"لا"
لا يخيفني الحزن، ما يخيفني حقاً هو حاجتي الكبيرة إليه، فأنا لست ابنة فرح، ولست ابنة حب. أنا في أحسن الأحوال ابنة تشابهٍ انغمس الجميع يوماً في صنعه، محاولةً منهم دون تخطيط مسبقٍ، للخلود، أو خوفاً من رشقهم بألقاب ستثقل وحدتهم أكثر.
من ذلك الهامش البسيط خُلقت، ومن ذلك النقص الواضح بالرغبة أتيت، ولهذا السبب تحديداً أضعت نفسي داخل كومة أشياء صنعوها وكان من المفترض أن تكون أنا .
كثيراً ما هربت إلى الخيال، لأحصل على عناق طويل، وحكاية قبل النوم، ويدٍّ تربّت على كتفي، وفستانٍ زهريٍّ أرتديه في العيد؛ لذلك لم أميّز يوماً بين العالم الذي أصنعه والعالم الذي أعيشه. بين أنا الموجودة وأنا التي تمنيتها.
أكثر ما أخافه الآن أنا أموت هكذا، بفم مغلق وعيون مفتوحة، أن أموت دون أن أحرّر الغضب الذي يعيش داخلي، أن أموت وأنا هذه ذاتها التي تقول نعم وتنام تحت السرير، التي يعضّ الخوف لسانها فتصمت.
أتمنّى أن أموت وأنا أقول: "لا. أريدها أن تخرج صادمة، عنيفة، قوية، مدوية. أريد أن أموت خفيفة، فارغة، وحيّة تماماً.
على هذا البؤس أن يصير سكّيناً، وعلى هذا الحزن الذي أحتاجه لأحيا أن يتحوّل لصراخ مستمرّ لا يتوقف.
هكذا يصير البشر وحوشاً بهذا الظلم الذي يضعهم خارج اللعبة، بذلك الألم المكدّس، وبتلك العيون التي تداري قهرها بالتحديق بالشمس لتعمى.
الجريمة الأولى
كانت أول خطة أضعها تتعلق بألّا أقع في فخّ التشابه. انفصلت عن جسدي، عن شكلي، عن لون شعري ولون عيني. كنت أقلب المرآة وأبحث عن انعكاسي في الماء، حيث تكون الرؤية أوضح وخطر الاصطدام أقل.
على هذا البؤس أن يصير سكيناً، وعلى هذا الحزن الذي أحتاجه لأحيا أن يتحوّل لصراخ مستمر لا يتوقف. هكذا يصير البشر وحوشاً بهذا الظلم الذي يضعهم خارج اللعبة، بذلك الألم المكدس، وبتلك العيون التي تداري قهرها بالتحديق بالشمس لتعمى... مجاز
سكنني الخوف مبكراً بعد أن قتلت صوصاً صغيراً حصلت عليه من الركض وراء بائع الصيصان الملوّنة، أعطاني إياه وهو متأكد أنّه سيحيا عندي. قتلته وأنا أركض وأحدق في السماء، ومن يومها وأنا أمشي محدّقةً بالأرض لأتجنّب الخطايا.
دائماً ما شعرت بدغدغة خفيفة تحت جلدي تجعلني أرتعش فجأة ودون سبب واضح، لكنّي لم أزر طبيباً قط، لأنّي أعرف تماماً أنّ هناك صوصاً صغيراً يعيش داخلي.
موجودة مجازاً فقط
أظهر في كلّ مكان كامرأة لكن في الحقيقة، وإذا ما أمعنت النظر داخلي، ستكتشف مباشرةً أنّي لست إلّا تلك الفتاة الصغيرة التي مازالت حتى الآن واقفة على واجهة أحد المحلات، تختار فستاناً لترتديه في خيالها، وسريراً لا يشاركها به أحد، ولعبةً تصنع لها الملابس. أنا الفتاة الصغيرة ذاتها التي كانت تريد عناقاً واحداً فقط لتشعر أّنها موجودة فعلاً.
تجاوزت الثلاثين الآن ولكني ما زلت أرسم دوائر على ورقة بيضاء كلما شعرت بالألم، وما زلت أترك سريري لأنام على الأرض، وأحتضن دمية لأغفو، و أبكي كل ليلة لأن أحدهم سرق الدهشة من عيون طفولتي فكبرت فجأة، كبرت لأكون الكبيرة بطفولة أقصر من الجميع.
عرفت منذ زمنٍ طويلٍ أن الحياة غير عادلة، ولكنّ الانسحاب ليس بهذه السهولة، فكان علي أن أكمل مرغمة، لذلك صرت بالنسبة لكل من عرفني أبعد بكثيرٍ عن قرب.
كلّ يوم أطول وأقصر مئات المرات لأبدو مرئية، أحمل خيباتي فوق رأسي، وأفعل ما يمليه علي أي أحد. طوال حياتي لم أرفع رأس أحدهم، ولم أخفضه. لم أعش حتى الآن ولم أمت أيضاً، أنا موجودة، مجازاً فقط.
الحب الأول
لم أعرف يوماً كيف أغادر جسدي أو أطفو فوقه على الأقل. لم أعرف كيف أدافع عن أي شيء. فقط كنت أحدّق بمن أحبّهم وهم يرحلون، أواجه أيّ ألم بالصمت.
أنا الفتاة الصغيرة ذاتها التي كانت تريد عناقاً واحداً فقط لتشعر أّنها موجودة فعلاً... مجاز
فشلت في كل شيء عن عمد، وحشرت نفسي في الزاوية أراقب الصور كيف تتحول أمامي لمرايا مكسورة تسيل منها الحياة كخيوط حمراء رفيعة. الرجل الأول رحل مبكراً جداً، تركني أتحسّس غيابه ببرودة أصابعي وفجوة كبيرة في قلبي. آلمتني نفسي، آلمني عجزي والفراغ الهائل تحت جلدي.
الرجال لا يهتمون كثيراً بشأن التفاصيل ولا يحمّلون القصص أبعاداً تجعلها أثقل، ببساطة شديدة يرحلون، يديرون ظهورهم، يغلقون الباب خلفهم، ينظرون إلى المستقبل ولا يحشرون قلوبهم في أقفاص حديدية، وفي داخل الغرفة ستجلس امرأة وحيدة تحدّق بشكل الباب الموصد من الداخل. المعنى بالنسبة لي يفوق اسم الشيء وشكله ولونه وحجمه، لذلك كان بالنسبة لي النظر من الداخل لبابٍ مغلق يشبه حديث جارتي عن الأبراج، يعطيني الشعور بالألم ذاته.
ربما لا تحتاج الحياة كلّ هذا التعقيد، وربما تسير الأمور ببساطة شديدة. التعقيد يبدأ عندما نبدأ بالتعامل مع الأشياء من حولنا كأفكار، وهذا ما حدث لي معه، لم أتعامل معه يوماً كرجل، كان دائماً فكرة، وكانت هذه الفكرة تنمو داخلي رأسي حتى كبرت وتجذّرت، فأصبح الحديث عن رحيله يشبه الحديث عن بتر ساقي.
المفتاح في جيبي
أفكّر كثيراً في العالم الآخر، في العالم السفلي، أحبّ وضوحه، فالجثث لا تترك مجالاً للشك بحقيقة موتها.
لكنّي هنا على أية حال، رغم محاولتي الخروج، ورغم عذوبة نداء النهاية، ورغم امتلاكي مفتاحاً لباب الطوارئ، أنا هنا.
أجلس على حافة سريري كلّ يوم، أحدّق بانعكاسي في كل شيء، انعكاسي الذي لم يعد يحتاج ضوءاً ليظهر أو عتمة ليختفي، فكل الأشياء حولي مرايا، وكل الوجوه تشبهني، وكل الأصوات نداءاتي، وكل الأحزان المكدسة على طرف النهر تخصّني. ليس سهلاً ما أحسّ به وليس ممتعاً أن تكون هنا وأنت ترغب أن تكون في مكان آخر، أن تضطر للدخول في السباق، وتصبح والآخرين جميعاً نسخة واحدة لكائن لا نعرفه، كائن يمتلك مفتاحاً لباب الخروج ولا يخرج، يواصل انتظاره فقط.
قبل أن أنام أحدّث امرأة تخرج كل ليلة من داخلي، أسرح لها شعرها، فتخبرني أموراً لا أعرفها عن نفسي، تحكي لي عن صعوبة العيش في أعماقي، وعن كائنات غريبة بأفواه كبيرة، كائنات غاضبة لا تتوقف عن الصراخ والشتيمة، ولما أغفو ترسم على بطني جناح فراشة مثقوب وتموت، كل ليلة تموت.
وفي الصباح أضع سماعةً في أذني أُخرس العالم بها، أضعه جانباً، وأدور حول نفسي، وأنا أكرّر القصة الحقيقية عن ضفدعة تبقى ضفدعة، وأمير مهزوم يموت خائفاً، ومدينة مهجورة يرتجف آخر ساكنيها كلما مسح من ذاكرته أحداً، حتى يموت أخيراً متجمداً من وحدته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...