منذ الملكة "ديهيا بنت ماتيا بنت تيفان" التي كانت تمتطي صهوة حصانها وتطارد فلول الغزاة وترسم حدود مملكتها من طرابلس إلى امتداد شمال أفريقيا، وضعت المقاتلات الليبيات الأمازونيات أقدامهن على الأرض الإفريقية، منذ اللواتي قطعن أثداءهن ليتفرغن للقتال، ومن ثم جاءت حفيداتهن اللواتي تدلّت أجسادهن على مشانق الإيطاليين.
تلك المحاربة الشرسة هي التي كانت تصنع الدفء من أكداس الصوف وتجني الرزق من حقول الزيتون والقمح، فلم تمنعها مجوهرات الفضة والعقيق الثمين ولم تعقها الملابس الفاخرة ولا نقوش الحناء والوشم الذي كانت تزين به جسدها من أن تنخرط في صناعة الحياة بكل ما فيها ومن فيها.
الزمن تغيّر... كثيراً
في ليبيا لم تكن المرأة يوماً نصف المجتمع، بل كانت المجتمع كله ولم تترك مسرحاً للعمل إلا واقتحمته ولعبت فيه أهم الأدوار داخل البيت وخارجه قديماً وحديثاً، وكما تتطور المجتمعات الإنسانية وتتغير بمرور الزمن شهد حجم الوجود الأنثوي في سوق العمل الليبي تغيرات كثيرة وخضع لاعتبارات فرضت على النساء مكان العمل وزمنه ونوعه الذي يتيح لها المجتمع أن تقوم به، في ظله وتحت وصايته.
كان العرف الاجتماعي في ليبيا ولا يزال يحاول حصر أماكن عمل النساء في البيت أو المدرسة أو بعض المهن الطبية التي تعتبر ملاذاً للراغبات في الاستقلال المالي ما يضطرهن إلى الاتجاه إليها حتى إذا لم تكن لديهن رغبة في ذلك
قانونياً، ليس هناك ما يمنع المرأة الليبية من أن تتبوأ المكان الذي تريده عندما تفكر في الحصول على فرصة عمل، لكن الواقع أن هناك سلطات أخرى تتفوق على سلطة القانون، منها السلطة الاجتماعية للعادات والتقاليد. لا أبالغ إذا قلت إن هذه السلطة في بعض الأحيان قد تفوق في تشددها بعض تعاليم الدين في فرض رؤاها.
في القانون رقم "12" الخاص بعلاقات العمل والصادر عام 2010، نلمس إنصافاً لا تحظى به المرأة الليبية على أرض الواقع؛ إذ تنص المادة الثانية من هذا القانون على أن العمل حق لكل المواطنين ذكوراً وإناثاً وواجب عليهم، فهذه العبارة الفضفاضة منحت حقاً قانونياً أصيلاً للمرأة، لكن ثمة سلطة أخرى تتحكم في المشهد برمته وتحد من أثر هذا الحق فتقيده حيناً وتجرده عن صاحباته حيناً آخر.
كان العرف الاجتماعي في ليبيا ولا يزال يحاول حصر أماكن عمل النساء في البيت أو المدرسة أو بعض المهن الطبية التي تعتبر ملاذاً للراغبات في الاستقلال المالي ما يضطرهن إلى الاتجاه إليها حتى إذا لم تكن لديهن رغبة في ذلك، لأن ضمان موافقة الأسرة والمحيط الاجتماعي هو الفيصل في هذه الخيارات، ولأن ليبيا بمساحتها الجغرافية الشاسعة تضم مجتمعات بدوية وريفية وحضرية فإن هذه المعايير تختلف من منطقة لأخرى.
ففي القرى كانت النساء يتجهن إلى التعليم في المدارس بالإضافة إلى العمل في الحقول الصغيرة المتاخمة للبيوت، أما في المدن التي تتركز فيها السمات الحضرية للسكان فإن العمل وقبله الدراسة يعتبر ظاهرة شائعة، فتملك المرأة فيها خيارات أكبر وأكثر لنجدها في وظائف إدارية كثيرة لا تستطيع الريفيات أن تفكر أصلاً في طرق الأبواب المؤدية إليها.
العشرية الأخيرة لم تأت لصالح النساء
في العشرية الأخيرة طرأت تغيرات كثيرة صاحبت الزلزال السياسي الذي اجتاح المجتمع الليبي، فأسقط نظاماً وعجز حتى الآن عن فرض نظام بديل، ليكون بيئة صالحة لنمو قناعات جديدة، أو ربما هو عودة لسيرة الجدات الفلاحات النساجات الحرفيات المقاتلات في كل معارك الحياة.
ساهمت الظروف الاقتصادية الصعبة في انخراط كثير من النساء في سوق العمل في مهن كانت حكراً على الرجال وأصبحت تجد إقبالاً أنثوياً للخوض فيها، ساعد على ذلك التطور التكنولوجي الهائل الذي وصل متأخراً إلى البلاد بصيغته الحالية، لكنه ساهم بفعالية في توفير فرص عمل مهمة لسيدات وبنات يمارسن عملهن داخل بيوتهن لتصل ثمرته إلى المستهلك في كل مكان، فتقوم بيوتهن على سواعدهن وما تنتجه.
تختلف ظروف عمل المرأة بين المدن الكبيرة والقرى الصغيرة، ففي الأخيرة تمنع رابطة القرابة والمصاهرة العائلات من تجاوز الخطوط الاجتماعية الحمراء فنجدهم يحافظون على عدم مغادرة بناتهم إلا إلى المدارس كتلميذات ومعلمات فيها
تختلف ظروف عمل المرأة بين المدن الكبيرة والقرى الصغيرة، ففي الأخيرة تمنع رابطة القرابة والمصاهرة العائلات من تجاوز الخطوط الاجتماعية الحمراء فنجدهم يحافظون على عدم مغادرة بناتهم إلا إلى المدارس كتلميذات ومعلمات فيها، علماً أن العمل الإداري والمكتبي لم يكن رائجاً في السابق.
أما في المدن فمعظم العائلات بعيدة ومتغربة عن محيطها الاجتماعي، ومتجردة نوعاً ما من القيود الاجتماعية للأقارب، ثم إن عجلة الوضع الاقتصادي تجعل الأسرة تنخرط بكامل أفرادها في سوق العمل لتواكب الحياة ومتطلباتها الكثيرة، مع الوجود الدائم والمطرد لفرص العمل المختلفة للمرأة متى سمحت لها الوصاية الذكورية ومتى كسرت مع عائلتها القيد الاجتماعي.
اليوم اختلف الوضع تماماً حتى في القرى وأصبح من الطبيعي أن تلتحق الفتاة بالجامعة وتحصل على فرصة عمل بعدها، سواء في مجال تخصصها أو حتى بعيداً عنه، وقد أدت الظروف الاقتصادية التي مرت بها البلاد في السنوات الأخيرة إلى اتساع قاعدة المشاركة النسوية في صناعة الوضع الاقتصادي الجيد أو حتى الرفاهية الاقتصادية لبعض العائلات، مع بقاء بعض المهن في خانة الاستهجان وعدم القبول من بعض المجتمعات خاصة في الريف وبعيدا عن الانفتاح الحضري للمدن الكبيرة.
تقول إيمان (33 عاماً) لرصيف22 وهي معيدة في كلية العلوم وطالبة ماجستير: "نعم لقد حصلت على عملي هذا بكل سهولة لكن طريق الوصول إليه كان شاقاً، دراسة وسهر وتعب لأكون الأولى على دفعتي، لقد كنت أحلم بشيء آخر تماماً غير التدريس في الجامعة قد يكون في المجال النفطي الذي استمتعت بدراسة كل ما يتعلق به في تخصص الجيولوجيا، وهذا متاح جداً، لكن السبب وراء عدم تحقيقي هذا الحلم يخصني وحدي ويتعلق فقط بظروف زواجي وإنجابي لطفليّ".
