شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"زنا" الأعرابية… الحديث والنظر والأحضان والقُبل (1-3)

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

الأربعاء 9 نوفمبر 202202:39 م

"ذلك الخطاط كتب ثلاثة خطوط؛ واحد قرأه هو وليس الغير، واحد قرأه هو والغير، واحد لا هو قرأه ولا الغير. أنا ذلك الخط الثالث". (شمس الدين التبريزي) — صفحة تحررها مريم حيدري 


يحبّ يوسف الطاقة الأنثوية بشكلها المادي المحسوس؛ هذا الإيقاع الذي يوحد روحَه ونفسَه وحسَّه وعقله في موجة واحدة، ويأخذه الجسد الأنثوي إلى النشوة، الأورغازم.

مؤخراً، بات الإيقاع يفقد تناغمه في المرحلة الأخيرة؛ ترفض شريكته، وأخرى، وأخرى، أن تبلغ إلى ذلك الحد. ترك القاهرة وإسكندريتها نحو مكان يحمل أنفاس التحرر الغربي، ويمتزج بحرارة لوعته، يجننها ويفجرها.

التقى بروسية، وباتت العلاقة واعدةً بما لم يجده عند صديقاته القاهريات والإقليميات والإسكندرانيات. ولكن توقف الإيقاع مرة أخرى. أخبرته أنها ستمارس التانترا؛ تلامسٌ مصاحب لأنفاس محسوبة، لعامين ونصف، حتى إن يبلغا الذروة فيما يبلغا، يختبران أحاسيس أكثر جنوناً، وأشد عمقاً.

كانت أولى نصائحه لي، عندما سافرتُ إلى ذهب، أن أتحاشى الروحانيين، لأنهم "معقدين وحيعقدوك في عيشتك".

واسعة الحبل

كل إحساس حيّ يصعب تجسيده حتى في كلمات. جاهداً حاول صديقي أن ينقل عبر الكلمات وتعابير وجهه وجسده، ودرجات حدة صوته ونغماتها، إحباطاتِه مع النساء، والتي بلغت فيه مدى إلى أن ردّها للعنة سحرية أصابت جدَّه الكبير، الذي يمثل كما لو كان النبي سليمان بين أجداده، فقد حاز الثروة والسلطة والحكمة. وحاولتُ أنا على الضفة الأخرى، أجاهد في أن أنقل له بكلماتٍ هذا الحضورَ الأنثوي المكتنز باحتمالات لا نهائية من المتعة، والشغف، والمغامرة، وبما يحوطها من غموض، وهلوسة، وجنون، كما لو كانت أصابتني بركةٌ من أشباحي وآلهتي الصغيرة، إيزيس والهندي الأحمر وماريا.

دائماً في هذا السياق تحضر لي قصة جدّتِنا، تلك المرأة الأعرابية، التي ربما كانت تسكن في نجد أو ثقيف، صادفت رحالة في الزمن الإسلامي الأول، وأراد أن يواقعها، وتمنعت عليه غاضبة، وسائلة في حيرة: ماذا تريد؟

- أريد أن أزني بك.

- فما الزنا عندكم؟

- أن يجلس أحدنا بين شعبها الأربع ويجهد نفسه.

- والله ما هذا بزنا، إنما أنت طالب ولد؟

- إذاً، فما الزنا عندكم؟

- إنما هي الأحضان والقبل.

هذه الرواية، التي حفظتها ذاكرتي من قراءاتي الأولى، وربما خدعتني، كانت على لسان امرأة. ولكن عندما أعود لما ذكره ابن قتيبة في "عيون الأخبار"، وربما عندما يوردها إسلاميون وصوفيون يؤثرون، يُرجَّح أن يكون الكلام على لسان رجل أعرابي، منزوع من سياقه، مثلما أورده الإمام ابن الجوزي في كتاب "أخبار النساء".

