفاصيل أقرب لواقع حدوثها: "كلّنا نعرف حكاية الروائي الطاهر وطار عندما تمّت دعوته لأمسيةٍ أدبية بمديرية ثقافة بإحدى الولايات. فقبِل الدعوة وشارك في الأمسية المخصصة له. وبعد انتهائه من مداخلته سأل مديرَ الثقافة عن مكافأته المادية نظيرَ ما قدّم، فاعتذر المديرُ متأسفاً لعدم تخصيص مكافئات للكُتاب. فسأله وطار مستفسراً عن الراقصة التي قَدّمت عرضاً فنياً إن كانت ستحصل نظير عرضها على أي شيء. فأكد مدير الثقافة أنها ستحصل على حقوقها بلا شك، وحينها عقّب وطّار مقترحاً أن تُدفع له مكافأة وتبريراً لها (المكافأة) يوضع تحت اسمه مهنة غير مهنة الكتابة.
ولا يذكر بشير مفتي هذه القصة إلا من باب استهجانه لواقع الكتّاب الجزائريين، وإن كانوا بمنزلة ومكانة الطاهر وطار العالمية؛ واقع يضطره للسؤال عن مكافأة يفترض ألا يسأل عنها، ولربّما لهذا السبب يعتذر الكثير من الكتّاب الجزائريين عن المشاركة في نشاطات تتسمّى أدبية".
هنا لا بدّ أن نشير إلى مسألة تنصب في مأساة الواقع الثقافي في الجزائر، والمتعلّقة بغياب سياسة ثقافية واضحة تتبناها المؤسسة الرسمية، وهو غياب لا يتعلّق في عمومه بشخص المناط به مهمة تسيير القطاع الثقافي، بقدر ما يتعلّق بعقيدة مخفية لدى السلطة في ضرورة تحييد دور المثقف، واعتبار مجال عمله كمالياً يمكن الاستغناء عنه. فكما صرّح المؤرّخ العربي زبيري: "كان المثقف الجزائري قبل الاستقلال صانعاً للسلطة، ثم صار لاحقاً جزءاً منها إلى أن انتهى به الحال ليكون تابعاً لها".
هكذا ظهرت على الساحة ثلاث فئات من المثقفين: مثقف سلطة، ومثقف نقدي، ومثقف ممعن في سلبيته. وهي فئات لا تساهم في تطوير القطاع الثقافي، ولا تقدّم بدائلَ حقيقيةً؛ فالأول بالرغم من انتمائه العضوي للسلطة إلا أنه لا يلعب فيها إلا دور "المبرّر" و"الواجهة"، مقتنعاً بما يحققه من مصالح شخصية تخدم مركزَه الاجتماعي والمالي. أما الثاني فقد انحسر دورُه بسبب التضييق الاجتماعي والسياسي له، واستحالة عرض أفكاره دون أن يتعرض للمساءلة القانونية أو للتهميش. أما المثقف السلبي فهو الذي حظر نفسَه بنفسِه، وامتنع عن اتخاذ أي موقف واقعي أو حقيقي، مكتفياً بما يتعثر به في الساحة الأكاديمية من قضايا يدّعي أنها في خدمة الثقافة.
الوقوف في طوابير السلطة
عرفت فترة ما بعد الحراك الشعبي في الجزائر ظهورَ ما أطلق عليهم اسم "مثقفي الحراك"، وهي فئة من المثقفين، معظمهم كتّاب وأساتذة فلسفة وصحافيين، تبوأ بعضُهم مناصبَ في السلطة التي استعانت بهم كواجهةٍ سياسية لإضفاء شيءٍ من المصداقية على خطابها المتبني الحراك الشعبي.
