شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"تصوير غريزي عنيف مفعم بالانفعالات"… جاذبية سري أو الأنوثة الفنية كمطلق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 1 نوفمبر 202201:57 م

رآها ترتدي قميصاً طويلاً فوق بنطلون جينز أزرق، أما شعرها فقصير ومجعّد، بينما تضع فوق عينيها نظارة ذات زجاج سميك يكشف عن عطب واضح في القدرة البصرية.

تساءل ناصر عراق، الروائي المصري، بعد أن رأى الفنانة التشكيلية جاذبية سري (1925-2021) في هيئتها تلك: "كيف حافظت هذه السبعينية على حيويتها ونشاطها وتألقها؟".

تجول عراق بالمعرض، متلهياً عن ذكرياته، متأملاً بإعجاب بالغ لوحاتها "العامرة بحب البسطاء، المنفذة بجسارة تخفي مهارات لافتة يعززها قاموس لوني طازج غزير الدرجات"، بحسب حديثه لرصيف22.

جاذبية سري، والتي لحياتها من اسمها نصيب، تجدد عهدها مع جمهور الفن التشكيلي بعد عام على رحيلها، من داخل قصر "عائشة فهمي" على نيل الزمالك في وسط القاهرة، بعد أن خلفت فراغاً كبيراً في الأوساط التشكيلية المصرية والعربية.

"عاشت 96 عاماً أسهمت بنصيب وافر في تعزيز الحركة التشكيلية المصرية"

يقول عراق: "فقدت الحركة التشكيلية المصرية واحدة من جيل الرائدات في عالم الفنون الجميلة، فالفنانة التي عاشت 96 عاماً أسهمت بنصيب وافر في تعزيز الحركة التشكيلية المصرية، التي بدأ تبلورُها مع تأسيس مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1908".

"في منتصف تسعينيات القرن الماضي أقامت معرضاً خاصأ للوحاتها، وتعرفتُ إليها، فأسرتْني بساطتها وجديتها وصوتها الخفيض، كانت في حدود السبعين"، يقول عراق.

نستعيد ملامح مشروع جاذبية الفنيِّ، تزامناً مع ذكراها الأولى، وافتتاح معرضها الاستيعادي، الذي تصدّرَ الأحداثَ الثقافية في العاصمة المصرية في الأسبوع الأخير من تشرين الأول/أكتوبر 2022. 

حركة وألوان وحيوية

الإحساس بالخسارة سيطر على الدائرة الثقافية المصرية بعد رحيل الفنانة الكبيرة نهايات العام الماضي، فهي آخر الرائدات الذين/اللاتي قاموا/قمن بصياغة الحالة التشكيلية المصرية خلال العقود الأخيرة.

الناقد الإيطالي كارمينى سينسيكالكو يقول عنها، طبقاً لملفها الرسمي بقطاع الفنون التشكيلية المصري: "إنها ليست بالنسبة لي اكتشافاً جديداً، حيث أتيح لي أن أتابع منذ سنوات عديدة إبداعها في فن التصوير، وأن أزور مرسمها بالقاهرة، وأن أقدر قوتها؛ تلك القوة المتدفقة التي لا تقتصر على كيانها كامرأة تتميز بحسم وتصميم في مواجهة دائمة مع صعاب الحياة والتغلب عليها، ولكنها أيضاً قوة يدها التي تنبض حيوية وتغذيها الأحاسيس الباطنية، وروح الفنانة الإبداعية".

ويعتبرها كارميني معلماً من معالم البانوراما المصرية للفن النسائي، وبرر ذلك بأنها "تعكس في تكويناتها المملوءة بالحركة والألوان والانطلاقة الحيوية العصبية التي تتسم بها شخصيتها، وإنه لا يكون فناً نسائياً بالمعنى الذي صار من المألوف إضفاؤه على هذا التعريف".

