البساطة والتركيب، السهولة والتعقيد، الخفة والتراكم، البراءة والخبرة؛ ثنائيات كاشفة للمسافة بين الفردي والجمعي، الشخصي والعمومي، في قضايا ومحاور متعددة. أختار هنا قضية المصائر ودور المصادفات في صنعها. فالتطور الاجتماعي، والأحداث السياسية العاصفة، والتحولات الكبرى للأمم لا تخضع لقانون المصادفة، ولو بدا ذلك في الظاهر.
للحتميات قانونها الخاص، وما على المصادفة إلا التعجيل به، وحفر مجراه. وقد تحرفه قليلاً، ثم يعود إلى مساره. والريح تعجز عن اقتلاع شعب، وقد تحمل فرداً إلى أرض أخرى. يرتبط الارتحال الجماعي بالكوارث، والشخصي بالطموح والإرادة، أو المصادفة. يسهل على الفرد التخلص من أثقاله. وكلما خفّت حمولته قفز أبعد، مستجيباً لنداهة مصادفة واعدة بمصير آخر.
"تعست العجلة"، مثل أشهر من صاحبه؛ أثر وحيد دالّ على إنسان عاش في كتب الأدب. كان "فِـند" مولى عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، وأرسلته ليقتبس ناراً، وتصادف ذلك مرور قوم مشى معهم إلى مصر. ورجع بعد سنة، وتذكّر النار. حلمها راكضاً، فعثر وتبدد الجمر، فاغتاظ وقال: "تعست العجلة"، فصارت مثلاً. وقيل فيه "أبطأ من فِـند". وحظي من عائشة ببيت: بعثتك قابساً فلبثت حولاً/ متى يأتي غياثك من تغيث. وفيه قال شاعر: ما رأينا لغراب مثلاً/ إذ بعثناه يجي بالمشملة/ غير فِـند بعثوه قابساً/فثوى حولاً وسبّ العجلة. لو أدى فِـند مهمته أداءً تقليدياً مثالياً لما دخل متن الشّعر وكتب الأمثال.
فجأة قال المسيري إن عنده لشكوكو مونولوغاً "يكسّر الدنيا بس إيدك الأول على عشرة جنيه". وأمسك المسيري بالقلم، والخميسي يفكر، ولا يعرف أي مونولوغ يتكلم عنه المسيري. وأملاه: "ورد عليك، فل عليك، يا مجنني بسحر عينيك". وصار من أشهر مونولوغات شكوكو
كم فِـند حلمته مصادفة إلى مصر وغيرها؟ ماذا لو أحبته امرأة في الدنيا الجديدة؟ منسوب الخيال يميز الطَّـموح من الخامل. لا شيء يغري فِـنداً بالعودة. هدية القدر لا يرفضها إلا مغفّل. وفي الريف المصري تطربك أصوات عذبة، ويدهشك أصحاب ذاكرة لا تسلل منها التفاصيل. ولا أحد يعرف عدد أمهات كلثوم قليلات الحيلة، اكتفين بالغناء لأولادهن ثم للأحفاد.
أم كلثوم إبراهيم وحدها اغتنمت الفرصة، بذكائها الفطري وحماسة أبيها ورهانه على موهبتها. مصادفة اللقاء بالشيخ أبو العلا محمد اختصرت الطريق. كما أتاح اختراع الراديو للشاعر جابر أبو حسين رواية السيرة الهلالية. ربما كان غيره يحفظها، قبل الإذاعة، وماتت الروايات بموت الرواة المجهولين.
في شركة مصر للغزل والنسيج بمدينة المحلة الكبرى عمل الشاب صلاح أبو سيف سكرتيراً إدارياً. كانت السينما المصرية ستخسر مخرجاً كبيراً لو أنه وجد إغراءً وظيفياً يصرفه عنها، ويجعلها طقساً لمشاهدة الأفلام.
في عام 1936 زار الشركة المخرج نيازي مصطفى (1911ـ1986)، فتغيرت حياة أبو سيف (1915ـ1996). من حوارهما، تأكد للمخرج العائد من دراسة السينما بألمانيا شغف الموظف بالسينما، أفلاماً وكتابات في الصحف والمجلات، فتدخل لدى المسؤولين في شركة مصر للتمثيل والسينما، وكانت تتبع بنك مصر مثل شركة المحلة للغزل والنسيج، لنقل الشابِّ للعمل في ستوديو مصر بالقاهرة، والتحق بقسم المونتاج. وأصبح رائداً للواقعية في السينما المصرية.