لا أنسى صديقتي الفرنسية وأنا أشرح لها ماذا تعني المرأة متعددة العلاقات الجنسية باللغة العربية، يعني "شرموطة"، وأنا أتحدث عن أنها كلمة تعني الحرمانية والوصمة. فتنتها الكلمة وقالت لي، ثم قالت لأصدقائي المصريين بعد ذلك، كلمتها الأثيرة، التي أُخذت عنها: "أنا شرموطة بس مبسوطة" 

وكلمة أعرابي تحمل معنى أشد تخلفاً من وصمة "فلاح" عند الحضريين القاهريين، وأشد فحشاً وإنكاراً من كلمة "شرموطة"، التي توصف بها المرأة التي لا تردّ يد لامس، أو "واسعة الحبل"، يقول شاعر أعرابي:

ألمّا على دار لواسعة الحبلِ/ألوفٌ تسوّي صالح القوم بالرّذلِ

يبيت بها الحدّاثُ حتّى كأنّما/يبيتون فيها من مدافع من نخلِ

ولو شهدت حجّاجُ مكة كلّهم/لراحوا وكلّ القوم منها على وصلِ

و "واسعة الحبل"، هي كناية عربية عن كثرة ممارسة الحب. ولن يصمك أصدقاؤك، المتفهمون لمشاعرك، بأنك "قرون". انظر إلى هذه القصص الواقعية التي تداولها أجدادك بقبول حسن، وسارت مركب الأمثال: ذهب رجل إلى رسول الله فقال له إن امرأتي لا تردّ يد لامس، فأوصاه بأن يتركها. فقال له: "أخاف أن تتبعها نفسي"، فقال له: "استمتع بها".

وبعد مرور أجيال على وفاة محمد، قيل لرجل في امرأته، وكانت لا تردّ يد لامس: علامَ تحبسها مع ما تعرف منها؟ فقال: "إنها جميلة فلا تفرك، وأمّ عيال فلا تترك"، كما تناقلتها كتب الأخبار والرواة.

الإسلام مفجر الشهوات

وأكثر ما آخذ به على أجدادنا الحضريين، الذين يمثلون النخب الثقافية في العصور الإسلامية الأولى، الأموية والعباسية، انغماسُهم المسرف في الملذات الجنسية، وخلوّها من دفء المشاعر، إلى الدرجة التي كانوا يفضلون بها الغلمان والرجال المخصيين على النساء، كما حكى ودافع الجاحظ في الجزء الأول من كتابه "الحيوان".

وكما قال أحد التابعين، مكتشفاً نمط اللذة الإسلامي الجديد: "والله لو حرم الله البعرة لأكلوها".

فلقد أطلق القرآن الخيال الجنسي، وجعل من الممارسة الجنسية المحرّمة دراما وتمرداً، بدلاً من أن تكون لذةً تقنية منزوعة السياق والإحساس، تماماً كما تصفها مفردة "الجنس" الغربية الباردة، والتي لم يكن ليألفها عربي، غريبٌ ذوقه عن النزعات الحضارية الصناعية، اللهم إلا تشبهاً بأممٍ سبقته في ذلك شأواً بعيداً.

فجّر الإسلام شهوات العرب، وربطهم بالكلمة العربية، كيف وقد اختار الله الذي ليس كمثله شيء رجلاً منهم ليحمله رسالته الخاتمة، واصطفى واحداًَ من سلالة هاجر، الأم الكبرى التي اختارت أطهرَ مكان على الأرض، مكة، وتخير الله بين اللغات، فانتقى العربية لتكون لسانه للعالم أجمع، خاصة أمام أهل الكتاب والحضارة من الفرس والرومان، التي كانت تستثير غيرتهم، فباتت تثير شهوتهم للغزو والامتلاك والمتعة.

رفع  الإسلام من شأن الحالة الاستمتاعية بالملذات عندما حرّمها، وخلق تلك الدراما التي تعصف بأرواح المسلمين عندما يرتشفون رشفة من النبيذ، أو يقبلون امرأة "أجنبية"، وتهتز قلوبهم طرباً وفرَقاً، وهم يتخيلون عرش الله يهتز من فوقهم لما يقترفون من إثم، وسريرهم يضطرب لما يفعلون من حب.

من القصص التي شاعت في الخيال الإباحي للمسلمين المتقين، أن أبي الطمحان القبني قيل له: أخبرنا عن أقبح ذنوبك؟ فحكى لهم حكايةَ ليلةِ الدير، وتخيل العنوان بحس ديني إسلامي منغلق كما كان في سالف الأيام، قال لهم: "نزلت على نصرانية، فأكلت طفشلاً بلحم خنزير، وشربت من خمرِها، وزنيت بها، وسرقت كساءها، ومضيت".

صمتت، والصمت في العربية هو السكون الذي له معنى غير السكوت، محدقاً إلى نجوم السماء حيناً، وإلى ذرات الرمال بجوارنا على أرض مدينة دهب، المضاءة تحت القمر، حيناً آخر، متذكراً مساكن الديرة في السعودية، ومبارياتي الأولى لكرة القدم التي كانت في رمال الصحراء، وتذكرت تلك القصة لتردّنا إلى حديثنا.

في الماضي، كما قرأت أشعاراً تعود للعصر العباسي، كانوا يصفون لوناً من الجمال الأنثوي بـ"الرومية"، وحتى في شمال جدة، حيث وُلدتُ ونشأت، كانوا يطلقون على الشابة متطرفة الجمال بـ"المسيحية"، وكان وصفاً غريباً جداً على أذني آنذاك. وفي قريتي يشيع المشايخ أن المسيحيات لا يتحجبن، ويتزينّ في رمضان لإغواء المسلمين، وأن قسيسهم يجتمع بهم قبل رمضان لحثّهم على إغوائنا، وإضعاف إيماننا وصيامنا.

فجرت الحرمانية، والصيام أيضاً، من شهواتهم الجنسية، فصارت لذةً ما بعدها لذة، ولا تحلو اللذة إلا في الصيام. استطاع المسلمون الأوائل أن يمنعوا عن أنفسهم الطعام والشراب، ولكن "النكاح"، صعب.

من أجمل ما أضافته لي اللغة العربية، هؤلاء الأجانب الذين كنا نمارس معاً التبادلَ اللغوي بين العربية والإنكليزية؛ مع بريطانية وفرنسية ذات مرة مثلاً. ولا أنسى صديقتي الفرنسية وأنا أشرح لها ماذا تعني المرأة متعددة العلاقات الجنسية باللغة العربية، أي "شرموطة"، وأنا أتحدث عن أنها كلمة تعني الحرمانية والوصمة. فتنتها الكلمة وقالت لي، ثم قالت لأصدقائي المصريين بعد ذلك، كلمتها الأثيرة، التي أُخذت عنها: "أنا شرموطة بس مبسوطة" (الطريقة المبهجة والمغوية التي تنطق بها تلك الكلمات صعب أن تنقلها الكلمات).

المرأة المعشوقة والله المحبوب

ربما لا يعرف كثيرون أنه في البداية كان حراماً على العرب المسلمين أن يقتربوا من زوجاتهم، لم تكن الفتوحات أمدّتهم بالجواري بعد، طوال ليالي شهر رمضان مع نهاره. فعجزوا عن ذلك، فخفف الأمر الإلهي الحظر الجنسي إلى نهار رمضان فقط، ولكنهم عجزوا أيضاً، فنزل تشريع نبوي، يقرّر عتق رقبة، كعادة الإسلام في ربط الكثير من الكفارات بالعتق، أو الصيام لشهرين متتاليين، أو إطعام ستين مسكيناً.

إذاً، كان الاستمتاع بالنشوة الجنسية نهار رمضان امتيازاً للأغنياء الأثرياء، فكيف يقاومون ذلك المحرم المثير للرغبة؟

لقد كان الحب العذري مثاراً للعار أكثر من الحسي، وأن يلهو الرجل بامرأة تأخذ عليه عقله، ولكن مشاعر المسلمين، خاصة من أهل نجد والحجاز، قد نضجت لذلك، وباتت هناك حاجة ملحة، فاخترعوا شخصية قيس بن الملوح مجنون ليلى.

ظهور الحب العذري يا صديقي القبطي، كان برأيي ثورةَ وعيٍ في مناطق لا تزال تحتفظ بحظٍّ كبير ببداوتها وذكوريتها. كيف يظهر منهم مبدعون وفنانون يمتدحون الإحساس، والحرمان، والبعد، ويتغنون به، وهو دلالة عجز وقلة رجولة في عرفهم البدوي؟

أتفق مع باحثين، أن الحب العذري بحكاياته وشعره هو الذي مهّد لظهور الصوفية، فالوعي اللغوي العربي بدأ يدرك المرأة للمرة الأولى كإنسانة، وليست أرضاً للغزوة أو الحُرمة، فهي الحبيبة التي يتبادل معها الأحاديث، والنظر، والضحكات، كما يقول جميل بثينة:

لا والذي تسجد الجباه له/ما لي دون ثوبها خبرُ

ولا بفيها ولا هممت به/ما كان إلا الحديث والنظرُ

نعم كان يحتاج جميل إلى القسم بأغلظ الأيمان، لأنه إحساس غير مصدق، وأسمح لحدسي بأن يتخيل أن أمثال تلك الأعرابية المجهولة، كن منتشرات بين أبناء تلك القبائل، الغلاظ الأشداء، الثائرين للجنس والمعارك والصيد، ولا يتعاملون مع النساء إلا باعتبارهن "لعباً"، كما قال عمر بن الخطاب لزوجته عندما جادلته في شيء من السياسة وأمور الحكم: "إنما أنت امرأة يلعب بك ثم تتركين". ونشرت في الرجال هذه الأفكار، باهتماهن بشخصياتهن، وحفظهن للشعر والآثار، واهتمامهن بمظهرهن العام، المرتبط بالملمح الإنساني، ككحل العينين والخلخال.

أسمح لحدسي بأن يتخيل أن أمثال تلك الأعرابية المجهولة، كن منتشرات بين أبناء تلك القبائل، الغلاظ الأشداء، الثائرين للجنس والمعارك والصيد، ولا يتعاملن مع النساء إلا باعتبارهن "لعباً"

نعم، كان يحتاج جميل وكثير وقيس مجنون ليلى إلى تمييع شخصياتهم الحقيقية، ومن يدري لعل أمثال تلك الأعرابيات نسجن هذه الشخصيات من خيالهن لتمرير إحساسهن بالحميمية، دون أن يختزلن إلى لعب جنسية، يرغب فيها الزوج بالحلال، وابن الجيران وسائر رجال المسلمين في الحرام، ولا أحد يرغب إلى ما وراء ذلك.

ولذا ليس عجيباً أن نتخيل ونتوقع أن تكون رابعة العدوية، المرأة التي أخذت خطوةً ثورية بحق، معيدة توجيه طاقة الحب إلى المطلق، الله الإسلامي، الذي كان يتخيله العرب الأوائل ملكاً عادلاً جباراً، ويتلون آيات الوعيد وجهنم فتتفطر قلوبهم من الحزن، ويتلون آيات الرحمة والوعد فتتفطر أفئدتهم مرة أخرى من الأمل والرغبة، فبعد أن كان الحبيب الأنثى الإنسانة، أصبح الحبيب إلهاً للذكر والأنثى.

….

قطع علينا حديثنا الرائع، وصحبتنا الرائقة نداء أحد أبناء البادية، وعرفت بعد ذلك أنه صاحب المكان، الذي استضافني فيه صديقي قبل أن يسلمه له، وقبل أن يعود كلٌّ منا إلى داره، وبينما نخوض شوارعَ في أحياء لا زالت تحتفظ بروح ما قبل المدنية والاستعمار، حيث شوارع غير مرصوفة، ولا يُعرف لها اسم أو خريطة. سألني: ما الذي دفعك إلى القراءة والتفكير عن هذا الموضوع؟

ردني سؤاله إلى التجربة التي أعتبرها الأولى في الحميمية، رغم ما سبقها من تجارب، عندما كنت في المرحلة الثانية الجامعية، مع صديقة، يمكن أن أصفها بمتعددة العلاقات الجنسية بالطريقة الغربية المحايدة، أو "شرموطة"، بالطريقة التي نطقت وأعجبت بها صديقتي الفرنسية، أو "واسعة الحبل" التي "لا ترد يد لامس"، كما كان يقول أجدادنا العرب، مارسنا ماذا نسميه ما يشبه الجنس، أو "زنا الأعرابية بنت الأعرابية" التي حكى عنها ابن قتيبة، حينها فتحت لي بوابات من المشاعر والفضول والشغف الذي لم يهدأ، ولم يرتو حتى كتابة هذه السطور، طالما في حياتي وحديثي بقية. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image