"كان المثقف الجزائري قبل الاستقلال صانعاً للسلطة، ثم صار لاحقاً جزءاً منها إلى أن انتهى به الحال ليكون تابعاً لها"
اختيار هؤلاء لم يكن اعتباطياً، بل جاء وفق معيارين لا ثالث لهما: الأول افتقارهم لرؤية وأفق ثقافيين واضحين، والثاني انعدام القدرة على التسيير وانحسار أهدافهم في ما هو شخصي فحسب، وهو ما يبرر مراوحة وزراء الثقافة لفترة ما بعد الحراك أماكنَهم، وإعفاء الوزير بعد الوزير بسبب فشلهم الواضح في تسيير القطاع، بسبب اعتمادهم على الكادر نفسه الذي حيّد الثقافة لعقود طويلة.
وبسبب تسييرهم القائم على فكرة ضرورة جنيِ أكبر قدر من المصالح في أقلّ وقت، انتقاماً من البؤس الذي عاشوه في فترة ما قبل الحراك، أو تمهيداً لمستقبل يرجونه عبر تعينهم لمعارفهم في مناصب حساسة في القطاع، على أمل الاستفادة منهم لاحقاً. كل هذا دون أن يدرك أحد منهم أنهم يكرسون السياسة نفسها التي انتقدوها وهم خارج دائرة القرار.
لكن بعيداً عن سؤال "من يعوّض من؟" في هذا المنصب أو ذاك، يستمر الواقع الثقافي في الجزائر في التراجع، ليس فقط من خلال الردة الجماعية للمثقفين النقديين والسلبيين لاعتناق دينِ مثقفِ السلطة، ووقوفهم في طوابير في انتظار الحصول على الرضا، بل أيضاً على مستوى المطالب المتعلّقة بالحقوق. ولعلّ مسلسل "قانون الفنان" الذي استمرّت حلقاته لعقود طويلة، أكثر الأمثلة وضوحاً على عدم قدرة المثقف الجزائري على المطالبة بحقوقه وبالمقابل، وعلى عدم امتلاك المؤسسة الثقافية الرسمية القدرة والرغبة أيضاً في تنظيم قطاع الثقافة.
صحيح أنه تم إنشاء عدد كبير من المؤسسات المفترض أن تكون مهمتُها حقوقَ الفنانين، على غرار المركز الوطني للكتاب، والمجلس الأعلى للآداب والفنون، لكن بالنظر في قوانين تأسيسها ونظام عملها سندرك بلا جهد أنها مجرد مؤسسات شكلية، لا تضمن إلا وظائف عمالها، وأجور مديريها، فعلى أرض الواقع لا يتعدى عملُ مجلس الآداب والفنون إصدارَ بطاقاتِ الفنانين، ويقتصر عمل المركز الوطني للكتاب في تأطير فعاليات تأمر بها وزارة الثقافة. الأمر نفسه يصلح في وصف الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي، التي بعد أن كانت تمثل جسراً ثقافياً بين الخارج والداخل، انحسر دورُها في بعض النشاطات المحلية، وفي ضمان تذاكر سفر المباركة أسماؤهم في القوائم الرسمية.
قصة وطّار الذي فضل أن يكون فنانةَ أداءٍ على أن يكون الكاتب العالمي الذي نعرفه من أجل الحصول على مكافأته، ليست مجرّد قصة تُحكى للترفيه، إنها ترجمة دقيقة لواقع رديء جعل أكثر الكتاب الجزائريين رسوخاً في الكتابة، يتظاهرون بعدم اهتمامهم بحقٍّ مشروع حتى في أقلّ دول العالم اهتماماً بالثقافة والكتاب. لكنهم يسرون في الخفاء بأنهم يرفضون هذا الواقع، معتنقين مبدأ "التقيّة" تحت مسمّى "اللباقة" وأسلوب "المباهتة" تحت مسمّى "اللامبالاة"، رغبةً في البقاء أكبر قدر ممكن تحت الضوء وإن كان بقاءً مجانياً، أو بمقابلٍ يدفعونه على أمل أن يدفع عنهم ذات قرن.
لا حلّ إلا أن يرتدّ الكتّاب عن كتابتهم
بالطبع غياب نقابة للكتاب، وفشل اتحاد الكتاب الجزائريين في لعب هذا الدور، وعدم رغبة الكتاب الجزائريين في خلق نقابة تمثلهم، خوفاً من رد فعل المؤسسة الرسمية المعنية بالثقافة، والتي ترفض فكرة تحرير الثقافة بما فيها صناعة الكتاب، عن طريق تشريعات احتكارية مركزية، ساهم كلّ ذلك في ازدراء "الكتابة"، وكسر سلسلة الكتاب المتضمنة: الكاتب، الناشر، المطبعي، الموزع والمكتبات.
قصة وطّار الذي فضّل أن يكون فنانةَ أداءٍ على أن يكون الكاتب العالمي، من أجل الحصول على مكافأته، ترجمة دقيقة لواقع رديء جعل أكثر الكتاب الجزائريين رسوخاً في الكتابة، يتظاهرون بعدم اهتمامهم بحقٍّ مشروع
وبالتعدي يسّر الاعتداء على حقوق المؤلفين والكتاب، بما فيها نظام المكافئات، الذي عوض أن ينظر إليه كحقٍّ جوهريّ أصبح ينظر إليه كهبةٍ أو مزية قد تمنح كما قد تمنع، متجاهلين ما بلغه عالم الضفة الأخرى من البحر في هذا المجال، بعد ان اعتبره حقاً يؤدّى نظيرَ عمل فكري، يشبه في قدسيته ونظام حمايته الأجرَ الذي يتقاضاه العامل، ويؤطَّر بعقد لا يختلف في قوته عن عقد العمل.
وهو بلا شك يختلف اختلافاً جدرياً عما يتبادر في ذهن الكاتب الجزائري على غرار الدكتور الناقد معاشو قدور الذي صرّح أن "نظام المكافآت حتى لا نغفل الوقائع التاريخية في تراثنا الأدبي، له شرف محبة الشعر من قِبل النبي الكريم صلى الله عليه ويسلم، حين خلع بردته على الشاعر كعب بن زهير نظير قصيدة ألقاها بين يديه".
فالمكافأة الأدبية أو الثقافية لا علاقة لها بالمحبة، ونظام تأطيرها لا علاقة له بالمشاعر، كما يتصور قرور، وهو التصور ذاته الذي تتبناه فئة كبيرة من المثقفين. ولعل المثل الذي أعطاه الروائي بشير مفتي يترجم هذا التصور في أكثر صوره كآبة: "حدثت معي مرة تجربة مع إحدى جرائدنا اليومية، حيث إنها طلبت مني الكتابة لها مقالاً أسبوعياً يُنشر على صفحتها الثقافية، فلبّيت دعوتَها، ولكني بعدة فترة طالبتهم بمكافأتي عن مجموع مقالاتي، فأخبرني رئيس القسم الثقافي أن المسؤولين في جريدته سخروا من طلبي، معتبرين أنهم بنشرهم لمقالاتي على صفحات جريدتهم قد قدموا لي ترويجاً وشهرةً يفوقان أي مكافأة".
ما حدث مع وطار ومفتي حدث مع كثيرين من قبله وسيستمر في الحدوث مستقبلاً مع آخرين، طالما أن المؤسسة الرسمية المعنية بالثقافة تشجع بصمتها هذا السلوكَ الخادش لكبرياء الكاتب، وطالما أنها تمتنع عن تقنين هذه الحقوق بداعٍ أو من دونه، ولسان حالها دائماً أنها مسألةُ وقتٍ فحسب، معوّضة ذلك بنظام "التكريمات" الجزافية الذي ليس أكثر من رشوة مهذبة تجازي من خلاله الطيّعين والصامتين المحايدين من كتاب، نظير رضاهم بواقع ثقافي لا يستطيع مكافأة الكتّاب إلا إذا هزوا بطونهم، أو على الأقل إذا ارتضوا أن يُكتب بجوار أسمائهم: المهنة: رقّاص/ة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...