تُعدّ قضية اللاجئين السوريين من أبرز القضايا المثيرة للجدل في الشارع التركي على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وغالباً ما تسعى الأحزاب المعارضة إلى تحقيق مكاسب سياسية من خلال التسويق لفكرة أن السوريين أثّروا سلباً على المؤشرات الاقتصادية التركية، لكسب أكبر شريحة من المجتمع، فضلاً عن العنصرية التي يتعرضون لها مؤخراً.
وانتشر خلال الأسابيع القليلة الماضية مشهدان على مواقع التواصل الاجتماعي في تركيا، أحدهما يتحدث عن هجرة مئات السوريين من تركيا في اتجاه أوروبا ودول أخرى كمصر والإمارات وكردستان العراق، والآخر يظهر الورش وأماكن العمل في عدد من المدن التركية وهي فارغة، بعد رحيل العمال السوريين.
وبالرغم من غياب الأرقام عن عدد السوريين المهاجرين من تركيا، باستثناء ما تعلنه وزارة الداخلية التركية بشكل دوري، عن عدد العائدين طوعاً إلى شمال غرب سوريا، والذين بلغ عددهم، حتى شهر آب/ أغسطس الفائت، 521 ألفاً و39 شخصاً، حسب المتحدث باسم وزارة الداخلية التركية إسماعيل تشاتكلي، إلا أن موقع TGRT التركي، أشار إلى أن قرابة 10 آلاف سوري سافروا إلى الاتحاد الأوروبي من خلال مشروع إعادة التوطين، بالإضافة إلى 15 ألف سوري هاجروا بشكل غير قانوني.
وسبق أن أشار وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، خلال مقابلة تلفزيونية مع قناة "TGRT" التركية ، إلى أن خروج السوريين من فئة العمال من تركيا، "قد يشكل مشكلةً لأصحاب العمل الأتراك بسبب الغياب المفاجئ لقوة عاملة رخيصة ومن دون بديل جاهز".
قرابة 10 آلاف سوري سافروا إلى الاتحاد الأوروبي من خلال مشروع إعادة التوطين، بالإضافة إلى 15 ألف سوري هاجروا بشكل غير قانوني
قطاعات عدة تخسر
أدت عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، أو هجرتهم، إلى نقص القوى العاملة في العديد من القطاعات في تركيا، لا سيما قطاع النسيج، وبحسب تقرير لصحيفة "تركيا غازيتسي"، قال أرباب العمل إن العمال الأتراك لا يقبلون رواتب العمال السوريين، وأشارت إلى أن قطاع الغزل والنسيج يشهد نقصاً بنسبة 60 في المئة من العمالة، فيما يعاني قطاع الجلود نقصاً قدره 10 آلاف عامل، كما انخفض الإنتاج في بعض المصانع إلى 30 في المئة.
وانتشرت خلال الأيام القليلة الماضية، تسجيلات فيديو كثيرة تظهر ورش الخياطة التي يعمل فيها السوريون خاليةً من عمّالها.
وفي هذا السياق، يقول الباحث في شؤون السوريين في تركيا عبد الله سليمان أوغلو، لرصيف22: "من الطبيعي في ظل الظروف الحالية أن يفكر الشباب السوري في السفر إلى خارج تركيا، حيث يعمل معظمهم من دون تأمين صحي واجتماعي، إذ أشارت دراسة نشرتها "منظمة العمل الدولية" في 2020، إلى أن 97% من السوريين في تركيا يعملون بشكل غير شرعي من دون تصريح عمل. كما أنهم يواجهون الحملات العنصرية التي انتشرت خلال الفترة الماضية، بالإضافة إلى التصريحات التركية حول تطبيع العلاقات مع النظام وإعادة مليون سوري خلال الفترة القادمة، والتي خلقت خوفاً وقلقاً لدى الكثير من السوريين مما دفعهم للبحث عن مكان بديل غير تركيا".
ويضيف: "لا توجد أعداد واحصائيات رسمية للمغادرين بطرق غير شرعية، لكن قطاعات كثيرةً تأثرت بذهابهم، مثل النسيج والألبسة والجلديات، وبالتأكيد قطاعات أخرى ستتأثر مثل قطاع الإنشاءات، لأن الكثير من قطاعات العمل سيطر عليها السوريون لانخفاض أجورهم، كما أن تركيا ستعاني خلال الفترة القادمة من نقص كبير في الأيدي العاملة وسينعكس ذلك على كميات الإنتاج وزيادة أسعار المنتجات، وقد تغلق الكثير من أماكن العمل في بعض القطاعات التي تعتمد على العمالة السورية".
من جهته، يقول أحمد الحسن، وهو عامل في معمل للنسيج في مدينة إسطنبول، لرصيف22: "ما حصل مؤخراً من تغير في سياسة تعامل الحكومة التركية مع اللاجئين السوريين، بالإضافة إلى سوء الوضع الاقتصادي وتدنّي الأجور، دفعني إلى الخروج من تركيا في اتجاه أوروبا. لم أكن أملك المال الكافي للسفر، ما دفعني إلى سؤال أقاربي واقتراض مبلغ منهم من أجل تغطية النفقات، وسلكت الطريق لأصل إلى ألمانيا قبل أيام".
السوريون والعمالة الأجنبية
تُعدّ تركيا من البلدان الرئيسة التي تعتمد بشكل رئيس على العمالة المحلية، بالإضافة إلى وجود عمالة خارجية يمكن وصفها بالثانوية، لكن قدوم اللاجئين السوريين إلى تركيا غيّر واقع العمالة الأجنبية في البلاد.
يوضح جلال بكور، وهو أحد المستثمرين السوريين في تركيا، لرصيف22، أن "اللاجئين السوريين أثروا على الدورة الاقتصادية التركية، وذلك تبعاً لأسباب عدة، من أهمها: قطاعات العمل، وتكلفة العمالة. ويَظهر هذا الأمر من خلال القطاعات التي تركز عمل اللاجئين فيها، ووفقاً للدراسات الأكاديمية والإحصائيات الرسمية فإن جزءاً كبيراً منهم يتركز في قطاعات التصنيع كالأقمشة والأحذية والزراعة والأعمال الحرة، وغيرها من القطاعات الإنتاجية. وهذه القطاعات ذات أثر واضح على القيمة المضافة، والتي بدورها تُعدّ رافعةً رئيسةً لمختلف المؤشرات الاقتصادية".
لا توجد أعداد واحصائيات رسمية للمغادرين بطرق غير شرعية، لكن قطاعات كثيرةً تأثرت بذهابهم، مثل النسيج والألبسة والجلديات، وبالتأكيد قطاعات أخرى ستتأثر لأن الكثير من قطاعات العمل سيطر عليها السوريون لانخفاض أجورهم
ويضيف: "تركزت العمالة الأجنبية في قطاعات يغلب عليها الطابع الخدماتي، وهو قطاع يُعدّ منخفض المساهمة في مجال القيمة المضافة، على عكس القطاع الإنتاجي، فوفقاً لإحصائيات العمالة الأجنبية قبل اللجوء السوري، فقد تركزت في مجال رعي الأغنام وخدمات البيوت، وتُعدّ مساهمة هذه القطاعات في الدورة الإنتاجية منخفضةً نسبياً. والقطاعات الإنتاجية تُعدّ حلقةً رئيسةً في الدورة الاقتصادية، على عكس القطاعات الخدمية التي تُعدّ منخفضة المساهمة، لذلك فإن مساهمة اللاجئين في الدورة الاقتصادية التركية صار أوضح وأكثر فاعليةً مقارنةً بمساهمة العمالة الأجنبية من جنسيات أخرى".
الأثر الاقتصادي
غياب القوى العاملة السورية يؤثر أولاً على صاحب العمل التركي، الذي سيتعين عليه دفع مبلغ أكبر للعامل التركي، إذ لا يقبل الأخير العمل بالراتب نفسه مثل العامل السوري، وتالياً ستكون هناك تكلفة إضافية من شأنها أن تنعكس على صاحب العمل وأرباحه، وهذا يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع، وتحديداً البضائع التي يعمل عليها السوريون، وتالياً ستنخفض قدرتهم على المنافسة خارج تركيا بسبب الثمن الباهظ.
متوسط أجور العاملين السوريين في تركيا لا يتجاوز 300 دولار، وفي الوقت ذاته يعمل 92% منهم أكثر من 8 ساعات يومياً
وتشير الإحصائيات والدراسات الأكاديمية، إلى أن متوسط أجور العاملين السوريين في تركيا لا يتجاوز 300 دولار، وفي الوقت ذاته يعمل 92% منهم أكثر من 8 ساعات يومياً، ما يدل على أن الدورة الاقتصادية التركية استفادت من اللاجئين السوريين أكثر مما استفادوا هم.
يقول أنس شواخ، وهو باحث في مركز جسور للدراسات، لرصيف22: "مساهمة اللاجئين السوريين في الدورة الاقتصادية التركية ذات منفعة مائلة إلى حساب الاقتصاد التركي على حساب منفعتهم الخاصة، وهذا على العكس من مساهمة العمالة الأجنبية غير السورية، فقبل اللجوء السوري كان متوسط الأجر الشهري للعامل الأجنبي في تركيا 500 دولار، وفي بعض المهن كان يبلغ 700 دولار، لأن التكلفة التي يتم دفعها للعمالة الأجنبية كانت تُعدّ مرتفعةً نسبياً خاصةً أن مساهمتها في القيمة المضافة التركية كانت منخفضةً نسبياً، لذلك يمكن القول إن الكفّة كانت راجحةً لصالح العمالة الأجنبية من غير السوريين على حساب الاقتصاد التركي".
ويضيف: "تأثير الهجرة لا يقف عند غياب الأيدي العاملة السورية فقط، بل يمتد إلى ما يُطلَق عليه رأس المال الاجتماعي، أي أن السوري جاء ومعه مهنته وزبائنه الموجودون في الدول العربية، وفتح وجود السوريين الأسواق العربية للأتراك، كما أن الكثير من السوريين يصدّرون منتجاتهم من تركيا إلى أوروبا وآسيا، وتالياً كان لهم دور في إنعاش الاقتصاد التركي".
وسبق أن أشار البنك المركزي التركي في عام 2018، إلى أن مساهمة اللاجئين السوريين في الناتج المحلي الإجمالي تُقدَّر بنسبة 0.5%، ولكن هذا الرقم ارتفع مع إنشاء السوريين آلاف الشركات، التي ساهمت في رفد السوق التركي بالعمالة، ووظفت الكثير من العمال الأتراك. كما تُقدّر أعداد العاملين السوريين في تركيا بـ1.17 مليون عامل، ونسبتهم لإجمالي اليد العاملة التركية 2.9%.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...