قضى عبد الله الغانمي (52 عاماً)، السنوات السبع الأخيرة، متنقلاً مع أفراد أسرته من مخيم للنازحين إلى آخر، هرباً من نيران الحرب التي طاردتهم أينما حلّوا، حاملين معهم ما تبقّى من ممتلكاتهم التي لم تزِد عن ثياب وأغطية تقيهم البرد.
يشير بيده إلى خيمته الواقعة في نهاية مخيم النقيعاء، في منطقة صحراوية، شرق محافظة مأرب، ويقول لرصيف22: "وصلنا إلى هنا سيراً على الأقدام في أواخر عام 2021، وكنّا قبلها في مخيم ذنة في منطقة الروضة، جنوب غرب مأرب، لكن المعارك لاحقتنا إلى هناك، إذ استهدفت جماعة الحوثي المخيم".
يوجّه يده نحو السماء، ثم يضعها فوق رأسه، ويقول: "كان القصف يسقط على رؤوسنا، ولا أعرف كيف نجونا من الموت في تلك المرة أيضاً؟"، مشيراً كذلك إلى تعرضهم لمواقف أخرى مشابهة، تواجدوا فيها رغماً عنهم في مناطق دخلت فيها قوات الحوثي في قتال مع الحكومة المعترف بها دولياً استُخدمت فيه أنواع مختلفة من الأسلحة التي لا تميز بين عسكري ومدني.
يؤكد بيان لرئاسة الوزراء اليمنية وإدارة النازحين رواية الغانمي عن أحداث فرارهم من المخيم المذكور، إذ أشار إلى أن 17،220 أسرةً نزحت من هناك في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2021، وتوجه كثيرون منها إلى صحراء النقيعاء.
معركة تلو أخرى، توافد عدد كبير من النازحين نحو محافظة مأرب، شرق اليمن، حتى بلغت أعدادهم وفقاً لإدارة النازحين 2،222،000 نازح قدموا من 14 محافظةً يمنيةً، وتوزّعوا في غالبيتهم بين مساكن اشتروها أو استأجروها، أو أقاموا لدى أقارب لهم، في حين سكن 269،397 شخصاً منهم في 198 مخيماً أقيمت لهم في مختلف أنحاء المحافظة.
تدير تلك المخيمات وحدة حكومية تابعة لرئاسة الوزراء اليمنية، تُسمّى الوحدة التنفيذية لإدارة النازحين، ومهمتها تنسيق تدخلات المنظمات الإنسانية وفقاً لحاجة كل مخيم، وافتتحت لها فروعاً في المحافظات لتسهيل عملها، بحسب مديرها في مأرب، سيف مثنى.
وأكد مثنى لرصيف22 أن النازحين اليمنيين في مأرب، خاصةً المتواجدين في المنطقة الصحراوية، يواجهون مصاعب كبيرةً تعجز مؤسسته عن تذليلها، بسبب ندرة تدخّل المنظمات الإغاثية، لضعف التمويل الذي تتلقاه من الجهات الممولة.
ومن بين تلك المصاعب أن مخيمات النزوح كان يُفترض بها أن تكون مأوى مؤقتاً للنازحين، غير أنها أضحت شبه دائمة بسبب مرور أكثر من سبع سنوات على إقامتها، ويضيف بأسف: "حتى باتت مجرد خيام متهرئة"، لافتاً بذلك إلى واقع حال المخيمات في ظل غياب الدعم.
ويشير أيضاً إلى ضعف الخدمات، وانعدامها في الكثير من المخيمات، كالكهرباء والماء والصحة والتعليم، على الرغم من الجهود التي يقول إنها تُبذل لتوفير ما يمكن توفيره بغية تخفيف المعاناة عن النازحين.
ويلفت مثنى إلى أن المساعدات الإنسانية والخدمات تُقدَّم في المخيمات الموجودة في مركز محافظة مأرب، في حين أن المخيمات التي نُصبت للنازحين في صحراء المحافظة، تفتقر إلى أكثر الخدمات الأساسية، "والتدخلات الإنسانية من قبل شركاء العمل الإنساني فيها ضعيفة جداً، إذ إن منظمة اليونيسف لم تقدّم أي مشاريع لدعم التعليم في تلك المخيمات البعيدة عن مركز مدينة مأرب، والتي لا توجد فيها ولا حتى مدرسة واحدة للأطفال".
وذكر أنه قدّم طلبات بالاحتياجات إلى المنظمات التي يصفها بالشريكة، غير أنها لم تقدر على تلبيتها بفعل قلة التمويل الذي يقول إنها تتذرع به في ردودها على طلباته المتكررة.
"نجونا من القصف في أماكن أخرى، وهنا نحن معرضون للموت جوعاً وعطشاً في الصحراء"
يبلغ عدد المخيمات في صحراء شرق مأرب 22 مخيماً، وهي متفرقة تفصل بين كل مخيم منها وآخر مسافة 30 كيلومتراً تقريباً، ويقطنها، وفقاً لإدارة الوحدة التنفيذية للنازحين في مأرب، تسعة آلاف نازح، يشكلون ما يقارب 1،200 أسرة.
عبد الله الغانمي وزوجته مع أطفالهما الثمانية من بين أولئك النازحين، في منطقة صحراوية يعدّونها منسيةً، ولسان حال الكثيرين منهم فيها: "نجونا من القصف في أماكن أخرى، وهنا نحن معرضون للموت جوعاً وعطشاً في الصحراء".
ليس هذا فحسب، بل هنالك قائمة طويلة من المصاعب التي يواجهونها، كالعواصف الرملية والحرارة القاسية صيفاً، والبرد القارس شتاءً. ولا يقتصر أثرها على صحة الفرد هناك فحسب، بل على خيامهم أيضاً التي أصبحت في غالبيتها "مهترئةً"، حسب ما يشتكون.
نقص في الخدمات الصحية
قائمة احتياجات النازحين في مخيمات صحراء مأرب طويلة، وعلى رأسها الماء الذي يقطعون مسافات طويلةً سيراً على الأقدام للحصول على حاجتهم منه، والبعض ممن لديهم سيارات يجلبونه من أماكن بعيدة.
والبعض يذهب مشياً على الأقدام للحصول على مياه الشرب من أقرب منطقة، وملء عبوات صغيرة تكفي الحاجة اليومية، والقاسم المشترك لمياه تلك المناطق أنها من الآبار، وتتصف بارتفاع نسبة الملوحة فيها.
تقول نازحة من النقيعاء، طلبت عدم ذكر اسمها، إن الكثير من النواقص يمكن تحمّلها والتكيف معها، لكن "لا يمكن هذا أبداً مع الدواء"، مشيرةً بذلك إلى غياب الخدمات الصحية التي دفع النازحون، وهي شخصياً، ثمناً باهظاً لقاء الحصول عليها.
تخنق العبرة صوتها، ثم تضيف بعصبية: "ابني عارف لم يكتب الله له عمراً أكثر من تسعة أشهر. قتله البرد...". تصمت برهةً ثم تتابع بحزن: "أصيب بالإسهال والقيء ولازمته حمّى شديدة. أخذتُه وذهبت مشياً إلى المستشفى، لأنني لم أكن أملك المال للذهاب بالمواصلات".
قطعت السيدة مسافة ستة كيلومترات سيراً على الأقدام حتى بلغت مستشفى اسمه "كرى"، ومكثت فيه مع صغيرها ثلاثة أيام، لكنه توفي في نهاية الأمر بسبب ما شخّصه الأطباء بأنه صدمة برد أصابته، وها قد مرت سنة على ذلك، لكن الحزن ما زال يتملكها، فضلاً عن الخوف على أطفالها الآخرين من المصير ذاته.
ووفقاً لتقرير صدر عن إدارة النازحين، توفى ثلاثة أطفال في الشتاء الفائت، وأصيب 12،602 من النازحين في مخيمات الصحراء جراء مشاكل صحية مختلفة سببها البرد الشديد الذي اجتاح المنطقة الصحراوية، في ظل غياب مستلزمات الإيواء المناسبة.
لا تتوافر في 22 مخيماً في صحراء مأرب التي يسكنها نحو تسعة آلاف شخص، ولا حتى مدرسة واحدة، والأطفال فيها بلا تعليم ممنهج منذ نحو ثماني سنوات
وحذّرت مديرة الصحة الإنجابية في مكتب الصحة في محافظة مأرب فاطمة سالم من تزايد أمراض النساء في مخيمات النازحين، إذ تم تسجيل 731 حالة إجهاض وإصابة 114 امرأةً بأمراض مصاحبة للحمل، "13 حمى نفاس و101 تسمم حمل"، منذ شهر حزيران/ يونيو الماضي.
وكل تلك الحالات وفقاً لفاطمة، جرّاء "الظروف غير المناسبة للعيش في المخيمات وغياب الخدمات الصحية المناسبة في الوقت المناسب".
يقرّ نائب مدير مكتب الصحة في مأرب، أحمد العبادي، بافتقار مخيمات النازحين إلى العيادات والخدمات الصحية، على الرغم من "الانتشار الكبير للأمراض المعدية بين النازحين، كالجرب والملاريا والكوليرا والجدري، فضلاً عن وباء كورونا الذي أصيب به عدد كبير منهم إبان الجائحة".
وقال العبادي لرصيف22 إن مخيّمَين فقط من أصل 198 مخيماً توجد فيهما وحدتان صحيتان ثابتتان، بينما بقية المخيمات تفتقر إلى الوحدات الصحية، ولا يحصل فيها المرضى على الأدوية في الوقت المناسب.
وانتقد العبادي الدور الذي يصفه بالخجول للمنظمات الدولية في مأرب، كمنظمة الصحة العالمية والصليب الأحمر، فهي "لا تقدّم سوى خدمات صحية أولية فقط، لا ترقى إلى السمعة التي تحظى بها عالمياً، فليس لها دور في تأمين خدمات صحية متكاملة ولم تقدم على إنشاء مستشفى كما تفعل في مناطق إغاثية أخرى خارج اليمن".
ولمزيد من التحديد، يشخّص منسق قسم الصحة والتغذية في وحدة إدارة النازحين في مأرب محسن الحميصي مشكلة الخدمة الصحية في مخيمات المحافظة، بقوله لرصيف22 إن 56 منها بلا أي خدمات صحية، وهي في حاجة ماسة إلى خدمات صحية متنقلة على الأقل، وإن فِرَقاً صحيةً متنقلةً تزور المخيمات الأخرى، مرةً واحدةً في الشهر أو في الأسبوع.
ويذكر الحميصي أن جهد المنظمات الإغاثية ينصبّ على الجوانب الغذائية أو الإيواء بنحو عام، ونادراً ما تقدّم عوناً صحياً وهو ما يعرّض النازحين لمعاناة كبيرة، وفق تعبيره.
على بعد ثلاثين كيلومتراً من مخيم النقيعاء، تعيش شادية وعائلتها المكوّنة من ستة أفراد، في مخيم كمب روضان في صحراء صافري منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2021، بعد نزوحهم من مديرية الجوبة جنوب محافظة مأرب. تقول لرصيف22 إن الحصول على الرعاية الصحية يتطلب السفر إلى مستشفيات مدينة مأرب التي تبعد عن المخيم 120 كيلومتراً بسبب انعدام الوحدات الصحية في المخيم الذي تقطنه 930 أسرةً نازحةً.
وليست الرعاية الصحية وحدها ما ينقصهم هناك، وفقاً لشادية، وإنما يعانون كثيراً للحصول على مياه الشرب، وجلبها من أماكن بعيدة.
أطفال بلا تعليم
إلى جانب نقص الخدمة الصحية في مخيمات نازحي مأرب، وخصوصاً الواقعة منها في الصحراء، هناك فجوة تعليمية واسعة كذلك، إذ لا تتوافر في 22 مخيماً في صحراء مأرب التي يسكنها نحو تسعة آلاف شخص، ولا حتى مدرسة واحدة، والأطفال فيها بلا تعليم ممنهج منذ نحو ثماني سنوات، ولا دور ملموساً لمنظمة اليونسيف لسد هذه الفجوة.
وللتقليل من أثر ذلك على أطفالهم، اعتمد النازحون على أنفسهم في تعليم أبنائهم على الأقل القراءة والكتابة، وذلك من خلال مبادرات ذاتية عبر تحويل خيمة سكن إلى مدرسة مؤقتة يجمع الأطفال داخلها، ويتولى الأهالي أنفسهم تلقينهم الدروس.
وكما هو الحال بالنسبة إلى الخدمات الصحية، فإن النازحين في مركز مأرب، وتحديداً في المدينة، هم الذين يحصلون على خدمات تعليمية، تقدّمها إليهم منظمة اليونسيف، بحسب تأكيد مكتب إدارة النازحين. وتعذّر على معدَّي التقرير الحصول على تأكيد يفيد بذلك من ممثل المنظمة في مأرب.
يوسف أحمد (45 عاماً)، واحد من النازحين الذين استبد بهم القلق بشأن مستقبل أبنائه، وعدم مقدرتهم على مواكبة أقرانهم في أماكن أخرى من البلاد، بسبب عدم وجود مدرسة في المخيم يتلقون فيها تعليمهم، لذلك عمد قبل سنة إلى إرسال أحدهم، وهو علاء (15 عاماً)، ليقيم في منزل صديق قديم يبعد نحو 35 كيلومتراً، ليتمكن من الذهاب مع أولاده إلى المدرسة هناك لإكمال تعليمه الثانوي.
سبق لعلاء أن التحق بأربع مدارس أخرى، خلال أربع محطات نزوح جابتها أسرته، بدأتها من محافظة إب في وسط البلاد، وصولاً إلى مأرب التي تنقلوا بين ثلاثة من مخيمات النزوح فيها.
يقول يوسف لرصيف22: "في المخيم في الصحراء، لا خدمات ولا مدارس، لذلك اضطررت إلى أخذ علاء ليعيش في منزل صديق لي في الوادي، وقد أكمل العام التعليمي الثاني، ولم تبقَ له إلا سنة واحدة ليكمل الثانوية".
قد يكون علاء محظوظاً لأنه وجد فرصةً ليكمل تعليمه، في حين أن 60% من أطفال اليمن، سواء الذين نزحوا أو تعرضت مدارسهم للتدمير جرّاء الحرب، لم يعودوا إلى مقاعد الدراسة، حسب دراسة لمنظمة "أنقذوا الطفولة" الدولية، أشارت إلى تعرّض أكثر من 460 مدرسةً لهجوم مسلّح مباشر لوقوعها في مرمى النيران المتبادلة، وتضررت أكثر من 2،500 مدرسة أخرى، أو استُخدمت كملاجئ جماعية للعائلات النازحة، أو احتلتها الجماعات المسلحة، ما أدى إلى إجبار 400،000 طفل على ترك الدراسة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...