شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أدخل صفّي كأستاذ بصورته

أدخل صفّي كأستاذ بصورته "الموديرن"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الثلاثاء 11 أكتوبر 202201:42 م

قد يكون التعليم أكثر من مجرد مهنة لكسب العيش. وقد ترتفع مكانة المعلم إلى شيء من التقديس والمكانة الرفيعة، فهو "القدوة" وصاحب الأثر الباقي في وجدان من يعلمهم وفي عقولهم. فأستاذ واحد شغوف ومحب لما يدرّسه كفيل بجعلنا نعشق مادته وننتظر حصته بفارغ الصبر. وأستاذ غير مبالٍ، يعدّ الموضوع برمته مجرد "تقطيع وقت"، قد يجعلنا نشتمها وننفر منها إلى الأبد.

ربما أخذت مكانة الأستاذ في التراجع والانحدار نتيجة "الطابع التجاري" الذي اتخذه التعليم منذ سنوات عديدة، نتيجة انتشار موضة "الدروس الخصوصية"، والمعاهد الخاصة لتقوية الطلاب في بعض المواد، فغدا المعلم مجرد "بائع وقتٍ ومعلومة". هذا الميل إلى التكسب له ضروراته الحياتية كـ"استجابة طبيعية" بسبب الأجور الزهيدة التي يتقاضاها المعلمون، والتي لا تكفيهم كفاف ثلاثة أيام في الشهر، ليتحول أستاذ المدارس العمومية الرسمية في نظر الجميع إلى "شحاذ بهيئة نظيفة ومرتبة".

على المستوى الشخصي، قد أكون أحد أولئك الأشخاص الرومانسيين الذين لا يزالون يرون في مهنة الأستاذ الشاقة شيئاً من الخطورة والأهمية التي تتطلب قدراً من الأريحية وحس الفكاهة والمرح، عكس أساتذتنا السابقين الذين يتسمون بالجدية المتزمتة بزيهم النمطي وطرقهم التلقينية المتكلفة، وعبوسهم الدائم الذي يفضي إلى الضجر.

على المستوى الشخصي، قد أكون أحد أولئك الأشخاص الرومانسيين الذين لا يزالون يرون في مهنة الأستاذ الشاقة شيئاً من الخطورة والأهمية التي تتطلب قدراً من الأريحية وحس الفكاهة والمرح

فمن خلال ما أجده من الحب الذي أحس به نقياً وبريئاً وتلقائياً، عندما يتقدم أحد الطلبة نحوي ليقدّم لي قطعة شوكولاته، أو حبة سكاكر، أو حين تقوم إحدى الطالبات بوضع زهرة قطفتها في الصباح على طاولتي في أثناء الدرس، وعندما يتحملقون حولي في نهاية كل يوم مدرسي لتوديعي، وتلك تفاصيل صغيرة ولكنها بغاية الأهمية، أكون أكثر إخلاصاً في تأدية واجبي نحوهم، وأطول بالاً وأوسع صدراً في التعامل مع طبيعتهم المراهقة المتقلبة.

درس لن أنساه

"أستاذ ما اشتقتلي"؛ سألني محمد، أحد طلابي المعروفين في المدرسة التي أعمل فيها، بالذكاء الحاد، والمشاكسة الدائمة. أجبته بفظاظة ندمت عليها لاحقاً: " لا والله لسا". محمد الصغير، قصير القامة الذي يقال عنه إنه "شقوة وفتنة" في العرف الاجتماعي، والممتلئ حيويةً ونشاطاً، والذي لا يتوقف عن الحركة والكلام سواء في الفصل الدراسي أو الفرصة، يصل بي أحياناً إلى حد التعب بسبب شقاوته وسلوكه المتحدي.

تلك الأحكام التي صدّعت رؤوسنا صغاراً، تفعل فعلتها في تثبيط همم هؤلاء الطلبة، المتهمين سلفاً، بالاستهتار وانعدام المسؤولية، ونقص التربية والخلق الفاسد

أشعر كثيراً في أثناء النظر إلى عينيه بعد كل عبارة ناهرة (اجلس، اسكت، انتبه)، بحاجته الشديدة إلى الاحتواء والحب والاستيعاب أكثر من الغضب والقمع ومحاولة ترويضه. وأشعر بأنني يجب أن أتعلم من استجاباته المتمردة دائماً على كل محاولات ضبط سلوكه بتقريعه المتواصل، كيف يمكن أن أكون معلماً أفضل؟

"يا أستاذ اللحم إلك، والعضم إلنا"؛ هذه العبارة التي قالها لي والد محمد بعد طلبه من قبل هيئة المدرسة نتيجة سلوك ولده المشاغب والفوضوي المُبالغ فيه. حاولت أن أوضح له أننا لسنا في "مسلخ"، وأنني هنا أعمل مدرّساً وليس جزّاراً، وأن الغرض من استدعائه محاولة معالجة مشكلة ولده بطريقة تساعدنا على فهم طاقته الزائدة الطبيعية كمراهق بدلاً من تعنيفه، وإيذائه.