فرص عمل النساء موجودة وبشكل كبير لكن اقتناصها يحتاج فتاة أو امرأة لا تخضع بالمطلق لقيود المجتمع التي قد تكون جائرة ومبالغاً بها، امرأة لا تركن لأمومتها وتجعلها سبباً في تفضيلها العمل الروتيني البسيط أو القريب من بيتها مثل مدرسة الحيّ.
أما عبير (39 عاماً)، وهو اسم مستعار، فقد درست في جامعة غريان وعملت فيها بعد تخرجها، تقول لرصيف22: "لم أحصل على هذه الوظيفة بسهولة، ومع هذا فهي لا تلبي طموحاتي، كنت أتمنى العمل في مجال المختبرات الطبية الذي عملت فيه أصلاً قبل زواجي، لكني تركته وبقيت في عملي في الكلية لأنه الأنسب لزوجة وأم، رغم كون المجهود أكثر من المقابل بالإضافة إلى عدم التطور في مجال العمل، أما عن فرص العمل فلو رغبت بالعودة إلى مجال المختبرات لوجدت مكاني جاهزاً منذ الغد، فرص العمل متاحة دائماً في مدينتي".
وتقول هند (23 عاماً) الطالبة في الجامعة نفسها: "فرص العمل موجودة لكن ما أريده في مجال تخصصي لا يوجد في مدينتي، لهذا لا أعرف إذا كنت سأحظى بالعمل الذي أطمح إليه.فمن الصعب على الفتاة في قريتي المغادرة لمكان آخر للعمل".
إيمان... لقد كنت أحلم بشيء غير التدريس في الجامعة قد يكون في المجال النفطي، وهذا متاح جداً، لكن السبب وراء عدم تحقيقي هذا الحلم يخصني وحدي ويتعلق فقط بظروف زواجي وإنجابي لطفليّ
تمثل الفتيات اللواتي شاركن بآرائهن عينة من الفتيات الليبيات، واليوم مع تطور ونمو المناطق أمسى "لا بأس" بعملهن في الوظائف الطبية وبعض الوظائف الإدارية، ولمَ لا محاميات وطبيبات ومهندسات ناجحات وموظفات في الدوائر الحكومية، وكل هذا متاح لكن تظل بعض الوظائف مستهجنة من قبل المجتمع.
من الأمازونيات إلى الطائرات الحربية إلى التقييد
ففي الوقت الذي كانت الليبية تحلق بطائرة حربية في بداية سبعينيات القرن الماضي وكانت أكثر مسؤولية عن نفسها وعن ملابسها وعن معظم خياراتها فقد تعجز اليوم عن الانضمام إلى الكلية التي تطمح للدراسة فيها لأنها تقع في مدينة بعيدة ولأن الوضع الأمني هش ويفتح ذراعيه للاحتمالات السيئة في كل لحظة.
الظاهرة التي برزت في السنوات الأخيرة هي انطلاق المشاريع الصغيرة من البيوت وترويجها عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتغطي مناطق جغرافية كبيرة وتحقق نجاحاً كبيراً
أما الظاهرة التي برزت بشكل لافت في المجتمع الليبي في السنوات الأخيرة فهي انطلاق المشاريع الصغيرة من البيوت وترويجها عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتغطي مناطق جغرافية كبيرة وتحقق نجاحاً كبيراً لبعض ربّات هذه الأعمال التي قد يتحول بعضها إلى مشاريع اقتصادية كبيرة تقوم على حِرف صغيرة مثل الطبخ والحياكة والتطريز والرسم والتصوير وغيرها.
فكرة الـ"أونلاين" تحايلت على بعض عادات المجتمع التي كانت العائق الحقيقي أمام انطلاق المرأة في سوق العمل، ولعلها بوابة من بوابات المستقبل التي تفتح للنساء على حين غرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون