شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الأديب المبهذل محبَّذ والكاتبة الجميلة منتهَكة... كليشيهات بائسة عن هيئة الكتّاب والكاتبات

الأديب المبهذل محبَّذ والكاتبة الجميلة منتهَكة... كليشيهات بائسة عن هيئة الكتّاب والكاتبات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 30 أكتوبر 202201:53 م

يمثل حضور الكتّاب في الفضاء العام موضوعاً من الموضوعات المغيبة من النقاش والجدل، بل هو خاضع لكليشيهات ساذجة تبناها الكتاب وراحوا ينتجونها ويعيدون إنتاجها دون أدنى تفكير. فصاروا قطعاناً تقلد بعضها، وتردّد العبارات نفسها دون أدنى تبصّر. قرأت منذ أيام تدوينةً لجامعية عربية تقول فيها بكل بؤس فكري: من يحمل ربطة عنق لا يمكن أن يكون مبدعاً مجنوناً. وهي فكرة يرددها الكثير من الخلق الثقافي عندنا. لكن أن يأتي الأمر من جامعية من المفروض أن لها معرفةً بعالم الأدب وتاريخِه أكثر من غيرها، فهذا الذي أثار استغرابي وجعلني أعتبر ذلك حمقاً خطيراً، لأنه سيتسرب إلى طلبتها.

شعراء وروائح

يطفح الشعر العربي الحديث والمعاصر بقصائد الغزل في عطور النساء وروائحهن، بينما تزكم أنوفنا كلما التقينا بعض هؤلاء المدّاحين للعطور والورود، بعضهم يرحل وروداً من ألبيرتا ليستنبتها في الربع الخالي دون أدنى معرفة بواقع المناخ، وذلك موضوع آخر. لكن ما يشكل مفارقة كبرى أن تنشد أشعاراً عن الروائح الزكية وأنت تنفث روائحَ ثاني أكسيد النتانة. فكثير منهم يقضون عشرات الساعات في الحانات الرخيصة وسط الدخان، فيعلق بهم وبثيابهم، ويصبحون على الخلق بذات الملابس، ولا يشعرون بأي حرج.

يمثل حضور الكتّاب في الفضاء العام موضوعاً من الموضوعات المغيبة من النقاش والجدل، بل هو خاضع لكليشيهات ساذجة تبناها الكتاب وراحوا ينتجونها ويعيدون إنتاجها دون أدنى تفكير

كان يعرف عن محمود درويش ونزار قباني حبَّهما للعطور، وكان طبيعياً أن نجد شعرهما ينضح بالروائح والزهور وأنواعها وبتسمياتها، بينما الشاعر صاحب الجسد المضمخ بالعرق المركز نجده يتحدث إما عن الوردة وكأنها نوع كما يتحدث عن الشجرة والعصفور بلا تسميات، أو ملتقطاً أنواعاً من الزهور من قصائد غيره يجتثها من بيئتها ويحشرها في نصوصه دون أي وعي أو معرفة حتى برائحتها.

الابتسامة والضحك

تقضي شريحة من الكتاب اليوم ثلاثة أرباع وقتهم في النميمة عن كتّاب آخرين لا يهدرون وقتهم معهم، ولا يرتادون فضاءاتهم المقرفة بحثاً عن البيرة الرخيصة أو الحشيش الرخيص، فنسمع قهقهاتهم على بعد كيلومترات. ولكنهم عندما يقبلون القرّاء أو الجمهور نجدهم متجهمين، وعندما يطلون عليهم من وسائل التواصل الاجتماعي نجدهم يشرون حزناً على النفس والأمة، فقد حفظوا وفهموا خطأً عبارة محمود المسعدي: "الأدب مأساة أو لا يكون"، ووقفوا عند "ويل للمصلين"، ولم يكملوا عبارته الوجودية ليدركوا المعنى العميق: "الأدب مأساة أو لا يكون. مأساة الإنسان يتردّد بين الألوهيّة و الحيوانيّة وتزف به في أودية الوجود عواصف آلام العجز والشعور بالعجز أمام نفسه".

الضحك والابتسام عورة للكاتب والأدب عندهم. أستحضر حكايةً شخصية أنه في سنة 2015 كنت أقدم برنامجاً ثقافياً في التلفزيون التونسي بعنوان "بيت الخيال"، لم يجد كاتب من هؤلاء أيَّ مشكل فيه إلا ضحكتي وابتسامتي، وبنى مقالاً هجومياً على البرنامج على إسرافي في الضحك والابتسام. ردّ عليه وقتها الناقد السينمائي العراقي قيس قاسم في جريدة "الحياة" اللندنية بمقال ساخر تناول فيه هذا الكليشيه البائس لصورة الأديب المتجهم.