هذا الموقف الذي تعرضت له مع والد الفتى، جعلني أعيد حساباتي بخصوص أدائي كمدرّس. فغالباً ما تعترضني مشكلات كثيرة كغيري من العاملين في هذه المهنة المتعبة والشاقة، والمحاطة بـ"هالة" من القدسية والمكانة النبيلة نظرياً، كونها رسالةً، والتي تصيبني شخصياً بالحساسية تجاه واقع التعليم المر اليوم، في ضوء الأحوال البائسة لمدارسنا التي تبدو بأسوارها العالية وأبوابها الحديدية الموصدة، خاليةً من مظاهر الفرح والألوان والنشاطات التي تجعل من اللعب قريناً موازياً للتعلم، فترى هؤلاء الطلبة يستنفرون بمجرد سماعهم صوت جرس انتهاء الحصة ويخرجون إلى الباحة أو يعودون إلى منازلهم، وكأنهم كانوا في الأسر.

جيل فاشل؟

تدرج على الألسنة عبارات جاهزة وأحكام مسبقة عن أحوال جيل التلاميذ اليوم، من قبل بعض الزملاء والمشرفين في العمل، وأسمعها في الجلسات الخاصة مع بعض أولياء الأمور، وفي طريق ذهابي إلى الدوام وعودتي منه، مثل "جيل فاشل"، أو "جيل ما بدّو يتعلم"، وهي الأحكام ذاتها التي يطلقها الكبار علينا في أثناء دراستنا.

تلك الأحكام التي صدّعت رؤوسنا صغاراً، تفعل فعلتها في تثبيط همم هؤلاء الطلبة، المتهمين سلفاً، بالاستهتار وانعدام المسؤولية، ونقص التربية والخلق الفاسد، ليأتي دور المدرسة "لرأب الصدع" لديهم، وترويض انفعالاتهم ورغباتهم، وجعلهم أكثر انقياداً واستسلاماً للمنهج الأخلاقي ومبادئ السلوك الاجتماعي القويم المتفق عليه اجتماعياً.

أدخل صفّي كأستاذ بصورته "الموديرن"، مرتدياً سروال جينز، وحذاءً رياضياً، ونظارةً لامعةً، وحاملاً حقيبةً جلديةً، ناظراً بابتسامة خفيفة إلى تلاميذي الواقفين لآمرهم بالجلوس، متناسياً -عن عمد- نصيحة مدير المدرسة أول تعييني، وقبل أول حصة لي: "لا تضحك في وجوههم أبداً"

وعليه، كثيراً ما ينتابني قبل كل حصة دراسية شعور غامض متناقض، يتراوح بين إحساس الطالب المُتعلم الذي كنته يوماً، والمُعلم الذي صرته، فأتذكر ذلك الفتى المحشور في معقده الخشبي الضيق، متهيباً دخول أستاذه شأنه في ذلك شأن بقية زملائه، ليقف تبجيلاً واحتراماً للشخص الذي يوشك أن يكون "رسولاً"، وممتلئاً بتكريس نفسه كعبدٍ لمن سيمنحه نعمة العلم، ويوسع مداركه ويفتح بصيرته الصغيرة ليرى العالم أوسع قليلاً مما كان يتخيله.

أدخل صفّي كأستاذ بصورته "الموديرن"، مرتدياً سروال جينز، وحذاءً رياضياً، ونظارةً لامعةً، وحاملاً حقيبةً جلديةً، ناظراً بابتسامة خفيفة إلى تلاميذي الواقفين لآمرهم بالجلوس، متناسياً -عن عمد- نصيحة مدير المدرسة أول تعييني، وقبل أول حصة لي: "لا تضحك في وجوههم أبداً"، خوفاً على مكانة المهنة الشاقة من فقدان الهيبة، وضياع الوقار الذي لطالما عرفته مع أبناء جيلي عن الأستاذ، إذ ارتبطت نظرتنا إليه بكثير من الرهبة والخوف، وبصورة العصا الغليظة المرافقة له دائماً، كيدٍ ثالثة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image