لم تكن طفولتي عادية كباقي الأطفال، فقد كنت مختلفة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
إنّني من أصحاب الهمم، وكانت إعاقتي في قدمي، فكنت لا أستطيع المشي كباقي البشر الذين منحهم الله نعمة العافية. ولكي أصل إلى أي شيء، كنت أزحف على الأرض، حتى أثناء لعبي في شارعنا الصغير في إحدى قرى محافظة القليوبية في مصر.
كلمة إعاقة كانت دارجة في وسطنا القروي فلم تكن غصة، بل كان الجميع يعاملني على أني فتاة عادية وربما مميزة، عكس ما يحدث في أماكن أخرى.
لكي أصل إلى أي شيء، كنت أزحف على الأرض، حتى أثناء لعبي في شارعنا الصغير في إحدى قرى محافظة القليوبية في مصر
عندما كنا نلعب – نحن الصغار - هرولة وحركة، كنت ألعب غير عابئة ببطء زحفي بالمقارنة مع هرولة أصدقائي، بل أحياناً كنت أتميز عليهم. كانوا أصدقائي يحبونني كثيراً، لأني كنت ماهرة في صنع منحوتات من الطين، فكنت أصنع اللعب كالشطرنج؛ كي نوفر ثمنها ونلعب بها مستمتعين، كما كنت أحفظ مواعيد الأفلام والمسلسلات والكرتون وأسردها عليهم حينما، فكانوا ينادونني بمايسة المذيعة.
وعندما حانت لحظة دخولي المدرسة، اعترض بعض الناس على تعليمي رفقاً بأمي التي قررت أن تحملني ذهاباً وإياباً إلى المدرسة. لكن، أمي بفطرتها السوية وطيبتها الواضحة اعترضت وأصرت على تعليمي، كي تعوض حرمانها من التعليم لتختار لي مستقبلاً أفضل من كثيرين.
عندما حانت لحظة دخولي المدرسة، اعترض بعض الناس على تعليمي رفقاً بأمي التي قررت أن تحملني ذهاباً وإياباً إلى المدرسة. لكن، أمي بفطرتها السوية وطيبتها الواضحة اعترضت وأصرت على تعليمي
وهكذا مرت سنيني الأولى في الدراسة بفضل حب أمي وعناء أبي الذي أصر على أن أكون مميزة في كل شيء. وعندما لاحظ معلمي تعب أمي في حملي، اقترح عليها أن تشتري لي كرسياً متحركاً. أبلغت أبي وفرح بهذا الاقتراح جداً.
لكن، بدأت المشكلة تكبر عند وصولي للمرحلة الثانوية، لأن قريتنا لا يوجد بها مدرسة ثانوية، وأقرب مدرسة كانت في قرية مجاورة مما صعب الأمر على زملائي وأخوتي في أن يوصلوني بالكرسي لها. فقرر أبي أن أكتفي بالإعدادية.
حزنت كثيراً وضاع حلمي بأن أكون كاتبة مميزة كطه حسين الذي كان رمز التحدي لأمثالي. لم أكتف بهذا، بل رحت أثقف نفسي بمطالعة كتب أخوتي، حتى أتى أخي في يوم يخبرني أنه يمكنني أن أكمل دراستي وأن ألتحق بالثانوية المنزلية. رقصت أحلامي لحظتها وراحت تغازلني في تحقيق ما كنت أتمناه.
وبالفعل، قدمت وأصبحت الأولى على كل المتقدمين. حسدني الجميع على تميزي، رغم أني لم أستطع أخذ دروس خصوصية كباقي زملائي لفقر قريتي إلى معلمين المرحلة الثانوية. فكرت كثيراً في اختيار كلية تناسبني، وكانت صدمتي كبيرة حينما حدثتني خريجة لكلية التربية التي اقترح الجميع أن أدخلها. همست لي محذرة بأن كشف الهيئة لا يناسبني لأن المعلم لا بد ألا يكون متحركاً بكرسي. وذلك لأن منظره منفر في نظرهم.
أما أمثالي فلا يحق لهم أن يكونوا معلمين لأن منظرهم غير لائق. كانت هذه ثاني غصة لي بعد المدرسة الثانوية
بكيت كثيراً على تنمرهم وحكرهم على المعافين فقط، أما أمثالي فلا يحق لهم أن يكونوا معلمين لأن منظرهم غير لائق. كانت هذه ثاني غصة لي بعد المدرسة الثانوية.
قلت لنفسي: كي أكون كاتبة، لا بد أن أدخل كلية الآداب. والكتابة لا يشترط لها دراسة معينة.
تجدد الأمل داخلي، وقدمت في كلية الآداب. ثم ظهرت الغصة الثالثة وهي كيف أصعد سلم الجامعة، حيث كانت المحاضرات في الدورين الثالثة والرابعة. ووقتذاك، كانت كليتي دون مصعد. قرر زملائي أن يحملوني بالكرسي لمكان المحاضرة. وأشكر لهم عناءهم معي فقد كانوا نِعم الزملاء. ولحسن الحظ، بعد تخرجي جاء عملي كمعلمة للمرحلة الإعدادية لمدرستي التي تخرجت منها.
إن أكثر ما أسعدني في رحلتي هي قريتي وتسمى قرية سندوة لأن سكانها على درجة من الرقي تنافس أرقى الأماكن في العالم. فلم أسمع منهم يوماً كلمة معاقة، أو مختلفة
فرحت جداً واستقرت حياتي بعض الشيء. ظللت أدخر من راتبي حتى اشتريت حاسوباً، دونت عليه خواطري المختلفة. وبعد سنتين، أصدرت كتابي الأول ثم الثاني بعنوان "حلم ورقة"، والأخير بعنوان "صراع الآلهة". "نوفيلا صغيرة" كانت بداية عهدي بكتابة الروايات، وستصدر هذا العام عن دار ديوان العرب، حيث فازت بمسابقة النشر المجاني لدى الدار. لم يمنعني وجودي في القرية عن العمل في الكتابة، فكان أول عهدي في الكتابة الصحافية في جريدة خاصة.
كانوا أصحابي يحسدونني على إصراري
كنت أدخر من نقودي لأستأجر سيارة خاصة تأخذني من القليوبية إلى مقر الجريدة في القاهرة. كانوا أصحابي يحسدونني على إصراري وسفري وحدي للقاهرة. ولم يمنعني عن حضور ورش الكتابة أون لاين، فحضرت الورشة تلو الأخرى، غير عابئة بتعثري أحياناً وفساد بعض دور النشر، إلا أن ذلك كان دافعاً لي أن أكون أكثر تميزاً.
ثم مؤخراً، عرفت بعض مواقع النشر مثل موقع كوكب، فسطرت روايتي قبل أيام عليه بعنوان "أحلام واقعية" وتصدرت الموقع بأعلى الروايات قراءة، فرشحها الموقع للدراسة كي يقرروا أن تتحول لفيلم أو مسلسل درامي. إن أكثر ما أسعدني في رحلتي هي قريتي وتسمى قرية سندوة لأن سكانها على درجة من الرقي تنافس أرقى الأماكن في العالم. فلم أسمع منهم يوماً كلمة معاقة، أو مختلفة. وأكثر ما زاد احترامي لهم أنني كنت فتاة غير محجبة وكنت الوحيدة في القرية التي تسير دون حجاب. ولم يأمروني بالحجاب يوماً ولا كانوا يحتقرونني كبعض الأماكن الأخرى التي تتهم غير المحجبة بالفسق وتدني الأخلاق، بل على العكس كانوا ولا يزالون يعاملونني كالأميرات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...