شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"التبلاح" في المجتمع الصحراوي... في المرأة المكتنزة سرّ الجمال

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 31 أكتوبر 202202:00 م

استأثر موضوع السمنة في الثقافة الصحراوية، باهتمام وسائل الإعلام التقليدي، الذي أثار الموضوع بشكله البسيط والمشحون بالذاتية، بعدما سُجِّل تخلّف الباحثين في حقول السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا وعلوم الصحة عن التنقيب والمغامرة في طرح الإشكالية بأسئلة جريئة في مجتمع ما زال يقدّس القيم المتوارثة ويتشبث بها، بالرغم من أننا في خضم اتجاه عام عالمي نحو الترويج لبرامج متعددة الأنماط تقضي على "السمنة"، وقد وصل الأمر في دول الغرب إلى أن ينحو المجتمع نحو التنمر على كل من هو بدين، امرأةً كان أو رجلاً.

لكن "السّمنة" كما هو متعارف عالمياً، ليست هي ذاتها عملية "التبلاح"، التي كانت تتأسس على عناصر محددة ولها أهداف واضحة تعمل على إبراز أنوثة المرأة من "خصر" و"زند" و"ساق" و"عيون" و"كمامة" و"كاشوش" (وجه) و"كوايم" (أرجل)... فلِعُيون الرجل الصحراوي معايير محددة يقيس وفقها أنماط الجمال، لكنها في المجمل تبدأ مما هو ظاهري، وقد يكون العينين أو طول الرقبة أو زنداً أو ساقاً أو خاصرةً أو كلّها معاً.

التبلاح ليس مسألةً معياريةً فقط للجمال. إنه اختيار عن وعي، ونمط حياة يتكرر في فترة وجيزة تنتهي بانتهاء السبب. إلا أنه ومع تطور أساليب الحياة وانشغال المرأة الصحراوية بأشغال البيت، أصبح التبلاح مستمراً في الزمان، أي بعد الزواج. فالانتقال من الخيمة إلى المنزل له تأثير على نمط الحياة. وعملية "التسمين" كما يحلو لبعض الصحف تسمية التبلاح، قاصرة نظرياً ولا يُعتدّ بأحكام القيمة تلك أمام ظاهرة ثقافية خاصة بالنساء العزبات تطورت لتشمل مختلف مراحل حياتها.

في البدء كانت خاصةً بالعزبات

يُعدّ "التبلاح"، في المجتمع الصحراوي، ظاهرةً ثقافيةً خاصةً بالنساء العزبات، ويرافقها في بقية حياتها الشبابية. إنه عملية ونسق ثقافي تشترك فيهما نساء مجتمع البيظان، وتهدف من خلالهما النسوة إلى إبراز جمال أجسادهن وفق المعايير الثقافية للمنطقة.

تقوم الأمهات بإعداد البكر العزبة المقبلة على الزواج، لمدة غير محدودة من الزمن تتوقف على يوم الزفّة، فتقوم بإنهاء أشغالها اليومية التي كانت محصورةً في رعي صغار الماعز أو الغنم في مرحلة الولادة أو في أشغال الخيمة التي هي بيت العائلة الكبيرة، بما معناه أن البكر العزبة تنصرف إلى الراحة والدخول في خلوة تأكل فيها ما لذّ وطاب، وتصبح على حليب النوق وزبدة الغنم، وتلتحف النيلة ولا يفارقها السواك، وفي فترات متباعدة تقوم بحك الأسنان بـ"حموم" "الفاخر"، خاصةً الفحم الخشبي المستخرج من حرق الأعواد الغليظة من شجر الطلح.

يُعدّ "التبلاح"، في المجتمع الصحراوي، ظاهرةً ثقافيةً خاصةً بالنساء العزبات، ويرافقها في بقية حياتها الشبابية. إنه عملية ونسق ثقافي تشترك فيهما نساء مجتمع البيظان، وتهدف من خلالهما النسوة إلى إبراز جمال أجسادهن وفق المعايير الثقافية للمنطقة

 في هذه الفترة الزمنية، تكتسب الفتاة صحةً وقوةً جسمانيةً تكون فيها جميع أطراف جسدها متكاملةً غير "منقوصة". هذه العملية الطبيعية لاكتساب العضلات والقوة والصلابة والأنوثة "المفرطة"، لحقها تطور لافت أثّر في جمال المرأة الصحراوية، فجعل الجسد المكتنز صورتها المثلى.

