ختم الانسداد السياسي صفحةً من صفحاته الكثيرة في العراق، وخرج مرشح الإطار التنسيقي الشيعي، محمد شياع السوداني، بتشكيلته الوزارية، بعد 20 يوماً من تكليفه بمهام قيادة المرحلة الجديدة، في 27 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، بعد أكثر من عام على إغلاق صناديق الانتخابات البرلمانية.
السوداني سبق أن قدّم طلباً لعقد جلسة نيابية للتصويت على تشكيلته، مساء يوم 25 تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم، لكن نائب رئيس مجلس النواب، فهد رسول الجاف، رفض الموافقة عليه لعدم استيفائه الشروط النيابية، فسارع السوداني إلى استيفاء الشروط المطلوبة، ليوافق البرلمان تالياً على عقد الجلسة، في اليوم التالي.
موعد تحديد الجلسة السريع، يشير إلى مدى استعجال الكتل السياسية في تشكيل الحكومة، وبالفعل تم تمريرها مباشرةً بعد موافقة غالبية الكتل السياسية عليها، بالرغم من تسليط الضوء على شخصيات مرشحيها.
ملفات الفساد
ملفات الفساد التي طالت بعض الوزراء السابقين، لم تكن كفيلةً بإبعادهم عن مناصبهم، فقد أعيد توزيرهم في مناصبهم ضمن الحكومة الجديدة، مثل وزيرة الهجرة والمهجرين، والمرشحة من قبل كتلة بابليون الكلدانية، إيفان فائق جابرو.
ملفات الفساد التي طالت بعض الوزراء السابقين، لم تكن كفيلةً بإبعادهم عن مناصبهم، فقد أعيد توزيرهم
جابرو، تربعت على واحدة من أغرب قضايا الفساد إثارةً للجدل في حكومة مصطفى الكاظمي، وتعود قضيتها إلى العام 2021 إثر موافقتها على شراء ثلج لمخيمات النازحين بمبلغ قارب 4 ملايين دولار، وبالرغم من الزوبعة التي أثارتها هذه القضية، إلا أنها تمكنت من تجاوز الأزمة، من خلال تدخلات سياسية، يُعتقد بأن لرئيس كتلتها النيابية، ريان الكلداني، المقرب من قادة الإطار التنسيقي، يداً فيها.
لم تكن جابرو الوحيدة في هذا الشأن، فوزير الصحة الجديد، ومرشح ائتلاف دولة القانون، صالح الحسناوي، سبق أن تسلّم وزارة الصحة بعد انسحاب وزراء التيار الصدري من حكومة نوري المالكي الأولى عام 2007، وتشير تسريبات نُشرت عام 2015، إلى تورطه في شراء تجهيزات طبية لا يتجاوز سعرها 4 ملايين دولار، بمبلغ 33 مليون دولار.
الحسناوي اعتبر هذه التسريبات مجرد محاولات سياسية لعزله، وقال في بيان له: "إن مصدر هذه التقارير المزورة التي لا تحمل رقماً وتأريخاً، معروف لدينا، والقصد منها هو التسقيط السياسي والابتزاز، وعلى من يمتلك أي معلومات أن يذهب إلى هيئة النزاهة والقضاء"، ولكن القضايا ضده لم تقتصر على هذه التهمة، إذ سبق أن اتهمته لجنة مكافحة الفساد المالي والإداري التابعة لمحافظة كربلاء، في عام 2011، بتوقيعه عقوداً لشراء الأدوية من إحدى المذاخر الوهمية في بغداد، بمبالغ مضاعفة.
هذه الملفات لم تكن كفيلةً باستبعاد هؤلاء الوزراء من قائمة الترشيح، من قبل كتلهم أو من قبل رئيس الوزراء الجديد، ولكن الظاهرة لم تتوقف عند هذا الحد، بل أعيد تدوير بعض الوزراء بالرغم من ارتباطهم بملفات فساد أخرى.
تدوير الوزراء
إعادة تدوير الشخصيات الوزارية وجدت مكاناً لها في حكومة السوداني. محمد علي تميم، أصبح وزيراً للتخطيط بدلاً من التربية، التي شغلها عام 2010، وبحسب تسريبات صحافية، فإنه متهم بمنح مناقصات طباعة الكتب الدراسية إلى شخصيات مقربة منه، بالإضافة إلى هدم العديد من المدارس ومنح مناقصات إعادة إعمارها إلى شركات وهمية بعقود استثنائية، لم يتم الالتزام بها.
آخر القضايا المرتبطة بتميم، تلك التي نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي في شهر آذار/ مارس الماضي، ونصت على دفع تعويضات مالية له ولشقيقيه، تقارب 850 مليون دينار عراقي، تحت غطاء التضرر من عمليات تنظيم داعش في محافظة كركوك، بالرغم من أن مبلغ التعويضات المعروف يتراوح بين مليون و5 ملايين دينار فقط، ولا يزال الكثير من المتضررين ينتظرونها إلى اليوم.
وزير التخطيط، متهم بمنح مناقصات طباعة الكتب الدراسية إلى شخصيات مقربة منه، بالإضافة إلى هدم العديد من المدارس ومنح مناقصات إعادة إعمارها إلى شركات وهمية بعقود استثنائية، لم يتم الالتزام بها
إعادة تدوير الوجوه لا تتوقف عند تميم، فوزير الخارجية فؤاد حسين، سبق أن تسلم مهام وزارة المالية إبان حكومة عادل عبد المهدي عام 2018، قبيل توزيره على رأس وزارة الخارجية في حكومة الكاظمي.
عام واحد فقط قضاه حسين في وزارة المالية، كان كفيلاً بإسقاط مبلغ 128 مليار دولار من خزينة الدولة، وهي أموال العائدات النفطية الخاصة بإقليم كردستان. وبحسب تقارير منشورة، فإن الوزير التابع للحزب الديمقراطي الكردستاني، قد تعمد إسقاط هذه المبالغ، محاباةً لزعيم حزبه، وليس هذا فحسب، بل أقر تمويل رواتب حكومة الإقليم بمبلغ يُقدّر بأكثر من 485 مليار دينار، بالرغم من عدم التزام الأخيرة ببنود اتفاقها النفطي مع الحكومة الاتحادية.
معهد أميريكن إنتربرايز، المختص بالدراسات السياسية، نشر تقريراً في شهر أيلول/ سبتمبر الماضي، ركز فيه على قضية منح وزارة الخارجية لأكثر من 15 ألف جواز دبلوماسي إلى شخصيات مختلفة، بالرغم من أن عدد سكان العراق لا يتجاوز 44 مليون نسمة، وقارن بين هذا العدد وعدد سكان اليابان البالغ 125 مليون نسمة، ولكنها لم تمنح سوى 1000 جواز دبلوماسي فقط.
وهي قضية لطالما أثارت الجدل، خاصةً أن القانون ينص على منح هذه الفئة من الجوازات للقائمين بالأعمال الرسمية حصراً، ولكنه يُمنح اليوم لأقاربهم وعوائلهم والمقربين منهم أيضاً.
من الميليشيا إلى الوزارة
الفصائل المسلحة لم تكن بعيدةً عن المشهد، فنعيم العبودي، وهو رئيس لجنة الاتصالات والإعلام في البرلمان السابق، وعُرف بالحديث باسم عصائب أهل الحق، المنضوية ضمن الإطار التنسيقي الشيعي، أصبح اليوم وزيراً للتعليم العالي والبحث العلمي، وتدور حول اسمه شبهة تورطه في فضيحة تزوير الشهادات التي طالت الكثير من المسؤولين العراقيين سابقاً، خاصةً أن شهادة الدكتوراه التي يحملها، صدرت من أبرز الجامعات المتهمة بهذه الفضيحة، وهي الجامعة الإسلامية في لبنان.
منحت وزارة الخارجية أكثر من 15 ألف جواز دبلوماسي إلى شخصيات مختلفة، بالرغم من أن عدد سكان العراق لا يتجاوز 44 مليون نسمة
المتحدث السابق باسم هيئة الحشد الشعبي، والناطق باسم ائتلاف الفتح، أحمد الأسدي، وهو في الوقت ذاته أمين عام الحركة الإسلامية في العراق، وقائد كتائب جند الإمام المنضوية في الحشد الشعبي، المعروفة بقربها من إيران، وُزّر على رأس وزارة العمل والشؤون الاجتماعية.
الأسدي سبق أن صرح بأن قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني (قبل مقتله)، هو من سيقود عمليات تحرير مدينة الموصل عام 2014، ولم يكتفِ بذلك، بل أكد أن استشارة الأخير لا تقتصر على الحشد الشعبي، وتتجاوزه إلى كونه مستشاراً لقوات الجيش والشرطة الاتحادية وجهاز مكافحة الإرهاب أيضاً، الأمر الذي عُدّ وقتها، اعترافاً ضمنياً بضلوع إيران في قيادة القوات العراقية، وهو ما ينافي الأعراف الدولية.
الأسدي برز أيضاً في الرد على تقرير منظمة العفو الدولي، الذي اتهم قوات الحشد الشعبي بارتكاب فضائع في حق الإنسانية في أثناء عمليات تحرير المناطق المحتلة، فوصف هذه التقارير بالكذب، ودعا إلى مقاضاة المنظمة، ولكن سبق له أن اعترف بأن هيئة الحشد الشعبي قد أصدرت أحكاماً بالإعدام والسجن، في حق منتسبين إليها ضالعين في جرائم وانتهاكات مختلفة داخل المناطق المحررة وقتها.
الخلاف حول تولّي هاتين الشخصيتين لا ينبع من كونهما عضوين في فصائل مسلحة أو أجهزة عسكرية، ولكن من تسلمهما وزارتين اجتماعيتين، وتالياً فإن هناك مخاوف من تحول وزارتهما إلى بؤرة للفصائل المسلحة، على غرار الوزارات الأمنية.
من التقصير إلى التوزير
لا تزال فاجعة الكرادة التي وقعت عام 2016، حاضرةً في أذهان العراقيين، والتي راح ضحيتها 200 قتيل، بعد استهداف مجمع لبيع الألبسة بشاحنة مليئة بالمتفجرات الحارقة. اتُّهم وقتها قائد عمليات بغداد، الفريق عبد الأمير الشمري، بالتقصير في إداء الواجب، ليخضع رئيس الوزراء وقتها حيدر العبادي لضغوط الشعبية، ثم عزله من منصبه.
ولكن السوداني وافق على ترشيحه وزيراً للداخلية، وهو أمر مستغرب، ليس بسبب تقصيره، ولكن بسبب عداء الفصائل المسلحة له، فالأخيرة تتهمه بالقرب من السفارة الأمريكية، نظراً إلى شنه العديد من المداهمات على مقرات الفصائل المسلحة، ومنها هجومه المفاجئ على مكتب تابع لكتائب حزب الله في شارع فلسطين شرق بغداد عام 2015.
وكذلك بالنسبة إلى وزيرة المالية الجديدة، طيف سامي، التي منحتها السفارة الأمريكية جائزة المرأة الشجاعة في آذار/ مارس الماضي، كما وصفتها مجلة فوربس الأمريكية بحارسة المالية العراقية.
نعيم العبودي ،المتحدث باسم عصائب أهل الحق، أصبح اليوم وزيراً للتعليم العالي والبحث العلمي، وتدور حول اسمه شبهة تورطه في فضيحة تزوير الشهادات التي طالت الكثير من المسؤولين العراقيين سابقاً
سامي هي مديرة دائرة الموازنة في وزارة المالية، وهي أبرز دائرة على المستوى المالي في العراق، فدائرة الموازنة تسيطر على كافة التحركات المالية في البلاد، ومسؤولة عن تمرير موازنة البلاد المالية، بالإضافة إلى استحالة المباشرة في أي صرف حكومي بعيداً عنها.
لا يختلف اثنان على جدارة سامي الوظيفية، ولكن منصبها السابق، يعني بلا شك علمها بكافة خفايا وأسرار الفساد الحكومي بحسب تقارير صحافية، وهو السبب عينه الذي يدفع إلى الاعتقاد بأن ترشيحها، لم يكن سوى محاولة من قبل بعض الأحزاب لاستمالتها.
مصدر في الإطار التنسيقي الشيعي، يعلق على توزير هاتين الشخصيتين بالقول، إنها تأتي ضمن محاولة السوداني كسب الرأي العام، وتأكيده على أن الأخطاء التي لاحقتهم سابقاً، كانت بسبب التدخلات السياسية، وأن مناصبهم الجديدة ستتيح لهم بلا شك استقلاليةً أكبر، تمكّنهم من العمل بمهنية بعيداً عن الضغوط الحزبية.
وزارة الدفاع تجاوزت حدود المحاصصة في حكومة السوداني، فبالرغم من أن هذه الوزارة من حصة العرب السنّة كما هو متعارف، فإنها سُلّمت للمرة الأولى إلى ثابت العباسي، ليكون أول تركماني على رأس الوزارة السيادية منذ عام 2003.
العباسي سبق أن طالب بإحدى المناصب السيادية، للقومية التركمانية، كونها ثالث أكبر قومية عراقية، ولكن يسود اعتقاد بأن ترشيحه من قبل تحالف العزم يأتي ضمن محاولات استفزازهم لتحالف تقدّم الذي يتزعمه رئيس البرلمان الحالي محمد الحلبوسي، فالعباسي سبق أن شغل رئاسة لجنة النزاهة النيابية، وأعلن في شهر نيسان/ أبريل 2021، عن تدشين حملة ضد العديد من المسؤولين والنواب، ولكن يد حملته لم تطل سوى جمال الكربولي المقرب من الحلبوسي.
وجوه جديدة حزبية عتيدة
السوداني منع الوزراء من تكليف أي مستشارين أو مديرين عامين من خارج وزاراتهم، لكن الواقع يفيد أن الوزارات مليئة بالحزبيين
كثيرة هي الوجوه الجديدة في تشكيلة السوداني. فوزير الكهرباء زياد الرزيج، والنفط حيان عبد الغني، بالإضافة إلى وزير التجارة الجديد داود الغريري، لم يسبق أن تسلموا مناصب وزاريةً بالرغم من تدرجهم الوظيفي في وزاراتهم، ولكن الخلاف لا يأتي على خلفية ضعف خبرتهم السياسية، ولكن ينبع من ارتباطهم بأحزاب متجذرة في الساحة السياسية العراقية.
مصدر سياسي يؤكد أن "السوداني انتقى هذه الشخصيات بناءً على ترشيح كتلهم السياسية لهم، وهو ترشيح مبني على رغبة حزبية في استغلال هذا الضعف من أجل تمرير أجنداتها بصورة أسرع. فالوزراء سيتجهون إلى استشارة أحزابهم في كافة خطوات عملهم الجديد، وبذلك يكون الحزب قد فرض رأيه بشكل مباشر، من دون الحاجة إلى مساومات سياسية أخرى".
الأحزاب السياسية أدركت بالفعل، استناداً إلى معطيات الانتخابات الأخيرة، أن التغييرات في الخريطة السياسية أوشكت على الاقتراب منهم، ولذلك يحاولون الوصول إلى أكبر قدر ممكن من الاستفادة، ولكن بسرية أكبر على عكس الأسلوب الذي كان معتمداً في الحكومات السابقة.
السوداني منع الوزراء من تكليف أي مستشارين أو مديرين عامين من خارج وزاراتهم، ولكن هذه الخطوة ليست الفيصل ضد الفساد، خاصةً أن بإمكان أي وزير تكليف بعض الوجوه الحزبية أو المقربة من الأحزاب من داخل الوزارة نفسها، وهي كثيرة جداً.
تشكيلة السوداني الحكومية لم تكن كاملة الأركان، إذ لا يزال منصبا البيئة والإعمار شاغرين حتى الآن، ويسود اعتقاد بأن شغورهما يندرج ضمن محاولات السوداني استمالة الصدر، بالرغم من إصرار الأخير على موقفه الرافض للحكومة.
وفق المعطيات الحالية، فإن مستقبل البلاد لا يبشر بأي خير، وانتهاء زمن الانسداد السياسي، ليس سوى إعلان بداية أزمة جديدة، أو أزمات متتالية، قد تكون أشد وطأةً من كل ما عايشه العراقيون منذ عام 2003، إلا إن حصلت معجزة، وهذا أبعد ما يمكن أن يجرؤ العراقيون على مجرد تخيّله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.