في العام 1939، وُلدت الليرة اللبنانية من رحم فرنسي، وهي بالرغم من تغيير ولاءاتها بين الفرنسيين والإنكليز، تمكنت في عمر العشرين من أن تدخل قائمة أقوى 10 عملات في العالم، واستمرت كذلك حتى العام 1970. يومها لم يتجاوز سعر الدولار الواحد 3 ليرات لبنانية، وكل ذلك قبل الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، ومن بعده أصبح الدولار يوازي 6 ليرات، ثُم 2،382 ليرةً عام 1992، و39،000 ليرة عام 2022.
مرّت الليرة اللبنانية بتجارب قاسية عديدة على مرّ سنواتها، سنتوقف عند أبرز مرحتلين فيها؛ مرحلة التثبيت عند مستوى 1،507 ليرات للدولار الواحد عام 1997، ومرحلة الانهيار عام 2019 وما يُحكى عن قرار بدفن سعر الصرف القديم إلى غير رجعة، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات على حياة اللبنانيين.
مراحل سعر الصرف
بحسب دراسة أجرتها شركة "الدولية للمعلومات"، فإن مراجعة تطور سعر صرف الدولار مقابل الليرة خلال الـ60 عاماً الماضية تظهر أنه مر بـ8 مراحل، تُلخَّص على الشكل التالي:
المرحلة الأولى: تمتد من عام 1960 حتى 1981، وتميزت هذه المرحلة بقوة الليرة، وتراوح سعر الصرف في هذه المدة الطويلة بين 2.3 و4.3 ليرات للدولار الواحد.
المرحلة الثانية: تبدأ من عام 1982 وحتى عام 1985: وتميزت هذه الفترة ببداية ارتفاع سعر صرف الدولار، وبلغ سعر الصرف 4.7 ليرات للدولار عام 1983، وبلغ 18.1 ليرة للدولار عام 1985.
المرحلة الثالثة: من 1986 حتى عام 1992: وتميزت هذه الفترة بالارتفاع الكبير في سعر الصرف، فقد ارتفع سعر صرف الدولار مقابل الليرة من 87 ليرةً في نهاية عام 1986، إلى 2،825-3،000 ليرة في شهر أيلول/ سبتمبر 1992، وهذه المرحلة هي التي شهد فيها لبنان أصعب حروبه الأهلية.
المرحلة الرابعة: تمتد من عام 1993 حتى عام 1998، وتميزت بتراجع سعر صرف الدولار من 2،825 ليرةً إلى 1507 ليرات، وهذه المرحلة هي التي تلت عملية المصالحة اللبنانية في مدينة الطائف السعودية، وأوقفت خلالها الحرب الأهلية وأُطلقت السوق المالية الحرة.
المرحلة السادسة: بدأت في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وتميزت ببداية ارتفاع سعر الصرف وظهور القوة الحقيقية للّيرة مقابل الدولار
المرحلة الخامسة: تمتد من عام 1999 إلى عام 2019: وتميزت هذه المرحلة بالاستقرار، فقد استقر سعر صرف الدولار خلال هذه الفترة الطويلة عند 1،505 ليرات و1،515 ليرةُ، وبمتوسط يبلغ 1،507.5 ليرات.
المرحلة السادسة: بدأت في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وتميزت ببداية ارتفاع سعر الصرف وظهور القوة الحقيقية للّيرة مقابل الدولار.
وإذا أردنا إضافة مرحلة، فإنها ستكون المرحلة المتوقع انطلاقها في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، وهي المرحلة التي يُرجح أن تشهد تغيّر سعر الصرف الرسمي من 1،507 ليرات إلى 15،000 ليرة.
مرحلة التثبيت وأثمانها
احتاج حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بعد وصوله إلى منصبه عام 1993، إلى 4 سنوات تقريباً ليضبط سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأمريكي على سعر 1،507 ليرات، مع العلم أنه لا يوجد أي سند قانوني أو ورقة رسمية تتحدث عن سعر الصرف الرسمي الذي أصبح معتمداً منذ الأول من شهر كانون الأول/ ديسمبر عام 1997، حتى العام 2019، فهذا السعر لم يُحدد بقانون أو مرسوم، بل ارتبط بمواد معيّنة في قانون النقد والتسليف تتحدث عن مهمة مصرف لبنان بتسيير العمل المصرفي، والمحافظة على سلامة النقد اللبناني.
لا يمكن لأحد أن يُخفي التأثير الإيجابي المباشر لمرحلة تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار، إذ كان لهذا الإجراء أثره المباشر على قيمة أموال اللبنانيين، الأمر الذي رفع من قوتهم الشرائية وحسّن من مستواهم المعيشي، وتُشير المتخصصة في الشأن الاقتصادي محاسن مرسل، إلى أن موضوع تثبيت سعر الصرف له شقّان، الأول هو أن الاستثمارات عادةً ما تأتي إلى البلاد التي لديها استقرار في سعر الصرف أو سعر الصرف فيها متحرك له حدود معينة، كما أن استقرار سعر الصرف كان ضرورةً بعد الحرب الأهلية لمدة معيّنة، لاستقطاب الودائع، أضف إلى ذلك أن المرحلة كانت مساعِدةً إلى حد ما، ولكنها كلّفتنا الكثير.
كان اللبناني في "حلم" عنوانه قيمة الليرة الوهمية، وكان يعيش في رفاهية قلّ نظيرها بين الدول. عام 2019، استيقظ اللبنانيون على الحقيقة المرّة
وتضيف مرسل، في حديث إلى رصيف22: "الخسائر جرّاء التثبيت كانت أيضاً باهظةً، فكلفة التثبيت تتحمل جزءاً من مسؤولية تبديد ودائع المودعين. هم يقولون إن رقم الخسائر 73 مليار دولار، ولكن الرقم أعلى من ذلك بكثير"، مشيرةً إلى أن مصرف لبنان يخفي الخسائر تحت بند ما يُعرف بالموجودات الأخرى، ولا نعلم ما هي الموجودات الأخرى، فهذا الرقم يتحرك كثيراً، مرةً كان 33 مليار دولار، والآن هو 63 مليار دولار إذا كانت الأرقام دقيقةً".
كان اللبناني في "حلم" عنوانه قيمة الليرة الوهمية، وكان يعيش في رفاهية قلّ نظيرها بين الدول، ففي أي دولة في العالم كان يمكن لمن يحصل على راتب قدره ألف دولار أمريكي شهرياً، أن يشتري سيارةً وهاتفاً جديداً، ويسافر للسياحة، ويتملك شقةً بقرض سكني، ويعيش حياة رفاهة؟ عام 2019، استيقظ اللبنانيون على الحقيقة المرّة.
بداية نهاية الكذبة
في تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2019، وعلى وقع التحركات الشعبية المطالبة بتغيير النظام اللبناني، وبعد تهريب أموال كبار المودعين من المصارف اللبنانية إلى الخارج، شهدت الليرة انهياراً دراماتيكياً وصل إلى نحو 15،000 ليرة للدولار الواحد في الثلث الأول من عام 2021، لتتوالى الانهيارات بالرغم من كل محاولات الحكومات والمصرف المركزي لتدارك المسألة، في ظل عدم الجدية في الإصلاح، والمناكفات السياسية والانتخابية، ما جعل الليرة تصل إلى حدود الـ39 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد مع بداية شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2022.
خلال هذه المرحلة، حافظ مصرف لبنان على السعر الرسمي لليرة مقابل الدولار في التعاملات الرسمية فحسب، والتي تخصّ الدولة اللبنانية، بينما باتت للدولار سوقه السوداء المتحركة بناءً لحركة العرض والطلب، ومضاربات القوى المالية والسياسية. وبالرغم من حفاظه على السعر الرسمي في التعاملات الرسمية، إلا أن المصرف المركزي خلق أسعاراً متعددةً للّيرة مقابل الدولار؛ في المصارف 3،900 ليرة للدولار الواحد ومن ثم 8،000 ليرة، ثم 12 ألف ليرة، وفي دعم الاستيراد وفق سعر صرف يبلغ 1،507 ليرات، ثم 3،900 فـ8،000، ثم سعر الصرف عبر منصة صيرفة التي ابتكرها المركزي لمحاولة التدخل في السوق السوداء.
بالرغم من كل محاولات ضبط سوق الصرف استمر الانهيار، حتى وصلنا في الأمس القريب إلى مرحلة إقرار موازنة العام 2022
دخل لبنان بعد الانهيار في مفاوضات شاقة مع صندوق النقد الدولي لأجل الوصول إلى اتفاق يُتيح للصندوق مساعدة لبنان، وكما هو معلوم فإن للصندوق شروطاً أساسيةً يحاول فرضها على الدول لأجل التعاون معها، وفي المسألة اللبنانية فإن أحد أهم شروط الصندوق هو تحرير سعر صرف الليرة مقابل الدولار، والعمل على توحيد أسعار الصرف في السوق اللبنانية.
بالرغم من كل محاولات ضبط سوق الصرف استمر الانهيار، حتى وصلنا في الأمس القريب إلى مرحلة إقرار موازنة العام 2022، بعد تأخير دام لأشهر، تم بموجبها إعداد أرقام الواردات على أساس دولار 15 ألف ليرة، وكانت هذه الإشارة الأولى إلى نيّة الحكومة اللبنانية تغيير سعر الصرف الرسمي بعد 25 عاماً.
عصر جديد؟
بعد إقرار الموازنة العامة بأيام قليلة، أعلن وزير المالية اللبنانية، يوسف الخليل، في تصريحٍ لوكالة "رويترز"، أن "مصرف لبنان المركزي سيتبنّى سعر صرف رسمي قدره 15 ألف ليرة للدولار بدلاً من 1،507 ليرات"، لافتاً إلى أن "الخطوة ستدخل حيز التنفيذ بدءاً من نهاية تشرين الأول/ أكتوبر المقبل"، ليكون بذلك قد حدّد تاريخ انطلاق عصر جديد لليرة اللبنانية.