في إطار التبلاح، فإن وظيفة النساء عموماً في ظل حياة البدو، تتركز في مضارب الأهل، إذ كنّ لا يبتعدن عن الخيمة و "الفريݣ"، وكنّ محمّلات بالماء والتمر، بما يحملانه من عناصر غذائية غنية بالألياف اللازمة لبلوغ الإنسان أشدّه. استخدمت نساء البادية، حيث الأصل، وصفات غذائيةً هادفةً إلى إبراز عضلات بناتهن ومفاتنهن وذلك بالاستعانة بالحساء الأحمر المصنوع من دقيق الشعير، والذي يُشترط فيه ألا يكون ثقيلاً، أي حساءً خفيفاً يُخلط فيه القليل من "المكلي" (المقليّ)، مع الكثير من الماء. لكن أبرز أسلوب وطريقة هما تلك التي تعمد فيهما الأم أو الأخت إلى حفر الرمال بمقدار معيّن تضع فيه البكر كرشها متكئةً على بطنها لتقليص الترهلات الزائدة، أي الكرش الزائدة وإذابة الدهون غير المفيدة.

في عالم الأعشاب، يلجأ مجتمع النساء إلى عروق شجرة الكندول، فتُغْسل جيداً وتُنشّف وتُجفّف تحت أشعة الشمس ثم تُدقّ أو تُطحن بالرحى إلى أن تصبح دقيقاً يُخلط مع دقيق الشعير "المكلي" والسّمن. كما هناك شجرة "التربونة" التي تنبت في الجبال والتي تُجفف وتُدقّ وتُشرب مع الحساء والحليب.

آفة الكيماويات

بالرغم من أن التبلاح ظاهرة ثقافية اعتمدت في بداياتها على ما هو موجود من مواد وكلها طبيعية من كرم البيئة وأرض الفيافي، فإنها لا زالت مستمرةً بمحتوى حديث. إلا أن المخاطر التي صاحبت هذا التطور مسّت بالبنية الجسمانية للمرأة واستمر تآكل معالم الجمال ومظاهره.

انتشر استعمال المواد الكيماوية والحيوانية المنشأ، لتقليص المدة الزمنية للتبلاح، فاستخدمت النساء "الديكادرون" و"الدردك" وأدويةً يصفها الأطباء لفتح الشهية، ناهيك عن استخدام "الليݣ"، كتحميلات تُصنع من التمر وبعض الأعشاب ممزوجةً بأقراص دُقّت دقاً لتصبح دقيقاً يسهل خلطه مع بقية المكونات.

عملية "التبلاح"، التي تهدف إلى جعل الشابة البكرة "مكتنزة"  كانت لها أهداف واضحة في المجتمع الصحراوي تعمل على إبراز أنوثة المرأة من "خصر" و"زند" و"ساق"

لا نختلف في أن مضّار الكيماوي عديدة، ولها تبعات نفسية واجتماعية وصحية ومادية في حالات كثيرة، ولنضرب مثلاً: كأن تعمد الفتاة إلى استعمال مشتملات التبلاح الحديثة بما فيها من أدوية تُباع في الصيدليات وأخرى في السوق السوداء تُخلط بأعشاب ومكسّرات ذات نسب عالية من الألياف والعناصر الغذائية المهمة، ثم الراحة، وشرب السوائل الساخنة والباردة.

لكن ألا يشكل هذا النمط الغذائي خطراً على الصحة؟ يمكن إذاً، أن نفصل بين النمطين لكون الأصيل أو التقليدي يعتمد على الطبيعة وله فترة وجيزة تبدأ قبل يوم الزواج بسنة إلى ثمانية أشهر، وتنتهي برحيل الزوجة إلى بيت زوجها بالإضافة إلى كون العملية نمطاً شائعاً في ثقافة القوم.