"تصويرها تصوير غريزى، عنيف، مشحون بانفعالات داخلية، غير مرتبط بالبحث عن الجمال فقط؛ على العكس، متأهب دائماً لقلب القوانين والقواعد؛ إنه فن تشكيلي لا يخضع للشكل والصورة؛ إنه فن معاصر، ولكن من خلال اللاشعور يعكس دائماً الأصول القديمة. إنه فن يحكي في باب النوادر والحواديت يحكي مشاكل يومية، وأيضاً مشاكل تضرب بجذورها في أعماق التاريخ". 

رحلتها بين "أم عنتر" و"المراجيح"

الناقد والفنان التشكيلي المصري، صلاح بيصار، تحدث عن الجانب الإبداعي في تجربة جاذبية، قائلاً: "رحلتها مع الإبداع تتدفق بدنياً من الأنغام والألحان بين التجريد والتشخيص. كانت بداياتها مع لوحات يمتزج فيها الواقع بالتعبير، كما في (أم عنتر) و(أم رتيبة) و(أم صابر) و(الطيارة)، و(المراجيح)".

لقد وصلت جاذبية إلى مستوى من الإبداع لم تعتد تحتاج فيه إلى التوقيع على لوحاتها، "من فرط خصوصها وتميزها"، بحسب حديث بيصار لنا.

فقدت الحركة التشكيلية المصرية واحدة من جيل الرائدات في عالم الفنون الجميلة، فالفنانة التي عاشت 96 عاماً أسهمت بنصيب وافر في تعزيز الحركة التشكيلية المصرية

ويغلب حديث بيصار النزعة الشاعرية، مثل كثيرين ممن تحدثوا عن فنانة اعتبروها رائدةً من الجيل الذي تلا روّاد التصوير الستة، بحسب بيصار: يوسف كامل وراغب عياد وأحمد صبري ومحمد حسن ومحمود سعيد ومحمد ناجي.

ويقول بيصار موجزاً رؤيته لها: "هي أغنية مصرية طويلة متعددة النغمات، تنوعت في مراحل عديدة من الواقعية إلى التعبيرية إلى التلخيص الشديد الذي اختزلت فيه (الزمان والمكان)".

سيد محمود: مراحل وتداخل

ويلفت الكاتب الصحافي المصري سيد محمود النظر إلى "أصالة" الفنانة جاذبية سري، فهي "إلى جانب نزعة واقعية طغت على إنتاج أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، بسبب الالتزام بالقضايا القومية، مالت تدريجياً إلى السوريالية، وفي مرحلة أخرى نحو التعبيرية التجريدية، وخلقت ما يسميه الناقد فاروق بسيوني (الحداثة الواعية)، ولم تخل لوحاتها الراحلة من تأثر واضح بالسوريالية المصرية، لكنها مضت أكثر باتجاه التخلص من الطابع التجريدي الخالص، والبحث عن صلات للتزاوج بين التعبيرية المصرية ومعطيات الحداثة الغربية".

لقد عاشت سري حياة تجاوزت الـ90 عاماً، واتسم إبداعها بالتنوع والغزارة إلى درجة يصعب على أي ناقد حصر أعمالها في سياق واحد، بحسب محمود.

علامة بارزة في سوق الفن

جذبت إنتاجات جاذبية العديد من الجهات، عربياً ودولياً، وتتواجد لوحاتها في مجموعة مدام فرانسين هنريش في فرنسا، ومجموعة متحف قطر للفن العربي الحديث، ومتحف الفن المصري الحديث، ومتحف الفن الحديث في الإسكندرية، ومتحف جاذبية سري بمركز الفن بالشونة، والعجمي بالإسكندرية والقاهرة، وجريدة الأهرام بالقاهرة، مجموعة فنسنت برايس الفنية بلوس أنجلوس أمريكا، متحف جوزيف لدول عدم الانحياز بلغراد يوغوسلافيا، متحف الفن الحي بتونس، المتحف الوطني لفنون المرأة بواشنطن، معهد العالم العربي في باريس، متحف الفنون والعلوم في إيفانسيل إنديانا بالولايات المتحدة الأمريكية، ومتحف المتروبوليتان للفن في نيويورك.

رأى جاذبية سري مرتدية قميصاً طويلاً فوق بنطلون جينز أزرق، أما شعرها فقصير ومجعّد، بينما تضع فوق عينيها نظارة ذات زجاج سميك يكشف عن عطب واضح في القدرة البصرية، فتساءل: "كيف حافظت هذه السبعينية على حيويتها ونشاطها وتألقها؟"

وترى الدكتورة ريم حسن، الفنانة التشكيلية المصرية، أن لدى جاذبية سري من الخبرة والفن ما يؤهلها إلى "أن تكون في مصاف العالمية الحقيقية في تاريخ مصر الحديث والمعاصر".

أنتجت سري أعمالاً محسوبة على عدد من المدارس الفنية في القرن العشرين، بداية من المدرسة الواقعية، والتعبيرية، والتجريدية التعبيرية، إلى التجريدية الخالصة في نهاية مراحل حياتها، معبرةً عن تاريخ مصر، وحالات المرأة المصرية، بحسب ريم حسن.

لوحات الفنانة التشكيلية جاذبية سري، بحسب صفاء الليثي، ناقدة مصرية، "تعكس حساً أنثوياً مصرياً أصيلاً، فلوحة نشر الغسيل في تكوين راقص يعكس إحساسها بجمال نشاط حياتي عادي للنساء، رأت فيه جمالاً استثنائياً".  

"تسيطر الرماديات والخطوط التكعيبية على اللوحة الفريدة بين أعمالها التي تزدحم بالألوان، مثل: لوحة مراجيح أو امرأة من النوبة، ولوحاتها التي تعبر عن بهجة الحياة، وعن الاحتفاء بالنماذج التي ترسمها"، تقول الليثي.

"لوحة نشر الغسيل في تكوين راقص يعكس إحساسها بجمال نشاط حياتي عادي للنساء، رأت فيه جمالاً استثنائياً"

الدكتور خالد سرور رئيس قطاع الفنون التشكيلية المصري قال في تقديمه للمعرض الاستيعادي لجاذبية سري في ذكراها الأولى: "نحن أمام تاريخ حافل بالمبادرة لقامة نسائية رفيعة خاضت درب الفن التشكيلي كطليعة مفعمة بالجسارة، لتثبت مكانة ودور المرأة المصرية في كافة مجالات الحياة. عالم جاذبية سري سيكون مسرحاً للسحر والجمال، للتوثيق والبحث وتعميق الإدراك بتجربتها شديدة التفرد والثراء؛ هذه التجربة التي لم ولن تفقد طزاجتها ورونقها وقدرتها على الإدهاش، حيث أن للفنانة على مدار تاريخها مراحل فنية تنقلت خلالها عبر أساليب مختلفة في التعبير التشكيلي ما بين الواقعية الزخرفية ثم الواقعية التعبيرية تلاهما التجريدية والتكعيبية والتجريد العضوي والهندسي، ومع كل مرحلة أثبتت أنها موهبة مصرية لها طابعها الخاص". 

وأشار سرور إلى أن جاذبية سري تنتمي إلى الجيل الثاني من المصورين المصريين، الذين اهتموا بالتأكيد على أصالة الفنان المصري، فارتبطت أعمالها  بأحداث مجتمعها وبإحساسها العالي بقضايا الوطن التي عاصرتها خلال حياتها، مثل ثورة يوليو 1952، وبناء السد العالي، والنكسة، ثم انتصار أكتوبر، وغيرها من الأحداث الهامة".

ولدت جاذبية حسن سري في حي بولاق في وسط القاهرة في 11 تشرين الأول/أكتوبر 1925، وكانت أستاذة في كلية الفنون الجميلة، أقامت ما يزيد عن سبعين معرضاً فنياً لرسوماتها في العالم العربي وأوروبا والولايات المتحدة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image