لكنه سرعان ما غيّر الصياغة ليربط اعتماد سعر الصرف الجديد بمسألة إقرار خطة التعافي الاقتصادي التي تعمل عليها الحكومة، ومن ثمّ انتشرت معلومات صحافية في لبنان في شأن تدخل مرجعيات سياسية كبرى لمنع حصول هذا الأمر في هذا التاريخ نظراً إلى تداعياته على الشارع اللبناني، متحدّثين عن ضرورة الترابط بين تغيير سعر الصرف الرسمي والاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
بالرغم من كل ذلك، وإن لم يكن الأمر رسمياً (علماً أنه لا يوجد أي شيء رسمي بخصوص ما يُسمى سعر الصرف الرسمي)، فإن مرحلة الـ1،500 ليرة للدولار ذهبت من غير رجعة، ونحن أمام مرحلة جديدة سيتجه سعر الصرف فيها إلى التعويم بشكل عام، وربما إلى تثبيته في حدود معينة في معاملات الدولة والضرائب والرسوم، مع استمراره متفلتاً من الضوابط في السوق السوداء.
ترى مرسل، أن "العصر الجديد المقبل لا يتعلق بسعر الصرف 15 ألف، بل بتعددية أسعار الصرف التي تخلق بلبلةً، وهناك أناس مستفيدون منها، فهذا التعدد يؤدي إلى تعزيز نسب التضخم وإلى تسجيل المزيد من الخسائر وضياع المودعين، وإثراء طبقة على حساب أخرى ويساعد المصارف على تنظيف ميزانياتها على سعر صرف 1،500 أو 8،000 أو 12،000"، عادّةً أن كل هذه التعددية تساعد على تنظيف ميزانية المصارف وخلق أثرياء جدد في لبنان.
وتضيف: "أما الحديث عن تغيير سعر الصرف إلى 15،000 ليرة، من الدولار الجمركي إلى الضرائب التي ستحسبها الدولة اللبنانية بالدولار وفق هذا السعر، فهم يقولون إن السعر لن يؤثر على نسبة كبيرة من المواد، ويقولون إن هناك 600 سلعة فقط تطالها الزيادات، لكننا نعلم أن أي أكلاف وأعباء إضافية دائماً ما تنعكس على المستهلك، خاصةً في ظل غياب أي نوع من أنواع الرقابة والمحاسبة للتجار".
العصر الجديد المقبل لا يتعلق بسعر الصرف 15 ألف، بل بتعددية أسعار الصرف التي ستؤدي إلى تعزيز نسب التضخم وتسجيل المزيد من الخسائر وضياع المودعين، وإثراء طبقة على حساب أخرى ومساعدة المصارف على تنظيف ميزانياتها
كذلك، ستكون لسعر الصرف الجديد انعكاسات على رؤوس أموال الشركات، وعلى كل الرسوم التي تحصّلها الدولة وتعتمد على الدولار في التخمين، والقروض الشخصية مع استثناء قروض السكن بحسب ما علم رصيف22، إذ سيتم استثناء القروض السكنية التي يسدد ثمنها المواطنون اليوم.
الآثار السلبية على المواطن لا تسري على الخزينة العامة، إذ إن رفع سعر الصرف الرسمي سيمدّ الخزينة بالأموال التي تحتاج إليها لتمويل موازنتها وزيادة رواتب القطاع العام ثلاثة أضعاف.
التغيير المؤجل
فور إعلان الخبر، توالت الاعتراضات عليه، كونه لا يأتي في سياق أي خطة اقتصادية واضحة، إذ أكد رئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان، أن إعلان وزير المال عن توحيد سعر الصرف في الموازنة غير صحيح. وقال عبر التويتر: "الموازنة لم تعتمد سعر صرف 15 ألف، بل الحكومة اعتمدت الدولار الجمركي على 15 ألف بعد ضياع استمر 6 أشهر. للأسف، تتابع الحكومة تخبطها المخجل وتلقي بعجزها على جيوب الناس، وهو ما حذرنا منه وواجهناه منذ اللحظة الأولى وسنكمل".
من جهته، رأى رئيس الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين في لبنان، كاسترو عبد الله، في تعليق على قرار وزارة المالية رفع سعر الدولار من 1،500 ليرة إلى 15،000 ليرة كسعر رسمي للدولار، أنه اتفاق من تحت الطاولة بين الطغمة السياسية الحاكمة وحيتان مصارف المال والكارتيلات وكبار التجار".
ورأى النائب ميشال ضاهر، أن "تغيير سعر الصرف الرسمي إلى 15،000 ليرة هو لدفع المصارف إما إلى زيادة رأسمالها أو إجبارها على إعادة الهيكلة، وهذا ما سيدفع المودع لتحويل أرصدته من الدولار إلى الليرة على السعر الجديد لشراء الدولار الكاش، مما سوف يؤدي إلى حسومات كبيرة على شيكات الليرة وارتفاع غير مسبوق في سعر الدولار".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...