في الفترة بين 4 وحتى 10 آذار/مارس من هذا العام، بدأت فعاليات مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية في دورته الحادية عشرة والذي يقام كل عام بمدينة الأقصر بجمهورية مصر العربية، يقدم من خلاله العديد من الأفلام التي تم إنتاجها داخل قارة أفريقيا، ويعتبر ذلك المحفل السينمائي بمثابة فرصة حقيقية تتيح لجميع المشاركين بالمهرجان الاطلاع على ثقافات مختلفة، حيث تنقسم مسابقات المهرجان إلى 4 مسابقات وهم: "الفيلم الروائي الطويل، الفيلم التسجيلي الطويل، الفيلم الروائي القصير، أفلام الدياسبورا / أفلام الشتات"، بين بلدان عدة، كبلجيكا، الكاميرون، مالي، المغرب، تونس، الجزائر، مصر، الكونغو، أثيوبيا وغيرها..
وبين هويات فيلمية مختلفة وثقافات متعددة، كان هناك بعض الأفلام الملفتة للنظر، كونها تتطرق لعوالم مميزة، ومن بين هذه الأعمال الفيلم التسجيلي المصري الطويل "شخوص عالمنا التحتي" سيناريو وإخراج هيثم شريف.
هوية الفيلم التسجيلي
يعتبر التعبير عن الطبقات المُهمّشة في المجتمع المصري عن طريق السينما أمراً طالما قُدم على مدار سنوات عدة، ثمة قصص مستوحاة من الحياة الواقعية وأخرى متخيلة، وأخرى مزيج بين هذا وذاك، وتكمن أهمية ذلك التعبير في طريقة التناول والتقديم بالأساس، فأي طريقة هي الأفضل، الطريقة التسجيلية أم الروائية؟ وهل هناك بالفعل أفضلية بين الأنواع السينمائية، أم أنها واجة المبدع ذاته وله كل الحق في اختيار الأطروحة والطريقة التي تلائمها ليقدمها بها للجمهور؟
قدم فيلم "شخوص عالمنا التحتي" مزيجاً من الطريقة التسجيلية والروائية، عن طريق سرد "أيمن فرغلي"، الفنان المُهمش، لقصة حياته وتطور فنه وتنوعه بين النحت على الحجارة وصنع الطائرات ولعب البلي وكم المتعة التي يشعر بها حين يُنجز عملاً فنياً من اللاشيء
ولطالما اختلفت الآراء حول طريقة طرح الحكاية الفيلمية، حيث اللغة السينمائية بذاتها التي وقفت كثيراً تائهة بين الروائي والتسجيلي، لا تعلم مسارها الطبيعي وإلى أي نوع ستستقر، فتوظيف عناصرها، من ألوان وصوت وإضاءة، يعتبر بمثابة العناصر الدخيلة على الواقع التي لا تسمح له بأن يأخذ براحه دون أي تدخل فني، في الوقت ذاته الذي يحتم على أي صانع عمل ألا يترك الواقع برحابته المعهودة داخل أفلامه، لذا فكل ما يتم إنتاجه من أفلام تسجيلية ما هي "إلا واقع تمت السيطرة عليه من قِبل المخرج" اختار أجزاءه التي يريد بلورتها، وحجب أجزاء أخرى لا جدوى منها، من وجهة نظره.
لذا فالفيلم التسجيلي واحد من بين أنواع عدة للسينما، يتوجه لحقائق لا ينقلها بكل حذافيرها، بل له حرفته الخاصة، وبعد كثير من الأقاويل والتخبطات، قرر الفيلم التسجيلي أن يكون نوعاً لا يقل فنية عن أي نوع آخر، ووعى بأن تقديمه يتطلب جهداً كبيراً من قِبل صناعه لتحقيق مزج قوي بين تقديم الحقائق التي يريدون نقلها، تزامناً مع خلق صورة فنية تعبر عن الأحداث المذكورة، واستغلال باقي العناصر السينمائية الأخرى، من أصوات وألوان وزايا ولقطات، حتى يظهر الفيلم منضبطاً يجذب المُشاهد طوال أحداثه.
أما عن اختيار الأطروحة ذاتها، فهو يعتبر النقطة الأولية في بناء مشهدية الفيلم، فأي عالم سيتم التطرق إليه إذن؟ فالمتلقي بصفة عامة طالما التقى بشخوص من كافة العوالم على مدار تاريخ السينما، ومن هنا تأتي الخطوة الثانية للمبدع حول بحثه عن طريقة التناول، حيث يضع في الاعتبار دائماً وأبداً أن المتلقي من الممكن أن يكون قد شاهد مثل هذه الشخصيات وهذه المهن، سواء على المستوى السينمائي أو حتى الحياتي، ومنها يبدأ للإشارة نحو تفاصيل خاصة تميز منتجه السينمائي عن غيره، حيث رصد الواقع المُضاف إليه الحس الدرامي، حتى يصل للمتلقي ويشعر فيه بشئ من الحميمية والتوحد مع شخوصه.
اختيار أماكن التصوير
بدءاً من العنوان "شخوص عالمنا التحتي" الذي ينم عن أنه سيذهب نحو شخوص حقيقية لا مُمثلة، تنتمي للعالم ذاته الذي ننتمي له، ولكنها في رقعة أخرى منه لا ننتبه لها في كثير من الأحيان.
قدم الفيلم مزيجاً من الطريقة التسجيلية والروائية، عن طريق سرد "أيمن فرغلي"، الفنان المُهمش، لقصة حياته وتطور فنه وتنوعه بين النحت على الحجارة وصنع الطائرات ولعب البلي، وكم المتعة التي يشعر بها حين يُنجز عملاً فنياً من اللاشئ، حيث الحجارة والبلاستك ونظرة الناس المعتادة لهم على أنهم أشياء غير نافعة، بل وفي بعض الأحيان يعتبرونها مجرد "قمامة" ولا فائدة منها، ليتوجه أيمن نحو خوض تحد من نوع خاص، ويصنع من عشوائية وقمامة الأشياء فناً خالصاً، حيث يرى بهذه الأشياء ما لا يراه آخرون، فبمجرد أن يرى حجراً أمامه يبدأ بتشكيلها في ذهنه، ومن ثم يشرع بنحتها حتى يقدمها كتحفة فنية شديدة الدقة والجمال، ولذلك قُدمت أغلب مشاهد الفيلم داخل بيئة أيمن ذاتها لا داخل أستوديو ولا شارع آخر أكثر هدوًء مما تم التصوير فيه، لوضع المتلقي داخل تلك البيئة التي ربما يراها البعض مزدحمة مزعجة، لتراها بذاتك داخل الفيلم بعين أخرى، فهي بيئة مُلهمة لذلك الفنان، ولولا تواجده فيها ما استطاع أن يُنجز فنه.
أيمن طفلاً
وعلى الجانب الآخر، قصد المخرج أن يلعب لعبة درامية تُحدث نوعاً من التماهي بين السرد والصورة، عن طريق رصده بالكاميرا لأشكال الحجارة قبل عملية النحت وبعدها، وكذلك الاهتمام بشريط الصوت الذي لم يغفل أن ينوع بداخله بين أصوات الخبط والطرق الخاصة بعالم الحجارة والعمال، وموسيقى أخرى هادئة تظهر في لحظات تواجد أيمن بمفرده وهو يمارس أدائيات حركية فريدة مع حاله، تجعله يبرز من خلال تلك المشاهد تفاصيل الشخصية ومكنونها النفسي التي عجز السرد عن قولها، بين معاناته التي يعانيها من عدم تقبل الناس لمظهره ومُنجزاته الفنية الفريدة، قصص حبة الفاشلة وعجزه الظاهر وقدراته الباطنة وغيرها من التفاصيل.
ومن هنا، نجح الفيلم في أن يقدم تلك الثنائيات المضادة دون أن يُحدث نشازاً لأنه يعي أنه يقدم نفساً بشرية في المقام الأول لا مجرد تسجيل لتلك الظاهرة التي تبدع على الحجارة فقط.
والدليل على ذلك أنه مثلما اهتم بالذهاب نحو عالم النحت على الحجارة، لم يغفل أن يقدم مشاهد لعب أيمن مع أطفال عطفته بالبلي، ورصد تفاصيل وجهه وما يحل عليه من سعادة بالغة وهو يعاون هؤلاء الصغار على الكسب ويلعب معهم، وكذلك الحال حين يعاونهم في صنع طائرات من أكياس البلاستيك، بل والأصدق من ذلك هو الاهتمام بالتعبير عن شعوره حين يسحب الهواء الطائرات ويصبح هناك قوى أخرى تجبره على الاستمرار والجري مع الطائرة وإلا سقطت أرضاً.
وهذا الاهتمام لم يكن بغرض رصد تفاصيله وحدها، بل هي مقاربة درامية أيضًا من نوع خاص، قصدت أن تضع ذلك الفنان الجالس على كرسي متحرك في وضع شبه مع تلك الطائرات وتلك القوى الأخرى، وما لديه من شغف يحركه ويجبره على الاستمرار لا الاستسلام والوقوع أرضاً.
أما عن اختيار النموذج لتقديم الفيلم عنه، فهو نموذج درامي خصب على كافة مستوياته، فهو شخص عاجز يعاني من مشكلات عدة في يده في الوقت نفسه يقدم فناً صعباً للغاية، يحتاج ليد قوية غير عاجزة، وكذلك مظهره -وهذا وفقاً لما ذُكر على لسان أيمن بذاته داخل الفيلم- المخالف للشكل الاعتيادي للفنان، وأيضاً طريقة سرده لمعاناته ولفنه ولمراحل تطوره وفشله بين كلمات حزينة تظهر على وجه مبتسم وبشوش طوال الوقت، ليكن النموذج بذاته هو تلك المادة الرحبة التي سمحت بإيجاد العديد من المناطق المتقابلة التي استطاعت أن تصنع حالة متناغمة بين ما هو تسجيلي وما هو درامي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين