شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عندما وضعت الحجاب مقابل خمس وعشرين ليرةً وخلعته بإرادتي

عندما وضعت الحجاب مقابل خمس وعشرين ليرةً وخلعته بإرادتي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحريات الشخصية

الخميس 27 أكتوبر 202210:26 ص

عندما كنت محجبةً، كان من الصعب إيجاد عمل براتب جيد. لكن بعد أن خلعت الحجاب لأسباب عديدة، عُرض عليّ العمل كمصوّرة وموثّقة لشركة سفر وسياحة، تستقبل الوفود الشيعية من مختلف الدول بغرض زيارة الأماكن المقدسة وإتمام الطقوس الدينية، وشرطهم الأساسي كان وضعي الحجاب في أثناء العمل. شعرت بحجر يسقط على رأسي، لكن حاجتي إلى العمل جعلتني أقبل.

لم ينجّني الحجاب من الطرد من أحد المقامات الدينية، بالرغم من ارتدائي ملابس فضفاضةً، فشكل الحجاب على رأسي لم يعجب ذلك الحارس، فانتفض بغضب وكاد يضربني طالباً مني الخروج بإشارة من سبابته، وتعابير القرف والامتعاض على وجهه. أجبته بأني أعمل، لكنه لم يهتم، فطرف عنقي لا يجوز أن يظهر في مكان مقدّس.

ولا تغيب عن ذهني تلك السيدة العراقية عندما توجهت نحوي بسرعة وأنا أصوّر، لتسألني: "لماذا تضعين الحجاب هكذا يا بنتي؟". أجبتها: "لست محجبةً يا حجة، لكني أضعه هكذا في العمل"، لتعود متسائلةً: "وليش ما تتحجبين؟". أول ما تبادر إلى ذهني، هو أن أقول لها: "أنا مسيحية"، حتى أختصر سجالاً بيني وبينها قد يطول، وبالتأكيد طُردت من العمل بعد مضي مدة العقد، وبقيت زميلتي المحجبة لتقوم بالمهام.

تذكرت دعوة والدي لي ولأختي عندما كنت في الصف الابتدائي الخامس، للجلوس بعد الصلاة، راسماً تعابير ودودةً على وجهه، قائلاً: "أصبحتن كبيرات، وعليكن ارتداء الحجاب، لأن ديننا أمر بذلك، ومن ترتديه سأزيد مصروفها إلى خمس وعشرين ليرةً بدلاً من خمس ليرات". ولأني كنت طماعةً بعض الشيء، فكرت في الأمر قليلاً، في حين لم تعِر أختي الأمر أي اهتمام يُذكر. وبعد أسبوع أو أقل من التفكير، استيقظت صباحاً وذهبت إلى المدرسة مرتديةً الحجاب. بدأت أختي بالانزعاج لأن جميع أقاربنا يمدحونني وينظرون إليها بضغينة، لأنها الأكبر ولا زالت تكشف عن شعرها للغرباء. ظل المديح والذم رفيقينا إلى أن ارتدت الحجاب مكرهةً، لتخلعه بعد سنوات عدة لعدم اقتناعها. ظن والدي حينها أنها ستعود إلى ارتدائه مجدداً، فلم يبدِ أيّ ردة فعل سيئة نحوها. أما أنا، فأخافني الأمر ولم أمتلك الجرأة الكافية، حتى أصبحت في الحادية والعشرين من عمري، وبدأت الأفكار تخالج دماغي. أنا لم أحب الحجاب مطلقاً، بل أحببت الجائزة التي حصلت عليها لمرة واحدة فقط.