الغريب أن في تاريخ الأدب الحديث والمعاصر أنجح وأشهر أديب عربي والوحيد الذي تحصّل على جائزة نوبل للآداب إلى الآن هو كاتب لم يتوقف عن الابتسام والضحك. وبمسحٍ بسيط على محرك غوغل سنجد أن ابتسامة نجيب محفوظ تكاد تكون الأكثر تداولاً. وكذلك الأمر إذا تابعنا حواراته. فبمن يقتدي هؤلاء المتجهمون طوال الوقت؟ لماذا لا يضحكون خارج أقبية النميمة؟ لماذا يتصنعون التجهّم والدموع والحزن واقعياً وافتراضياً؟

الأديب المبهذل والهندام المجعلك

يروّج بعض الكتّاب والجامعيون أحياناً فكرةً بائسة أن الكاتب الذي يحمل ربطةَ عنق لا يمكن أن يكون كاتباً حقيقياً، كما الجامعية التي أشرنا لها أعلى المقال وشَرطية جنون الكاتب بنزعه ربطة العنق. ولا نعلم ما معنى الحديث عن الجنون في زمن صناعة الأدب، مع أن المطلعين على تاريخ الأدب وأعلامه منذ بدايته إلى الآن لا يجدون الكتّاب في العالم إلا شديدي الأناقة، وتمثل ربطة العنق مشتركاً بينهم. فمن أين جاء هؤلاء الكتبة بأن من يرتدي ربطةَ عنق لا يمكن أن يكون كاتباً؟

اختلق المشهد الثقافي الرديء كليشيهات متعلقة بالجمال والوسامة، فحسب عرفهم أنه لا يحق للجميلة والوسيم دخول حقل الأدب

لا أدري ماذا سيقول الشيوعي العنيد خوزيه ساراماغو أو ماريو بارغاس يوسا وغابريل غارسيا ماركيز وإدوارد سعيد وبول أوستر وفيليب روث وسلمان رشدي، وخوليو كورتثار وشتاينباك وجان بول سارتر؟ حتى هنري ميللر وبوكوفسكي حملا ربطة عنق، بل إن جيل البيت جينيريشن المتمردين على كل شيء حملوا ربطات عنق ويمكن العودة بسهولة إلى صورة ألن غينسبرغ ووليام بوروز ونيل كاسيدي وجاك كيرواك؛ فهل هناك من هم أجن منهم؟ نعم، جان جينيه الهارب من الحضارة الغربية والمنظّر لأفولها هو الآخر ارتدى ربطة العنق.

عربياً كان أفضل الكتّاب العرب شديدي الأناقة من طه حسين ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ وعباس محمود العقاد والطيب صالح وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وغسان كنفاني، بل حتى توفيق الحكيم الشهير بإشاعة أنه بخيل كان أنيقاً، وكذلك حنا مينه، الكاتب العصامي، وربطُ ذلك باليسار العالمي وبالمدّ الشيوعي أكذوبة كبرى لأن أغلب الكتاب الشيوعيين يحملون ربطات عنق وفراشاتٍ أيضاً.

أناقة الفكر وأناقة الأدب كانتا عبر تاريخ الأدب مصاحبتين لأناقة المؤلف، حمَلَ ربطة عنق أم لم يحمل.

الكشكول والبيريه والسيجار والكيتش الثقافي

ومع ذلك نجد نفس هؤلاء الكتبة يقلدون كتاباً آخرين يعتمرون قبعات "البيريه" التي يتلقفونها من محلات "الروبافيكا"، والتي يجهلون أصلاً طريقة حملها، وتاريخها. بعضهم مازال يمسك بسيجار كوبي التقطه منذ عشرين سنة ولم يشعله، وآخرون ينفثون السجائر الإلكترونية، لكنهم يواصلون تدخين سجائرهم بنفس النهم. أما أصحاب "الإيشاربات" الحمراء والفلسطينية فحدث ولا حرج. كل ذلك لينتصبوا في الفضاءات العامة كمثقفين ومبدعين وصحافيين في غالب الأحايين ينسون أنهم يعتمرون قبعات الشتاء في الصيف، وبعض القبعات لدول بعيدة في شمال الكرة الأرضية، حيث الحرارة تصل إلى 40 درجة تحت الصفر.

الكاتبة الجميلة المنتهكة

اختلق المشهد الثقافي الرديء كليشيهات متعلقة بالجمال والوسامة، فحسب عرفهم أنه لا يحق للجميلة والوسيم دخول حقل الأدب، فهو حكر على غير الوسيمين؛ فكلما ظهرت كاتبة جميلة في الوسط الثقافي العربي إلا وانهالت عليها الإشاعات وحملات التشكيك والبحث عن الرجل الكاتب الذي يقف وراءها،  فبكل تأكيد هناك رجل يكتب لها قصائدها ورواياتها، وكل ما يكتب عنها هو من قبيل المجاملة والتقرب منها. والأمثلة على ذلك كثيرة ويكفي هنا تذكيراً بأشهرها وهي قضية الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي وروايتها "ذاكرة الجسد"، والإشاعات الكثيرة التي ظهرت بخصوص وقوف حيدر حيدر وراءها.

والمؤسف أن من يروج تلك الإشاعات التي كثيراً ما تمس الشاعرات، هم الشعراء أنفسهم، والذين نجدهم في محافل أخرى يهجون الذكورية، ويتحدثون عن الحداثة وما بعد الحداثة.

يروى أنه في إحدى الملتقيات في تونس كان كاتب يطارد كاتبة لأنها تقيم في ذات الفندق وتسلل ليلاً، وراح يطرق بابها، وعندما رفضت فتح الباب،  بال أمام الباب ليتسرب بوله إلى غرفتها. هذا المثال المقرف مثال دال على بؤس المشهد وذكوريته وتعفنه، بل مثال على عقلية الكائن العفن المنتصب في المشهد بلقب مبدع. فالمرأة الجميلة بمجرد اقتحامها للمؤسسةَ الذكورية التي تسمى أدباً، يجب أن تتحمل ما سيحدث لها من ذلك الوسط. لقد انسحبت الكثير من النساء من المشهد الثقافي والإبداعي العربي بسبب هذه السلوكات الذكورية للكتّاب المرضى والمكبوتين جنسياً.

أناقة الفكر وأناقة الأدب كانتا عبر تاريخ الأدب مصاحبتين لأناقة المؤلف، حمَلَ ربطة عنق أم لم يحمل .عربياً كان أفضل الكتّاب العرب شديدي الأناقة: طه حسين ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ

فالكاتبة الجميلة في مشهدنا البائس لا تعرّف إلا بعشيقة الكاتب فلان، أو التي نامت مع الشاعر فلان، وكلها فونتازمات كتبة ذكوريين، بل لقد وصل بهم الأمر إلى اختراع اعترافات لبعض الكاتبات، كأن يُسمع من أحدهم أن الشاعرة الفلانية قالت في لحظة تجلٍّ أنها نامت مع محمود درويش، ليضفي على نميمته مشروعيةً وصدقية.

هؤلاء الكتبة الذين يروجون لهذا البؤس لم يستحضروا جميلات الأدب في العالم، ولا حتى كتابه الوسيمين. لم ينتبهوا حتى إلى جمال الفائزة بجائزة نوبل هذا العام، ولم يتخيلوها في العشرينيات أو الأربعينيات من عمرها.

هذا الاعتقاد ينسحب أيضاً على ظهور كاتب وسيم، فلا يعتقد الكتبوب الحزين الدميم أن كاتباً وسيماً يمكن أن يكتب رواية جيدة أو قصيدة عميقة.

هذا الوضع البائس لصورة الكاتب جرّ صورة أخرى بائسة في الدراما العربية، حيث لا يظهر الكاتب إلا مجنوناً وأشعث الشعر وفي لباس قروسطي أو فاشلاً عاطفياً وفقيراً بائساً.

في هذا المقال تحدثنا بشكل عام عن كليشيهات الأدب البائسة، ومظهر الكتاب،  ولم نتطرق إلى موضوع الغندرة والكاتب الغندور الذي كان موضوعاً للفلسفة في وقت من الأوقات، والتي حللته بعمق رابطةً إياها بالجندر والمستوى الطبقي والتوجهات الفكرية للمبدع.

من حسن الحظ أن هناك كتاباً أنيقين نساءً ورجالاً في العالم العربي، ويحرصون على أن يكونوا في مظهر يليق بهم ككتاب. وعوداً على تدوينة الجامعية علينا أن نعيد النظر في من يدرس في الجامعة العربية حقيقة؟ هل فعلاً هم المتميزون فكرياً أم أنه جنباً إلى جنب مع الجامعيين المحترمين هناك عاهات فكرية ونفسية تسببت في تجهيل الطلبة عوض إرشادهم وتعليمهم وتقديم المعرفة لهم، يجب التخلص منها؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard