كان هذا السؤال يراودني منذ صغري. وهو سؤال لا أمتلك الإجابة عنه، ولا أظنني امتلكها الآن، لكنني أشعر به، بخطورته، وحساسيته، وفرضية وجوده. كنت حينها طفلاً صغيراً، في عائلة فيها نساء محجّبات، ونساء غير محجّبات، حينما تعرّفت على الحجاب للمرّة الأولى. كنت أبحث عن أمي، مثل أي طفل آخر. طرقت باب الغرفة، وفتحته على عجل. فجأةً، ركضت امرأة وخبّأت نفسها. تعرّضت للّوم من أمي، وبدأت نساء كنّ معها بالمزاح: "أخرجي أخرجي، هذا طفل!". كان جوابها صادماً لي حينما قالت إنه لا يجوز أن تكشف شعرها أمامي، أنا الذي كنت في سنّ العاشرة على ما أذكر.
هذه الحادثة، وضعت أمامي تخيّلات كثيرةً، أهمها أن أكون في مكانها، وأن تدخل طفلة، فأخبّئ نفسي، لأنها لا يجب أن ترى شعري. مرّةً أخرى تعود هذه التخيّلات، بعد أن اغتيلت زينا أميني (مهسا أميني)، وأصف الحادثة بالاغتيال، لقناعة ترى أن ما حدث كان اغتيالاً لها، لأنوثتها، ولحقّها كأنثى، حقها في أن تعيش، مجرّد أن تعيش. اغتيلت "أميني" في طهران، وتعرّضت للتعذيب، ليس لأنها لا ترتدي الحجاب، بل لأنها ترتدي الحجاب، لكن ليس كما يحدّده الذكور لها.
كنت أبحث عن أمي، مثل أي طفل آخر. طرقت باب الغرفة، وفتحته على عجل. فجأةً، ركضت امرأة وخبّأت نفسها. تعرّضت للّوم من أمي، وبدأت نساء كنّ معها بالمزاح: "أخرجي أخرجي، هذا طفل!"
أتخيّل إن كنت كذلك. أتخيّل مع الآخرين، في سؤال واحد، لي، ولكلّ الرجال.
تخيّل أن تكون فتنةً. بمجرّد أن تمتلك شعراً لا تحجبه عن النساء، تكون فتنةً. هذا الشّعر ربّما يوقِع عائلتين في ثأر، أو قبيلتين، لا تحذف الياء، فالقُبلَتين فتنة أيضاً.
تخيّل أن يكون شعرُك حرّاً حتّى سنٍّ محدّدة، وبعد ذلك يكون عاراً. تخيّل أن يكون شعرك الذي تصفّفه الآن في العلن، يراه الكثير من المارّة عاراً وفتنةً، وربّما يقودك إلى النّار. تخيّل أن مظهرك، خاصةً شكل تقديمك لشعرك، يحدّد مكانك ربّما، في الجنّة أو في النّار.
تخيّل ألا يكون ذلك اختياراً، أو شيئاً تقرّره، وإنّما فرض، لأنك كرجل تملك جسداً، يجده مجتمعك "عورةً".
تخيّل ألا يكون ذلك اختياراً، أو شيئاً تقرّره، وإنّما فرض، لأنك كرجل تملك جسداً، يجده مجتمعك "عورةً". ثم تقيَّم أخلاقيّاً، وتُقسمون أنتم الرجال إلى فريقين: فريق يرتدي الحجاب، وبعضكم مقتنع، وبعضكم الآخر فُرض عليه ذلك، وفريق لا يرتدي الحجاب، متبرّج، ويثير غرائز النساء، اللواتي ربّما يكون سبب تحرشهن بكم هو لباسكم.
تخيّل أن يكون عدم ارتدائك الحجاب، نتيجته تهديد لك، ولحياتك، من نساء عائلتك، اللواتي يرفضن وجودك، وينفين حقّك، ويُغلِّفن اتّهامات لك، وكلّها تنمطّك وفق جسدك، الذي يواجه كراهيّةً من النساء في الشّارع، فتتعرض للتنمر منهن، وللإقصاء والتمييز، وإن وُجدت امرأة متطرّفة، ربّما ترجمك بالحجارة.
ماذا إن كنت رجلاً محجّباً، وقرّرت أن تخلع حجابك، وتُظهِر شعرك، وتصفّفه كما تشاء؟ هذا يعني أنّ خطاباً نسائياً عنيفاً سيواجهك، وأنك ستكون متشبّهاً بالرجال الغربيين، الذين لا يملكون نساءً غيورات عليهم. ربّما النساء الغربيات يأكلن لحم الخنزير، فثقافتنا النسائية في الشّرق تقول إن أكل النساء للحم الخنزير يقلّل من مروءتهن وغيرتهن.
وإن كان العكس، أي إن كنت رجلاً غير محجب، وقرّرت أن تفعل ذلك، أي أن ترتدي الحجاب، ماذا سيحدث معك؟ تخيّل حينها المديح، والزّهو بك من نساء العائلة، والتبريك الذي ستحصل عليه من نساء مجتمعك، ووصفك بالعفيف، والمتخلّص من العورة وعدمية الأخلاق. لا داعي لأن تتخيّل أن ذلك يجعل من بقية الرجال غير المحجبين، لا أخلاقيين سيئين، فهذا ليس شأنك، أنت صرت من الفريق الآخر.
ماذا إن كنت رجلاً محجّباً، وقرّرت أن تخلع حجابك، وتُظهِر شعرك، وتصفّفه كما تشاء؟ هذا يعني أنّ خطاباً نسائياً عنيفاً سيواجهك، وأنك ستكون متشبّهاً بالرجال الغربيين، الذين لا يملكون نساءً غيورات عليهم
لست في حاجة إلى أن تتخيّل. لن تشعر بذلك، ولا يمكنك أن تشعر بذلك. لأن هذا لن يحدث يوماً، ولم يحدث يوماً. فلأننا ذكور، ذكور فحسب، ليس في جسدنا ما هو فتنة وعورة، وبضاعة جنسية للنساء.
تخيّل أن تكون امرأةً، في مجتمع يطرد النساء اللواتي يقرّرن أن يستعدن مِلكية أجسادهن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...