"لماذا تضعين الحجاب هكذا يا بنتي؟". أجبتها: "لست محجبةً يا حجة، لكني أضعه هكذا في العمل"، لتعود متسائلةً: "وليش ما تتحجبين؟". أول ما تبادر إلى ذهني، هو أن أقول لها: "أنا مسيحية"

بعدها سألت نفسي: ما هو شعور الحرية؟ كيف ينساب الهواء بين خصلات شعري، بينما أركب الحافلة إلى الجامعة؟ هل سأترك شعري طويلاً أم أقصّه؟ كيف لم تفرض الأديان الأخرى الحجاب بالرغم من أن المعبود واحد، وهو "الله"؟ وكيف لله أن يتقبل علويةً أو درزيةً أو مسيحيةً بلا حجاب، ولا يتقبل سنّيةً من دونه؟ الله يراني في المنزل من دون حجاب، فكيف له أن يغضب عندما أخرج إلى الشارع بشعري المجعّد؟

عندما كان والدي يهمّ بالوضوء والصلاة، كنت أراقبه وأسأل نفسي: لم لا يرتدي غطاء صلاة كالنساء؟ ولماذا يستطيع الصلاة ببنطاله الذي كان يرتديه طوال النهار، بينما أنا يجب أن أرتدي تنورةً فضفاضةً وغطاءً يغطّي كل جسدي ما عدا وجهي وكفّيّ، حتى أصابع قدمي ممنوع عليها الظهور لأن الصلاة ستبطل؟ وهل احترام الله مقرون بحجاب له شكل معيّن؟ إذاً، الرجال لا يحترمون الله.

كانت أولى خطواتي لنزع الحجاب، بتحويله من شكل إلى آخر؛ من حجاب كامل إلى "توربان" بحجة الموضة. لم تمانع أمي الأمر، فهي تحب الصيحات العصرية، عدا عن أن "التوربان" يليق بي. لكن في كل نقاش معها حول خلعي الحجاب، كانت تتذمر وتصبح أكثر خوفاً من كلام الجيران وأهل المنطقة، وذمّهم لتربيتها، وتفكر في ردة فعل أقاربنا، خاصةً أننا من المسلمين السنّة، وتنهي الحديث بجملة مقتضبة: "هذه ليست ابنتي، لم يكن تفكيرك هكذا"، بالرغم من أنها كانت تلعن الحجاب أحياناً، وتتمنى لو تخلعه هي الأخرى. استهجن أصدقائي الأمر في البداية، ولم يعدّوه حجاباً، فشرط الأخير تغطية الرقبة لا الشعر فحسب، ولكن سرعان ما اعتادوا على شكلي بالتوربان.

كان خوف أمي مبرراً بعض الشيء، فالحي الذي كنت أسكن فيه شعبي ويُعدّ من العشوائيات، ويكاد يكون أقرب إلى الأحياء الفقيرة، وغالبية سكانه من المسلمين السنّة، وقلة من الدروز، أضف إليهم الناس الذين تهجّروا خلال الحرب وتوجهوا للعيش فيه، حتى أصبح مزيجاً من المحافظات السورية، مثل درعا ودير الزور وإدلب وغيرها. ويكاد الحي لا يخلو من "الزعران" بعدما حدث هذا الخليط، ونتيجةً لذلك كنت أسمع عشرات "التلطيشات" من شبان الحي، لأن لباسي كان على الموضة وفيه بعض الألوان الجريئة بالنسبة إليهم.

شعرت بحرية ألا أخبّئ الحجاب في حقيبتي، وكنت أنا، بلا قيد على رأسي، وبلا قماش يغطّي أفكاري. نظرت إلى السماء وقلت لله: "هذه أنا، هل ستتقبلني؟

لكن في كل مرة أخرج فيها من المنزل مرتديةً الحجاب، كنت أشعر بشيء ما يكبّلني، ولا يشبهني. أنظر إلى الفتيات غير المحجبات وأحفظ تفاصيل تسريحات أشعارهنّ حتى أطبّقها على شعري الذي لا يتنفس. وبعد احتفالي بعيد مولدي الثاني والعشرين، في إحدى مقاهي دمشق القديمة، وعودتي مع صديقتي المقربة، سألتها المشي في الأزقة الضيقة، فهي تخلو من الناس إذ الجميع يحتفلون بميلاد المسيح. انتهزت الفرصة وخلعت قبّعة الصوف التي كانت تقيّد شعري وتخنقه، وتنفست للمرة الأولى بعد أكثر من عشر سنوات. شعرت برأسي يتحرر، والهواء البارد يتخلل شعري الملتصق ببعضه. توقفت لوهلة وفكرت: أنا لا زلت الفتاة نفسها التي كانت ترتدي الحجاب، ولم أصبح "سافرةً" كما يقول البعض، فلماذا ينعتون من لا ترتدي حجاباً بهذه الصفة؟

اكتشفت حينها أن الحجاب للمجتمع وليس لله. تكررت محاولاتي هذه، ففي المرة الثانية التي شجعتني فيها صديقتي، كنت أرتدي التوربان في مكتب كنا سنحوله إلى مكان عمل لنا. الجو كان صيفياً بامتياز، والعرق بدأ يتصبب من جبيني. بالرغم من ترددي، لأن شريكنا الثالث في العمل كان شاباً، إلا أنني خلعته إلى أن انتهينا من عملنا، وعدت إلى وضعه مجدداً بعد خروجنا. على من أكذب؟ أنا لا أحب قطعة القماش هذه، وفي داخلي أنا على يقين بأن الله لن يعاقبني -كما يزعمون- فأنا لا أكذب عليه، كما أنه لم يذكر في القرآن آيةً واضحةً تفرض الحجاب كغطاء للرأس، بل كلها كانت بمعانٍ أخرى، كالآية 5 التي وردت في سورة فصلت: "وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ"، وتعني كلمة حجاب هنا، حاجزاً فكرياً وعقائدياً. وكذلك الآية 53 في سورة الأحزاب: "وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ"، أي من وراء جدار أو ستارة من القماش وليس زيّاً يغطّي الرأس.

في كل مرة أخرج فيها من المنزل مرتديةً الحجاب، كنت أشعر بشيء ما يكبّلني، ولا يشبهني. أنظر إلى الفتيات غير المحجبات وأحفظ تفاصيل تسريحات أشعارهنّ حتى أطبّقها على شعري الذي لا يتنفس

كان طلاق أبي وأمي حدثاً مفصلياً في اتخاذي القرار. فبعد انفصالهما وانتقالي مع أمي للعيش وحدنا في حي أكثر انفتاحاً، وغالبية سكانه من الطائفة العلوية والمرشدية، حسمت أمري وكان قراري بالخروج من المنزل من دون غطاء رأس، مهما حدث. وضعت والدتي تحت الأمر الواقع بحجة "أن يعتادوا عليّ من دون حجاب منذ البداية أفضل".

خرجت للمرة الأولى كفتاة غير محجبة، وبدت نظرات الناس إليّ مخيفةً، وكأنهم يعلمون بأمري. لكن هذا ما كان في داخلي فقط. شعرت بحرية ألا أخبّئ الحجاب في حقيبتي، وكنت أنا، بلا قيد على رأسي، وبلا قماش يغطّي أفكاري. نظرت إلى السماء حينها، وقلت لله: "هذه أنا، هل ستتقبلني؟".

مشاهدتي لما حصل في إيران مع مهسا أميني وغيرها من الفتيات، جعلني أتساءل مجدداً: لماذا يلحق كل هذا الظلم بالنساء عندما يطالبن بعيش حياتهن كما يردن؟ ولم تكون قراراتهن مرتبطةً بكل المجتمع، بينما يجب أن تكون أمراً شخصياً ولا أحد له الحق في التدخل فيه؟

بالرغم من هذا كله، لم أنشر حتى الآن أي صورة لي على مواقع التواصل الاجتماعي بشعري المتوسط الطول، نزولاً عند رغبة أمي، كي لا أعرّضها للاتهام والفضيحة، ولا زلت أنتظر ردة فعل أخي المسافر الذي تبرّأ مني فور حديثي معه في أمر قراري خلع الحجاب، وقد تمنى عدم اللقاء بي مجدداً. وأبي الذي لم يرَني بعد خلعي الحجاب: هل سيطالب بالخمس وعشرين ليرةً التي حجّبني بها؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard