ربما أردتُ أن أنهي نقاشاً أحسست بأنه سينطلق ويطول، فقلت في بالي: أنهيه قبل أن يبدأ، أو ربما قررتُ أن ألعب وأُجرّب فرضيةً دراميةً جديدةً، مثل تلك الفرضيات التي أُشاهدها في الأفلام. وورد في بالي في أقل من 30 ثانيةً أن أقول لها: نعم يا حجة أنا مسيحية!
لا يمكن لي أن أضعَ السماعات في أذنيّ وأنفصل انفصالاً تاماً عن العالم مهما بلغ من القبح.
بيتي بعيدٌ عن كل الأماكن الحيوية. أقطن في مكان متطرف يحتاج إلى إهدار ثلاثة أرباع عمري في مواصلات عامة. اعتدتُ على ذلك. ربما، أو بالأحرى أنا أمثّل أني كذلك، إذ لم يكن في وسعي أقصى من أن أقنع نفسي، ولكن من المؤكد أنني اعتدت على لقاء شخصيات مختلفة يومياً بين المواصلات ومترو الأنفاق، فثمة دراما قوية تخرج من الأوتوبيسات والمترو وسائقي التاكسي والميكروباص والتوكتوك، وأمرّ بكل ذلك في اليوم الواحد أكثر من مرةٍ. لا يمكن لي أن أضعَ السماعات في أذنيّ وأنفصل انفصالاً تاماً عن العالم مهما بلغ من القبح، ولا يمكن لي أن أمنع نفسي من سماع جميع الأصوات التي حولي. أشعر دائماً بأنني بطلة فيلم لم يُحدَّد اسمه بعد، لكن فيه كل العناصر السينمائية بامتياز؛ فيه صورة مزدوجة بين القبح المزري والجمال الهادىء، وفي داخل كل منهما تناقضات أيضاً، تتماشى مع بطلة الفيلم المليئة هي الأخرى بتناقضات لا حصر لها. يصاحبني شريط صوت لا ينقطع بين "خناقة" وصراخ وشتائم وألفاظ نابية، وموسيقى بيتهوفن وموتسارت وعمار الشريعي. تمتزج الصورة بين مناظر الخراب ودار الأوبرا، وبين الأسواق والفنادق. يعمل مونتاجي على صناعة كادرات تفصل وتمزج، فيها من التشتت ما يكفيها، ومن الهدوء ما يلهيها، لذا لا يمكن لي أن أندمج مع سماعتي أذنيّ حد الانفصال عن بقية شخصيات فيلمي، وبقية عناصر صورتي، ونغماتي الموسيقية.
عندما كان يقصُّ عليّ أحدهم أي قصة، كنت أشعر بأنني على علمٍ بها؛ لا أدري أين عايشتها؟ ولا متى؟
ربما أردتُ أن أنهي نقاشاً أحسست بأنه سينطلق ويطول، فقلت في بالي: أنهيه قبل أن يبدأ، أو ربما قررتُ أن ألعب وأُجرّب فرضيةً دراميةً جديدةً، مثل تلك الفرضيات التي أُشاهدها في الأفلام
ربما أكون قد حضرتها بالفعل. وربما أكون قد سمعت أحدهم ذات يوم في الشارع يحكي مثلها، أو دار حديث بينه وبين آخر عبر تليفونه، وربما رأيت شخصاً عادياً يسير بجانبي، وكتبت أنا قصته في ذهني من تلقاء ذاتي. تتضافر أحياناً مسرحيات شكسبير مع شخصيات تسير أمامي في الشارع؛ أرى هاملت بتردده، وعطيل بشكوكه، وكاسيوس بغدره، من بين روايات وأفلام لا حصر لها شاهدتها أو دارت في خيالي، أو حضرتها وحدي في أحلامي، فعوالم المسرحيات والروايات والأفلام تأخذني. وماذا عن فيلمي إذاً؟ أهو مليء حقاً بالشخصيات؟ أم أنا من أسعى إلى ملئه؟
لم أجد إجابةً أبداً عن هذا السؤال، وها أنا أُقابل اليوم سيدةً في أوتوبيسي المعتاد. جلستُ بجانبها، وكنت قد اعتدتُ بالنظرِ إلى أي شخص، أن أخمّن مهنته، بل عالمه بأكمله، إذا صدرت منه بوادر تساعدني في رسم صورة كاملة له. وإذا لم تصدر فعليّ رسمها بنفسي. جلست بجوارها وتأكدت من أنها بائعة في أحد الأسواق الشعبية. أعرفها جيداً تلك الأماكن، وربما أعرف السيدة أيضاً. ربما تشاجرت معها ذات يوم، أو اشتريت منها مستلزمات وفاصلتها في الحساب، فأنا على جري عادتي أعشق المفاصلة. ربما أرهقتها بالفرجة على بضاعتها، ولم أشترِ منها أي شيء. ولكني بالتأكيد أعرفها. ثمة شخصية ترددت عليها وتحاورت معها في مواقف عدة، حتى إن لم تكن هي بذاتها، لكنني بالتأكيد أعرفها.
أعشق تلك النسمات، فكم كنتُ محرومةً منها على مدار عمري كله، منذ أن رضيت بأن أُكبل تلك الخصلات الرائعة ذات التمويجات المتداخلة، ووضعت عليها ما يخفي جمالها ويحرمها من استنشاق تلك النسمات العذبة
أراد الحظ في ذلك اليوم أن نتجاور جنباً إلى جنب في أوتوبيسي العزيز، وأن تتجاوز حدود معرفتنا حد البائع والشاري، وما بينهما من "يفتح الله"، ليتسبب ذلك التجاور في إقامة حديث لا انقطاع له، ولا ينتهي إلا ببلوغ أي منّا وجهته. ظننت ذلك، فوجهتنا هي بيوتنا، وكل منا ذاهب إلى منزله بعد يوم عمل شاق، ولكن أحداثنا هذه المرة محملة بأشياء أخرى فهي لا تنتهي بوصولنا إلى المنازل، بل من هناك تبدأ.
وفجأةً، وجدتُها توجه كلامها إلي قائلةً: "هو أنتِ يا حبيبتي مسلمة ولا مسيحية؟".
شاء صيفنا الحار في تلك الساعة المتأخرة من اليوم، أن يأتي بنسمات هواء مسلّطة على شعري أنا وحدي. أعشق تلك النسمات، فكم كنتُ محرومةً منها على مدار عمري كله، منذ أن رضيت بأن أُكبل تلك الخصلات الرائعة ذات التمويجات المتداخلة، ووضعت عليها ما يخفي جمالها ويحرمها من استنشاق تلك النسمات العذبة. بعد عمر بأكمله عادت الخصلات إلى أُصولها؛ باتت ترى الشمس والهواء وترى الناس معي، بل تؤثر فيهم وفي أحداث فيلمي. وها نحن الآن في موقف درامي جديد بنَتْه هي بنفسها، حين هبّ نسيمها بين كراسي أوتوبيسي الملتصقة. هبّ يقصدها بذاتها، لترى تلك السيدة وهي تتطاير مع الذين يتطايرون في الهواء، وتسبح مع من يسبحون في البحار، وترفرف مع أوراق الشجر، وتلعب مع الأطفال في عطلة يوم الجمعة. وفجأةً، وجدتُها توجه كلامها إلي قائلةً: "هو أنتِ يا حبيبتي مسلمة ولا مسيحية؟".
أدركت بسرعة البرق ما وراء السؤال، فإلى أي مدى أزعجها ذلك البراح الذي تعيشه خصلاتي المموجة؟ وكم من نصيحةٍ الآن تجهّز في بالها كي تقولها لي إذا علمت بأني مسلمة؟ أعلم بكل ما ستقوله
أدركت بسرعة البرق ما وراء السؤال، فإلى أي مدى أزعجها ذلك البراح الذي تعيشه خصلاتي المموجة؟ وكم من نصيحةٍ الآن تجهّز في بالها كي تقولها لي إذا علمت بأني مسلمة؟ أعلم بكل ما ستقوله. قابلتها من قبل كثيراً. رأيت شكل وجهي وأنا أقول لها باختصار شديد، الحقيقة: "مسلمة"، ومن ثم أبحث عن كلمات توقفها عند حدها إذا تدخلت في ما لا يعنيها. فكم من مرة فعلت مثل تلك الفعلة؟ وكم من مرة شعرت بأنني أشرح للبعض بديهيات عن حريتي الكاملة في ذاتي، وبين كل هذا وذاك...
قررت فجأةً أن أقول لها: مسيحية يا حجة!
انتقلت بعينيها فوراً من شعري إلى يدي باحثةً عن "الصليب". لم تجده. شكّت في أمري. بدأتُ في ذلك الوقت بالاستعانة بشكسبير وسعد الله ونّوس وآرثر ميلر، وأستحضر محمد خان ونجيب محفوظ وهيتشكوك، وأقلّب صفحات كتبهم يميناً ويساراً ومشاهدهم فوقها أو تحتها، كي أجد نقلات منطقيةً أجاري بها تلك الأزمة الدرامية التي خلقتها لنفسي. قالت بحماسة: بس مفيش في إيدك صليب!
فأجبتها بثقة: كنت أعيش في بلد غربي لا يطبَّق فيه على جميع المسيحيين ذلك العُرف.
انتقلت بعينيها فوراً من شعري إلى يدي باحثةً عن "الصليب". لم تجده. شكّت في أمري.
بالطبع هو اختراع وليد لحظته. أنا لا أعلم صحة هذا القول من عدمها، ولكني أعلم تمام العلم من أُخاطب، إذ ربما لو كنت في الموقف ذاته مع شخص آخر لما قلت له ذلك. وبالرغم من ثقتي بنفسي، إلا أن الإجابة لم ترضِها، وباتت تتهيأ للدخول في أكثر من حوار معي، لترى من طريقة كلامي "أهي مسيحية أم لا؟". وكأن للمسيحي لغةً خاصةً لا يتكلمها سواه. كشفت حيلتها بكل سهولة، ولم تنقطع عن حديثي كلمات مثل "باسم الصليب، والعدرة، وبأمانة". أرادت "الكليشيه"، فجئت لها به كما ورد في أفلام الوحدة الوطنية الهابطة. كنت أتوقع أن خطاً درامياً جديداً قد وُلد لفيلمي، وسينتهي بمجرد أن أثبت لها مسيحيتي، ولكن اكتشفت بعد حديثٍ لا تريد هي أن تقطعه أبداً، أنني أصبحت داخل فيلم جديد، بأحداث جديدة، تولّت هي دور البطولة فيه عندما قرَّرتْ أن تنقل الدراما من بطولتي في تجسيد دور المسيحية، إلى دورها كمسلمة ناصحة لي بأن أعتنق الإسلام. لم يخطر ببالي، ولو صدفةً، أنني في يوم ما، سألعب الدور الثاني في مثل هذه النوعية الهابطة، ولكني لعبته بالفعل. أردتُ في ذلك المشهد أن يكون من يجلس خلفي هو صديقي نجيب محفوظ. أعرفه جيداً. لو حضر مثل ذلك المشهد، لالتقطه وكتب عنه روايته الجديدة، ومنها بإمكاني أن أكون مثل نساء "ميرامار" أو "الطريق" أو حتى "زقاق المدق". ربما يراني بعينه عاهرةً مثل بسيمة عمران، أو متمردةً كحميدة، وربما فاضلةً كإلهام، ولكن وسط ذلك الزحام الشديد، وحديث جارتي الذي لا ينقطع، ما وجدته وما وجدت أبداً من يلتفت إلي. ظننت طوال عمري أن محفوظ وخان وونوس وغيرهم أصدقائي، وجميع شخصياتهم أيضاً أصدقائي، ولكن حين أردتهم لم يكن أحد منهم بجانبي. ربما تخلوا عني، أوربما أرادوا لي أن أصنع مشهدي هذه المرة وحدي.
أصبحت داخل فيلم جديد، بأحداث جديدة، تولّت هي دور البطولة فيه عندما قرَّرتْ أن تنقل الدراما من بطولتي في تجسيد دور المسيحية، إلى دورها كمسلمة ناصحة لي بأن أعتنق الإسلام
استمرت هي في حديثها، حتى هدأت النسمات. شكرتها بكل سذاجة على هدوئها، فربما عدم تطاير خصلاتي هو من هدّأ من روعها، إلى درجة نعاسها بجانبي. وكأنها قرَّرت أن تنهي فقرتها الأولى، لتبدأ بأخرى أكثر إزعاجاً. تمنيت في تلك اللحظة تحديداً، أن تستيقظ، فنقاشها معي كان أهون بكثير من صوت شخيرها المتقطع، الذي بمجرد بدئه اختلط من جديد بمحيط أوتوبيسي، وتيقنت من أن مشهدي في موقع تصويري الداخلي قد انتهى، ومشهدي الجديد أخذ منحى آخر، بين جو شديد الحرارة وشريط صوت محمّل بالشخير وصورة باهتة بين نائمة وصامتة وبعض الكومبارسات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...