يحدث أن نتلقّى إبداعاً ما فنحبس أنفاسنا ونبتلع لغتنا ونكتفي بالاستمتاع، بل بالتنعّم بالجمال، وحين نحاول وصف جمال ما نجد أنفسنا نوغل في المزيد من العجز، ويسحبنا الصمتُ إلى مزيد من تأنيب الضمير لإحساسنا بأننا شيطان أخرس ساكت عن الجمال. هذا تماماً ما حدث لي بعد أن وقعتُ عام 2021 مع طفليَّ على كنز اسمه "دنيا".
سلسلة أنيميشن موجهة للأطفال باللغة الفرنسيّة، من إبداع السورية الكندية ماريا ظريف نصّاً ورسوماً، نُشرت حينها على شبكة تلفزيون Télé-Québec، لتنطلق بعدها حاصدةً مجموعة من الجوائز، وتتحوّل إلى قصّة مطبوعة، ومن ثمّ إلى فيلم سينمائي تمّ عرضه مؤخّراً للمرّة الأولى في مدينة مونتريال.
سلسلة Dounia
تتألّف السلسلة من حلقات ست مدّة كلّ منها ثماني دقائق. ودنيا هي طفلة من مدينة حلب، رسمتها مبدعتها ماريا ظريف بخطوط تشبه انسيابيّة حبِّ حلب في عروقها، فجاءت تشبهها وكأنها من لحم ودم، وكأنّها أنجبتها حقيقةً.
تعيش دنيا في فترة الحرب في بيت من طراز بيوت حلب القديمة مع جدّيها "جدّو درويش" و"تيتا مونة"، بعد أن توفّيت أمّها لسبب لا توضحه السلسلة، وبعد أن غيّب السجنُ والدَها لأسباب مجهولة كذلك.
تبشّر تلك الطفلة الرقيقة أطفالَ سوريا الذين انتُزعوا من مدنها وحاراتها، أو الذين وُلدوا في المغتربات، بتفاصيل صغيرة يعرفها السوريون جيّداً؛ فمن البحرة التي تتوسط فسحة الدار وتسبح في مياهها بطيخة بالضرورة، إلى لمّة الجارات في "الصبحيات" وشرب القهوة وقراءة الفنجان، إلى صنع مربّى الباذنجان ونشره على السطوح، إلى عبق صابون الغار، وصنع الجبنة "المشلّلة"، وإضافة تلك الحبات السوداء الساحرة المسمّاة بـحبّة البَرَكة من أجل إغنائها بطعم لذيذ والمزيد من الفائدة.
"دنيا" سلسلة أنيميشن موجهة للأطفال، من إبداع ماريا ظريف التي تمنح بعضَ مفردات التراث السوري فعلَ السحر لتنفذ إلى قلب ذلك الطفل الذي لم يتسنّ له معايشتها على الأرض السوريّة
تعرّف دنيا أطفالَ الشتات السوري بأسواق حلب، ومحالها وباعتها، وبالرغم من خيار مشاهدة السلسلة باللغتين الفرنسية أو الإنكليزية، تحرص المؤلفة ظريف على تضمين السيناريو مفرداتٍ من القاموس الحلبي بشكل يضفي نكهةً فكاهية على السياق المحزن، مثل: "ولي على قامتي، أبوس روحو، واخ عليي، إلخ". حتّى اللهجة الفرنسية التي تتحدّثها الشخصيات هي لهجة مطعّمة باللّهجة الحلبيّة كون المتحدّثين بلسان كثير من الشخصيات حلبيين، مثل شخصية تيتا مونة. أما عن الحزن، فتقدّم دنيا لمحة عن المأساة السوريّة عبر لمحات شفيفة، حيث لا يكفّ المشاهدون سواءً أكانوا أطفالاً أم بالغين عن البكاء تارةً، والضحك تارة أخرى على مدار الحلقات.
يمطرني طفلاي بالتعليقات والأسئلة عند كلّ جملة:
_ ماما، إن جاء أحدهم إلى بيتنا وقام بفعل "بيون بيون"، هل نترك أغراضنا ونهرب أو نأخذها معنا؟
_ ماما، لماذا والد دنيا في السجن؟
_ ماما، لا أحبّ أن يُهدم بيت دنيا ويموت عصفورها!
_ ماما ماذا يعني "حرب"؟
_ ماما هل يعيش جدّو وتيتا في حلب؟
_ ماما، ليتهم يصنعون جزءاً ثانياً من دنيا كي تعود دنيا وجدّاها للقاء بجارتهم مدام دبّوس والباقين.
"الأطفال يعرفون كلّ شيء"
"الأطفال يعرفون كلّ شيء"؛ جملة ترد على لسان إحدى قطعتي الآثار القادمتين من بلاد الرافدين، واللتين كانتا موضوعتين في إحدى زوايا بيت دنيا، حيث كانتا تصغيان إلى حديثها مع جدّيها وهي تطرح عليهما أسئلة متعلّقة بغياب والديها، فيجيبانها بإجابات مواربة رفقاً بطفولتها، مثل أن أمّها ذهبت إلى السماء، وأنها تراها الآن.
يضطر جدّا دنيا لاتخاذ قرار السفر بشكل سريع بعد نزول قذيفة في منزلهم أودت بحياة عصفور دنيا. وتضطرّ دنيا لوداع صديقها "سامي" الذي يبقى في حلب. يسافرون في شاحنة برفقة بعض الجيران، عابرين حقولَ الفستق الحلبي، وأودية الزيتون، باتجاه الحدود السورية التركية.
يغضب طفلاي حين ينزلهم السائق قبيل الحدود التركية طالباً منهم الإكمالَ سيراً على الأقدام. أغصّ بالدمع مردّدة في أعماقي بأن هذا ما تفعله الحرب، الدمار والتهجير وفراق الأحبّة.
يعودان إلى الغضب حين يواجه جنودُ الحدودِ دنيا ومن معها بمنع اجتيازها. يصرخان معهم:
- .Open the borders... Open the borders
وهنا تتدخّل دنيا التي خبّأت بضع حبّات بركة في جيبها لترمي واحدةً منها أمام الجنود، وإذا بهم يتراجعون ويهربون، فتنفتح الحدود أمامهم ويستطيعون العبور.
يركب النازحون القارب الصغير متّجهين نحو مجهول يأكل قلبَ دنيا الصغير. وفجأة تهبّ الرياح، ويتحوّل القارب إلى كرة تتراشقها الأمواج، فتخرج دنيا حبّة بركة ثانية لتهدأ العاصفة، وتظهر أميرة حلب الشخصية الغامضة التي ترافق دنيا في الأوقات الصعبة وتمسح شعرها وتطمئنها.تقدّم ماريا ظريف صورةً عن صعوبة طريق النزوح السوري بدقّة عبر مشاهد متتالية، منتقلةً من مشهد الحدود إلى مشهد الشاطئ قبيل ركوب البحر بأحد قوارب الموت. وهنا يُطلَب من تيتا مونة تركُ علبِ الطعام الزجاجية (قطرميزات الجبنة والمربّى والبسطرما) على الشاطئ، لأنّه لا مجال لهذا الحمل الثقيل.
يصل القارب بعد ذلك إلى شاطئ الأمان، ومن هناك يفترق مَن كانوا جيراناً ويذهب كلٌّ منهم إلى البلاد التي ينوون التوجّه إليها، أمّا دنيا وجدّاها فلا يستطيعون أخذ القطار المتّجه إلى ألمانيا لأنّ الموظف أخبرهم بامتلائه بالمهاجرين فما من أماكن متوفرة.
يقاطع ابني الذي لم يبلغ بعد السادسة من العمر بغنائه سلسلةَ أفكاري: أنا على ديني، جنّنتيني... فأبتسم وأهمس لنفسي جملة قالتها لي ماريا حين أخبرتها أنّه باتَ يغنّي هذه الأغنية دائماً: "تمّ التلقيح"
تقيم دنيا وجدّاها في أحد المخيّمات المقامة للنازحين، حيث البرد والحزن يلفّ الخيام، وحيث تعرّفت إلى أشخاص كثر سمعت قصصهم، وحكت لهم عن أبيها الذي في السجن وأمّها أميرة الغيوم.
وفي غمرة القلق، تقرّر دنيا كتابة رسالة إلى المنزل الأبيض الجديد الذي ينتظرهم في مكان ما، والذي رأته جارتهم مدام دبّوس في فنجان قهوة تيتا مونة، فتطعم صابونة غار بشكل عصفور كانت قد وضعتها في جيبها قبل خروجهم من منزلهم حبّةَ بركة كي تستطيع الطيران وإيصال الرسالة. وعلى الفور تتحوّل صابونة الغار إلى طائر يحمل الرسالة، ويوصلها إلى أرض بعيدة مغطاة بالثلج ويستلمها أصحاب منزل جديد يقرؤون الرسالة ويقرّرون استقبال دنيا وجدّيها في منزلهم.
وتستكمل المؤلّفة عملها الاستثنائي هذا بصناعة فيلم تحت عنوان Dounia et la princesse d’Alep (دنيا وأميرة حلب) التي ليست إلا أمّها ليلى التي التقت والد دنيا في أحد الأيام في حقول الفستق الحلبيّ، فتحابّا وتزوّجا وأنجبا دنيا، من ثمّ مرضت وماتت.
أسّست ماريا ظريف فيلمها على مشاهد السلسلة بشكل رئيسي، ولكنّها قامت بإغناء كلِّ مشهد بشكل ضاعفت فيه من جرعة الجمال، وكثّفت المحتوى الذي عملت على تقديمه في السلسلة.
تحرص المؤلفة ظريف على تضمين السيناريو مفرداتٍ من القاموس الحلبي بشكل يضفي نكهةً فكاهية على السياق المحزن
هكذا تمنح ماريا ظريف بعضَ مفردات التراث السوري فعلَ السحر لتنفذ إلى قلب ذلك الطفل الذي لم يتسنّ له معايشتها على الأرض السوريّة وسط عائلته الكبيرة، ولم يتنعّم بدلال بيت الجدّ، ولم يشمّ رائحة طعام الجدّات، ولا رائحة صابون الغار في الحمّامات، ولم يذق متعة اللعب في الحارات، والجلوس على أبواب الجيران، وكأنّها تريد أن تقدّم لأطفال الشتات السوري لقاحاً من نوع خاصّ، يتمّ تلقيحهم به وإذا بهم يكبرون وهم يعون شيئاً من تراث لم يسعفهم القدر أن يشبّوا في أحضانه.
وتدعم الموسيقى التصويرية الهدف نفسه من خلال انتقاء مقطوعات أغانٍ كبر عليها السوريون من مثل موسيقى أغنية "فطّوم فطّوم فطّومة" و"يا طيرة طيري يا حمامة".
يقاطع ابني الذي لم يبلغ بعد السادسة من العمر بغنائه سلسلةَ أفكاري فيما أحاول الكتابة:
أنا على ديني
جنّنتيني
على ديني العشق حرام والله
فأبتسم وأهمس لنفسي جملة قالتها لي ماريا حين أخبرتها أنّ جول باتَ يغنّي هذه الأغنية دائماً: "تمّ التلقيح".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين