ضحكتُ عندما رأيت ورقةً دار فيها حوار بين ميسون ورباب، من كتاب الصف الأول الابتدائي، في يد جدي، وسألته هل تقرأ كتب الصف الأول؟
كانت الزبونة في انتظار "الحاج" لينهي القراءة حتى يَبرم الورقة ويعبئها بالخرز الملوّن الذي طلبَتْ، يلفها بخفّةٍ وبطريقةٍ لطالما جذبت انتباهي كما يفعل المغناطيس بالمعادن. أجابني جدي يومها وكان ذاك اليوم قبل أكثر من ثلاثين عاماً: "إنتِ متخيلة قديش تعب هالرسام وهالكاتب والمطبعة واللي صنع الورق بهالصفحة، متخيلة التكلفة؟! أقل تقدير نقراها قبل ما نستعملها للف الخرز!".
كان جدي يملك محل "نوڤوتيه"، يبيع فيه لوازم الخياطة من أزرار و"سترسات" وما شابه، وعلى زاوية ما من الأرض كتب قديمة، وكان يضع على الطاولة الزجاجيّة بجانب الميزان الصغير كتاباً، حين تدخل زبونة تريد الشراء، يشقّ جدي صفحةً منه، وإن لم يتسنَّ له قراءتها في وقت فراغه، كان يقرأها على عجل، قبل البيع مباشرةً، والزبونة تبحث بناظريها عن حاجيات أخرى داخل الدكان، لتسدّ درب الملل. كان يفعل ذلك حتى مع أوراق الروزنامة الصغيرة التي يشعل بها مدفئة الشتاء.
قفزت تلك الذكرى اليوم، وأنا على الشرفة. إذ نادت فضولي جلبة وضوضاء في الشارع، نظرت من الشرفة وكان توقعي يقودني إلى حملة لقاح كورونا، أو أن شاحنة الخبز توزع خبزها في ظل ازدحام ومشاجرات، لينتهي الأمر بأن طلّاب المدرسة من مختلف الأعمار يمزقون كتبهم ودفاترهم المدرسيّة في طريق عودتهم إلى البيت، كما جرت العادة بعد الامتحانات.
إنتِ متخيلة قديش تعب هالرسام وهالكاتب والمطبعة واللي صنع الورق بهالصفحة، متخيلة التكلفة؟! أقل تقدير نقراها قبل ما نستعملها للف الخرز
طفتْ فوق السطح هذه الظاهرة المستهجنة من الجميع دونما استثناء، وطافتْ شوارع سوريا كافة، فالريف والمدينة يتشاركان في آلاف الصفحات الممزقة في الشوارع وعلى الأرصفة.
"بكره الرياضيات"
طفل يبدو وكأنه في الصفّ السابع أو الثامن الإعدادي يمسك بدفتره ويمزّقه بعنف ورفاقه يتحلّقون حوله مشجعين. يردّد الطفل: "أعطوني كتاب الرياضيات، بكره أستاذ الرياضيات"، ويكمل فعلته مستخدماً ألفاظاً خادشةً للحياء. يضحك الزملاء وتعلو الصرخات.
تبادر إلى ذهني سؤال: "ألم يعِش جدي لأمي في البقعة الجغرافية نفسها، يقدّس العلم والكتاب ويشعر بالذنب إذا ما استخدم أوراقه في محل النوڤوتيه يلفّ بها القطع المنمنمة خوفاً من أن تضيع؟ تُرى ما الذي تغير؟ الجيل، أم الظروف هي من تبدلت، فاليوم كلّ شيء متاح هل هو البطر؟ أم أنه حقد ينفّسه الطالب تجاه الكتب؟".
تقول المعلّمة رباب راشد، وهي معلّمة اللّغة العربيّة للصفّ السادس الابتدائي، لرصيف22: "لفتت نظري هذه الظاهرة في يوم امتحان اللّغة الإنكليزيّة أكثر من بقية المواد، تلاميذ وتلميذات المدرسة على حدٍّ سواء، مزّقوا دفاتر اللّغة بعد انتهاء امتحانها، ذلك لأن تلاميذ القسم الابتدائي في المدارس الحكوميّة ملزمون بإعادة الكتب للمدرسة، وإلّا يُغرَّم التلميذ بثمنه، ومع ذلك رأيتُ منهم من يمزّق كتابه، أمّا طلاب الصفوف الأعلى فمزّقوا كتبهم في شوارع العاصمة في الأمس، لنشاهد منظراً مستفزاً"، تضيف: "لمتُ تلاميذي؛ ليأكدوا كرههم لهذه المادة ومعلّمتها العنيدة".
تؤكد راشد على أنه بإمكان الطالب أن يبيع نسخته المدرسيّة، في حين أن سعر الكتاب لم يعد زهيداً، وهذا ما تفعله بناتي، فليبعنها أو ليتبرعن بها.
الزمن تبدّل
طبيبة الأسنان فاديا، وهي من مواليد عام 1960، تقول لرصيف22: "كأن الزمن هو من تبدّل، إذ كان شغفنا بكتبنا المدرسيّة، وتشوّقنا إلى اكتشاف كتب الصفّ الذي ترفّعنا إليه، يدفاعننا، في آخر يوم امتحانات لمرافقة والدتي إلى المسكيّة، وهو سوق في دمشق تكثر فيه المكتبات إلى جانب الكتب المدرسيّة القديمة بكافة صفوفها حتى المتفوق بدوره يدوّر على نسخة قديمة إذ إن ضيق العيش كان يمنعه من شراء نسخة جديدة".
إذا بتقدروا توصلوا هالحكي ويقراه وزير التربية، بالعكس أنا بنبسط بمنظر الكتب بالشوارع! ومو مضايقني، هذا بدلّ على إنو هالجيل حاسس إنو في شي مو زابط بهالمؤسسة التربوية، وتمزيق الكتب كردّ فعل وليس فعل
تضيف: "لم نكن نرى حرجاً في اقتناء نسخ من الكتب القديمة، فمحتوى الكتاب لن يتبدّل سواء أكان جديداً أو قديماً محلولاً، نبتاع النسخة إن لم نعثر عليها في أثناء المقايضة، ونمحو الحلول، فأبناء جلدتنا كانوا يلتزمون بأقلام الرصاص في حلّ الأسئلة بدلاً من الحبر المعاند للممحاة، حتى دفاترنا لا نفرّط بها، نبيعها للبقّال الذي كان يستخدمها في مهنته"، مشيرةً إلى أنها "شهدت ظاهرة تمزيق الكتب منذ عام 2011، ولو تمت مكافحتها بالإرشاد والتوعية منذ البداية، لما استمرت إلى يومنا هذا، يبدو تلاميذ هذه المرحلة متعبين من ضغوط الامتحان، لذا ينفّسون عن هذا الغضب بتمزيق الكتب تأكيداً منهم على الاحتفاء بالخلاص"
القصة بسيطة
يجيب التربوي أثير ديش، على سؤال وجهه رصيف22، عما إذا كانت هناك إجراءات وتوصيات قامت بها أو تنوي القيام بها وزارة التربية والتعليم إزاء هذه الظاهرة، يقول: "الأَولى تناول موضوع طبيعة العمل والمستحقات التي لم تصرفها الوزارة لنا منذ ثلاثة أشهر. قصة الكتب بسيطة إزاء قصص أخرى".
يكمل حديثه: "إذا بتقدروا توصلوا هالحكي ويقراه وزير التربية، بالعكس أنا بنبسط بمنظر الكتب بالشوارع! ومو مضايقني، هذا بدلّ على إنو هالجيل حاسس إنو في شي مو زابط بهالمؤسسة التربوية، وتمزيق الكتب كردّ فعل وليس فعل".
من جانبها، تفيد سمر عباس، وهي مديرة القسم الابتدائي في إحدى مدارس دمشق العريقة، "اللاييك"، وهي مدرسة خاصة، بأنها حاولت من جانبها احتواء تلك الظاهرة فوجّهت العام الدراسيّ المنصرم تهديدات إلى تلاميذها، مؤكدةً أن من يفعل هذا الأمر المشين سيفصل من المدرسة بشكل نهائي، ومع ذلك "هناك من يمزق كتبه خارج أسوار المدرسة ضارباً بعرض الحائط كل التهديدات".
التلميذ المسالم
سألتُ أحد التلاميذ من الصف السادس، وكان يعبر المشهد بسلام: "وأنت لم لا تمزق كتبك؟"، ليجيب: "علينا احترام العلم، فالكتاب وإن لم نحتاجه هناك أخي الصغير لا بدّ سيكبر ويقرأه، وإن أردت التخلص منه هناك من يحتاجه للتدفئة من برد الشتاء، حتى الطالب الكسول عليه أن يحترم العلم وإن كان لا يحبه".
في الشارع نفسه، كان هناك من يلمّ الأورق المبعثرة. أضاف رداً على تساؤلي: "خالة نحنا عنا صوبية حطب بالبيت وبالشتوية هدول بدفونا".
الكتاب وإن لم نحتاجه هناك أخي الصغير لا بدّ سيكبر ويقرأه، وإن أردت التخلص منه هناك من يحتاجه للتدفئة من برد الشتاء، حتى الطالب الكسول عليه أن يحترم العلم وإن كان لا يحبه
هذه الظاهرة كنتُ قد سمعت عنها من أحد الأصدقاء الذي سكن في بيروت لمدّة، قال موصّفاً المشهد بالمحزن: "من يمزّق كتاباً هو بالضرورة بمزق المستقبل والحاضر سوا، جيل ضايع مو عارف الله وين حاطو".
انتقلت عدوى تمزيق الكتب بعد حين إلى الجارة سوريا، فهل هي بفعل الحرب والضغوط النفسيّة التي تعرّض لها الأطفال، أم لسوء أحوال التربية والتعليم وترديها كحال جاراتها من الوزارات في ظلّ حرب لم تبقِ ولم تذر؟
ظاهرة قديمة
يقول الدكتور مازن شمّاط، الأخصائي النفسي وهو عضو الهيئة التعليمية في جامعة دمشق لرصيف22: "تُعدّ ظاهرة تمزيق الكتب في نهاية الامتحان ظاهرة تقليد يقوم بها عدد لا بأس به من الطلاب كل عام، وهي مؤشر على وجود تخبط لدى الطالب بين أنه مجبر على الدراسة من جهة، وهو كاره لها، وبين المستقبل الذي يسعى إلى تحقيقه".
ولأنّ هذه الظاهرة تحدث مع نهاية الامتحان فتُعدّ أقرب إلى نوع من العدوان الرمزي ضد المدرسة والعملية التعليمية عموماً، وتكون كردّة فعل موجهة نحو المادة أو نحو المدرس أو أسلوب التعليم بشكل عام؛ فتظهر باتجاه الكتاب كسلوك انتقامي وهذا منظر يعكس أزمة التربية المدرسيّة داخل المناخ التعليمي، مما يضع العديد من إشارات استفهام أمام العملية التعليمية التي باتت تفقد الطالب الشغف يالتعلّم، وتحوّل العملية التعليمية عنده إلى واجب. أما الكتاب الذي كان صديقاً فيصبح أداةً تنتهي صلاحيتها بانتهاء الامتحان!"، يقول شمّاط، ويشير إلى أن "لا علاقة للأزمة بظهور تلك الظاهرة، فهي ظاهرة قديمة جديدة".
تمزيق الكتب ورميها في الشوارع والأرصفة، هل هي حالة شذّت عن قاعدة التربية والتعليم بفعل ظروف قاهرة تقود البلاد بكلّ قطاعاتها إلى منعطف حادّ، وحال ما تضع الحرب أوزارها تختفي؟ أم أن ما أفسدته الحرب لن تصلحه الأيام؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...