من المصادفات الطريفة ما يصنع أغاني تُكتب ارتجالاً. في كتابه "عبد الرحمن الخميسي... القديس الصعلوك"، روى يوسف الشريف أن الخميسي، في إحدى نوبات تكاثر الديون عليه، كان يجلس في قهوة الفن بشارع عماد الدين بالقاهرة مع أحمد المسيري، "وليس في جيب أيّ منهما مليم". ودخل عليهما الفنان الشعبي محمود شكوكو، وفكرا في الاقتراض منه وتراجعا.
وفجأة قال المسيري إن عنده لشكوكو مونولوغاً "يكسّر الدنيا بس إيدك الأول على عشرة جنيه". دفع شكوكو الجنيهات العشرة، وأمسك المسيري بالقلم، والخميسي يفكر، ولا يعرف أي مونولوغ يتكلم عنه المسيري. وأملاه: "ورد عليك، فل عليك، يا مجنني بسحر عينيك". وصار من أشهر مونولوغات شكوكو.
ويحكي المؤلف أنه كان يتناول الغداء في بيت الخميسي عام 1964، وجاء بليغ حمدي مهموماً، يريد مئة جنيه على الأقل، لشراء هدية يقدمها إلى وردة "في حفل عيد ميلادها هذا المساء". الخميسي متلاف، يكسب الآلاف ويبددها فوراً، ولم يجد معه إلا 27 جنيهاً وبضعة قروش، وهو مشهور بين أصدقائه بجملة "مفيش مشكلة".
اتصل بكامل الشناوي ليقرضه مئة جنيه، "لكنه أبى وتمنع"، فأشعل ثلاث سجائر، وسأل عن الأغاني الرائجة؟ أجاب بليغ: "الأفراح". فقال: فُرجت. وأشعل سيجارة رابعة، وكتب أغنية مطلعها "ما تزوّقيني يا ماما... قَوام يا ماما"، وطلب إلى بليغ تلحينها، فتناول العود. واتصل بشركة صوت القاهرة لحجز ستوديو، لتسجيل الأغنية.
جرت التدريبات لتسجيل أغنية وبليغ مشغول بالتلحين. واتصل الخميسي بأحمد فؤاد حسن لجمع فرقته الماسية، وفي التليفون قرأ الأغنية للفنانة مها صبري، فأعجبتها، ووعدت بالحضور الساعة السادسة مساء لتسجيلها.
المصادفة التي أحدثت تغييراً جذرياً في مسار حياة، والخميسي طرف فيها، هي اكتشافه معدن فتاة في السابعة عشرة. كانت تغسل الأطباق، وكلمها، وفوجئ بأنها لا تعرف الكتابة. بالبصيرة رأى الجوهرة المخبوءة في روحها، واختارها لبطولة فيلم "حسن ونعيمة". كانت سعاد حسني
وبعد ساعات تسلم الخميسي 400 جنيه، وبليغ 800 جنيه. وذهبوا إلى محل فهمي الميهي الجواهرجي لشراء خاتم من الماس، وتوجهوا إلى منزل وردة. وقدم إليها الهدية، وخطبها في الحفل. أما المصادفة التي أحدثت تغييراً جذرياً في مسار حياة، والخميسي طرف فيها، فهي اكتشافه معدن فتاة في السابعة عشرة. كانت تغسل الأطباق، وكلمها، وفوجئ بأنها لا تعرف الكتابة. بالبصيرة رأى الجوهرة المخبوءة في روحها، واختارها لبطولة فيلم "حسن ونعيمة". كانت سعاد حسني.
مصادفة اكتشاف سعاد حسني دراما أكثر وضوحاً في الحياة الفنية في مصر. النجوم كلهم، بمن فيهم أختها نجاة الصغيرة، سبقتهم إرهاصات بميولهم، أو رغبة أهلهم في الدفع بهم إلى هذا الفن أو ذاك، إلا سعاد، وغيرها تفاصيل كالتقاط جملة، والبناء عليها. خميرة أغنية مثلاً.
كان الشاعر الغنائي مرسي جميل عزيز يفضل الإقامة في مدينته، الزقازيق، بمحافظة الشرقية. وحدث أن كان في بيت الملحن محمود الشريف بالقاهرة، وطلب إليه أغنية فرح ليلحنها للمطربة أحلام. وخلال الحديث جاءهما من الشارع صوت بائع خضر متجول، اختار الثوم عنواناً لبضاعته: "توم الخزين يا توم". فألهمه النداء أغنية مطلعها "توب الفرح يا توب". مصادفة الإيقاع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com