أساطير رافقت "التبلاح" ومنها عزل البنات حتى يبلغن سن الرّابعة عشر، وفي عزلتهن يتم إطعامهن مواد كيماويةً تسمّن بسرعة وتُستخدم العصي لضرب الفتاة حتى تُحدث فجوات في جسدها تتغلغل فيها مواد التسمين

وبما أنه عملية طويلة نسبياً، فإن نمط الغذاء لا يتجاوز ما هو موجود. فمن لحم الإبل يُصنع "التيشطار"، أي أن يُشطر اللحم ويُجفف ويُطبخ في الغالب مع الماء من دون إضافات. ومن حليب الماعز يُصنع السّمن أو "الدهن" فيوضع موضع زيت الزيتون حالياً. ومن "النيلة" يُصنع لباس تتلون فيه سائر أجزاء الجسد باللون الأزرق في عيون العالم، والأخضر في عيون البيظان. ثم الرمال الساخنة التي تُستخدم لتقليص عملية تكوّن الدهون.

وهنا يحق لنا أن نسمّيه "تبلاح"، لاحترامه التقاليد المرعيّة.

أمّا ما دأب البعض اليوم على تسميته "التسمين"، فهو عملية اشتملت على عناصر جديدة تسرّع من العملية زمنياً، ومستمرة بعد الزواج وتلغي جميع المواد والطرق المستعملة قديماً. حيال هذا كله، نكون أمام وزن زائد أغلبه دهون تثير مشكلة التوازن وهشاشة العظام والمشكلات الصحية بدل الطريقة الأصيلة التي كانت مخرجاتها تناسقاً جسمانياً وجمالياً وقدرةً على مواجهة الطبيعة التي تكون في بعض الأحيان قاسيةً.

التبلاح، خلافاً للصورة النمطية التي يتم تداولها، ليس مسألةً قسريةً لإعداد زوجةٍ ذات معايير تلفت عيون طالبي الزواج وغرائزهم، بقدر ما هي عملية تعتمد على إراحة المرأة من أشغال لا تؤدّيها حالياً. ففي التقاليد القديمة لمجتمع الصحراء، كانت وظيفة البكر أن تقوم باكراً لإعداد الخبز وما دأب عليه الأهل في إفطارهم ثم الانشغال إما برعي الغنم في فترة ولادته أو صغاره بالقرب من المضارب وحتى مغيب الشمس. وقد نقل الشعراء الكثير من التفاصيل الخاصة بالغزل، الإباحي منه والعذري، الذي تضربه النساء ويُسمى "التبراع".

في هذا السياق، نفهم طبيعة التبلاح كممارسة ثقافية متجذرة. أمّا التسمين القسري حالياً، فهو حامل لصفته القسرية لأنه ارتبط بمظاهر السرعة وحداثة المواد المصنعة كيماوياً.

صور نمطية...

من أبرز ما كُتب عن الموضوع، هو أن بعض المواقع الإخبارية المغاربية بحثت فيه واشتركت جميعها حول "يافطة التسمين القسري" الذي هو في نظرهم "البلوح"، بالرغم من الاختلافات بينهما. بل إن أساطير رافقت "التبلاح" ومنها عزل البنات حتى يبلغن سن الرّابعة عشر، وفي عزلتهن يتم إطعامهن مواد كيماويةً تسمّن بسرعة وتُستخدم العصي لضرب الفتاة حتى تُحدث فجوات في جسدها تتغلغل فيها مواد التسمين.

هذا الكلام، بجانب عدم دقّته العلمية، مردود عليه لأن التبلاح نمط حياة وعيش، وثقافة لها عناصر محدّدة وتمتد إلى سائر مجتمع البيظان. إلا أن التطور الذي حصل هو أن هذه العناصر تم الاستغناء عنها إذ إن المنطق التجاري أصبح يشكل وازعاً للفعل أينما حللت وارتحلت وفي أي مجال، بالإضافة إلى تطور أدوات التجميل، وكلها عوامل تُضاف إلى السرعة في الحصول على نتيجة "مرئية"، لكن باطنها يختلف كلياً عن العملية التقليدية، التي تدلّ على مكانة خاصة للمرأة تعلي من شأنها، خلافاً للسائد من صور نمطية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard