هو على الركح نسر يفرد جناحيه ليؤدّي رقصته الشهيرة، فيبدو للناظرين طائراً حقيقياً لسرعة حركات قدميه، وهو في فن المزود نجمه الأول، إنه "الملك" كما يسميه بعض الفنانين المعاصرين من زملائه، وهو في تاريخ الموسيقى التونسية المعاصرة "المناضل" الذي أحب هذا اللون من الفن الشعبي حد التعصب، فطار كلاهما بالآخر رغم عشرات السنوات من المنع والاحتقار والتتفيه والتشويه والسخرية. إنه الفنان التونسي الكبير الهادي حبوبة (1949-) تجربة نصف قرن من الغناء والرقص شكّلت وجهاً من وجوه تونس المعاصرة ونصيباً مهماً من ثقافتها الحديثة المنتصرة للإنسان والفن والجمال.
من الكتّاب إلى أول أسطوانة
لا أحد كان يعلم أنّ ذلك الفتى الذي تربى في كتّاب جدّه لأمّه في حي "باب سويقة" في العاصمة تونس سيكون له المجد الكبير في لون موسيقيّ مستهجن إلى أيامنا، وإن اختلفت درجة الاستهجان وخفتت نبرة السخرية منه بعد النجاح الساحق الذي حققه هذا الجنس الموسيقي المتميز، بعد أن اكتسح الذائقة الفنية التونسية المعاصرة، وداس نظرة الاحتقار، وفرض نفسه نمطاً موسيقياً متميّزاً له في القلوب والعقول مكانة كبرى.
عشق صاحبنا الإيقاعَ منذ الصغر، وكثيراً ما كان يلعب بعض الإيقاعات على صدره دون وعي منه. كانت الحياة تريده تلميذاً متميّزاً، غير أنه خيّر ركوبَ موجة أخرى أقرب من صميمها، هي حياة الفن والموسيقى برغم صعوبة المهمة ومشقتها في مجتمع تحرَّر لتوِّه من نير الاستعمار، وأخذ يشق طريقَ الحداثة في التعليم والمجتمع والصحة وغيرها من المجالات، فارضاً جملة من التوجهات الصارمة في هذه الحقول المختلفة، وخاصة في الثقافة.
أما ذلك الطّفل فقد اشترى بأول هدية عيد "دربوكة"، وراح يوقّع عليها فرحَه وحزنه. وكثيراً ما استرق النظر إلى فرقة "الرشيدية" القريبة من المدرسة، وكثيراً ما ردّد مع عناصرها الموشحاتِ وأغاني المالوف، لتتربى بداخله أذنٌ موسيقية مشبعة بالإيقاعات صُقلت أكثر بانضمامه إلى فرقة الراقصتين الأشهر في تونس زينة وعزيزة. كان ضابط إيقاع ويؤدي بعض الأغاني التراثية وراءهما وهو جالس يرافقهما في حفلاتهما، وفي الأثناء تُحفر الإيقاعات في ذاكرته وتُطبع الألحان وتُصقل موهبته الموسيقية.
تجربة نصف قرن من الغناء والرقص شكّلت وجهاً من وجوه تونس المعاصرة ونصيباً مهماً من ثقافتها الحديثة المنتصرة للإنسان والفن والجمال... الفنان التونسي الهادي حبوبة
في تلك الفترة كان فن المزود معروفاً في المدينة ببعض العازفين على هذه الآلة الذين يمثلون الجيل السابق لحبوبة، وأبرزهم الفنان الخطوي بوعكاز، الذي كان ذا حظوة عند السلطة السياسية الحاكمة، والمعروف بأغنيته الأشهر في مدح الزعيم بورقيبة "يا سيد الأسياد"، إضافة إلى الشاذلي المدلل، وعبد الحميد المطماطي، وحمزة الترلياتي، وعزيز الترلياتي، الذين أخذ عنهم حبوبة مشعلَ فنِّ المزود، وارتقى به إلى سماوات أخرى ومناخات مختلفة.
فلئن استفاد منهم فإنه سرعان ما تجاوزهم فحوّل القطع الموسيقية إلى وثائق سمعية لمّا سجل في باريس أولَ أسطوانة له عام 1967، فحققت نسبةَ مبيعات هائلة تفاجأ بها، وتفاجأ أكثر بما وجده من تفاعلٍ إيجابي عالمي مع موسيقى محلية تونسية، بسبب إيقاعاتها الغنية وألحانها المميزة وطابعها المحلّي القادر على جلب اهتمام الآخر.
المزود والأنتليجنسيا
كان فن المزود محتقراً يشار إلى أصحابه باصبع السخرية، كأن ممارسَه يأتي منكراً أو يقترف فضيحة، ذلك أن المجتمع ربطه بثالوث الخمرة والمخدرات والسجن، لأنه في عُرفِ هذا المجتمع ينتمي إلى الصعاليك من الطبقات الاجتماعية المسحوقة في الأحياء الشعبية وما فيها من عالم الليل، حيث الجلسات الخمرية الماجنة المتمردة على النظام الأخلاقي والساخرة من كبرياء النظرة الأرستقراطية إلى الحياة.
ما زالت هذه النّظرة إلى فن المزود مسيطرة إلى اليوم على كثير من الباحثين في الموسيقى، خصوصاً بعض أولئك الذين تخرجوا من الجامعة في اختصاص الموسيقى أي "الأنتليجنسيا الفنية" إن صحت التسمية، التي تحتقر هذا النمط الموسيقي وتتبرأ منه، وتعتبره لوناً منحطاً وعلامةً على تدني الذوق الموسيقي، لأنه خرج أساساً من الهامش. ففي حين يُعلون من شأن الموسيقات "الراقية" من مالوف وفن سمفوني وموسيقى طربية، فإنهم يُتفّهون الألوان الموسيقية الشعبية ومنها المزود خاصة، ويعتبرونها سبّة، فإذا أرادوا إهانة أحد الفنانين قالوا عنه إنه "مزاودي" بكل بساطة، لتتحول العبارة إلى سُبّة تحقيرية لاذعة. فمثلاً نشر الدكتور محمد القرفي، الموسيقار التونسي المعروف، سلسلةً من المقالات مؤخراً في جريدة الصباح التونسية، عن فن المزود حاول فيها تتبع تاريخ ظهور هذه الآلة، وتابع انتشارها من 3000 سنة وصولاً إلى دخولها شمال إفريقيا. وربطها في تونس بالأحياء الفقيرة واقترانها بالسّوقة والمنحرفين والصعاليك.
إذ يقول: "اقترن المزود إذن بالسوقة المتهتكين الذين يعيشون على هامش المجتمع التقليدي نمطَ حياة متحرراً من القيود يستبيحون المحظور ولا يأبهون بالمحرّم. هؤلاء هم من كنا نسميهم الزّوافرية (ج زوفري) أي سيّئو السلوك من ساكني الحارات الشعبية والأرباض الفقيرة، وإن كانت العبارة تعني في الأصل العامل بالساعد (خدّام حزام) الذي لا اختصاص له". وينتهي كاشفاً موقفه من هذا الفن: "وفي مثل هذه الحالات لا يمكن أن يصدر من هؤلاء إبداع يشد الانتباه سوى تراكيب لحنية سخيفة وإيقاعات متكررة يمجدها الأجانب والسائحون الأغبياء الباحثون عن الغرابة الغبية".
ويتضح لنا من خلال ما قال الدكتور القرفي أن رداءة هذا الفن وخلوه من الإبداع تفسيره أخلاقوي وديني، والحقيقة أن هذا التفسير مثير للاستغراب، خصوصاً أنه نابع من أكاديمي وباحث في الموسيقى بالأساس، فلو كانت الفنون تُقاس بالأوساط التي نشأت فيها لأعدمْنا مثلاً فنوناً عديدة منها خمريات أبي نواس وبشار بن برد المتأثرة بحانات بغداد العباسية التي تتغنى بالخمر والمثلية وغيرها من المواضيع التي ترفضها منظومة الأخلاق وتحرمها المنظومة الدينية، ولمُنعت موسيقى "الريقي" وموسيقى "الراب" لارتباطها بالأوساط الشعبية واقترانها أيضاً بالمخدرات وغير ذلك كثير. ولو كان تقييمُ فنٍّ ما تقييماً أخلاقياً أو دينياً لحرّمنا كلَّ الفنون بما أن الفقه الإسلامي في عمومه يحرم الفن غناءً ورسماً ورقصاً، بما في ذلك الموشحات والسمفونيات والفنون "الراقية" التي ينتصر إليها القرفي، بل إن كثيراً من الفقهاء كرهوا ترتيل عبد الباسط عبد الصمد ومحمد صديق المنشاوي ومحمود الطبلاوي وكثير من أمثالهم لأنهم "يتغنون" بالقرآن.
وقد استشهدت برأي الدكتور القرفي لأنه يلخص نظرة الأنتليجنسيا التونسية إلى فن المزود، وهي عنصر من أبرز العناصر التي مثلت سلطة فنية وضعت اليد في اليد مع السلطة السياسية حتى مطلع تسعينات القرن العشرين، فمارست كلاهما ضرباً من الوصاية المتعالية، مسطّرة ما يجب أن تكونه الثقافة التونسية بعد الاستقلال، فمنعت المزود من التداول في الفضاءات العامة وفي التلفزيون والإذاعة الرسميين، لأسباب شتى، منها مثلاً الادعاء بأن المزود يفسد الذوق العام، ويتنافى مع هيبة الثقافة الرسمية، ويشجع على الانحلال الأخلاقي والانحطاط الموسيقي، وفي الوقت نفسه دعمت ألواناً موسيقية أخرى، على رأسها المالوف، الذي فُتحت له أبوابُ الإذاعة والتلفزة على مصراعيها منذ تأسيس الإذاعة والتلفزة التونسيتين.
الفن وحده...
ما يهمنا من كل فن هو الفن ذاته، لا ما يحف به، وكل تقييم للفن خارج المقاييس الفنية هو ضرب من التجني عليه وتحميله ما ليس منه في شيء. ولكن برغم هذه النظرة الدونية المحتقرة لهذا اللون، فإنّ كثيراً من الأسماء قد تمسكوا بهذا اللون، منهم الفنان الهادي حبوبة، إذ حاول منذ بداياته القطع مع "التخت" التقليدي للمزود، فكان من أوائل من دعموه بآلة "الدربوكة"، وحوّل الجلسة من الجلوس أرضاً إلى الجلوس على كراسٍ، وانتقى زياً ملائماً له ما زال يرتديه إلى اليوم، هو الملابس الفضفاضة، كالقميص الواسع الكمين ذي الياقة المزخرفة، وذلك للنأي بالمزود عن زيّ "الدنغري" (زيّ العمال الأزرق) المرتبط أيضاً بالصورة التي أشار إليها الدكتور القرفي آنفاً، وذلك ليبتعد بالمزود عن جملة التهم الموجهة له، ويقدمه في شكل "محترم" كلماتٍ ولحناً وأداءً، مع أن كل الأزياء تظل محترمة، فلا شيء يجعل بدلة رسمية وربطة عنق "أرقى" من زيّ "الدنغري"، ولا منطق للمفاضلة بينهما.
لا أحد كان يعلم أنّ ذلك الفتى الذي تربى في كتّاب جدّه لأمه في العاصمة تونس سيكون له المجد الكبير في لون موسيقيّ مستهجن إلى أيامنا، وإن اختلفت درجة الاستهجان وخفتت نبرة السخرية منه بعد النجاح الساحق الذي حققه هذا الجنس الموسيقي المتميز
ولئن اعتمد حبوبة في بداياته على بعض الأغاني المعروفة سابقاً، فإنه أخذ في تطوير تجربته باكراً، خصوصاً لما لاحظ الإقبال الكبير على الإيقاعات التونسية بعد طبع إسطوانته الأولى، فتعامل مع أمهر العازفين وضابطي الإيقاع في المجال، فكلما سمع أن هناك عازفاً ماهراً جديداً دعم به فرقته.
يقول كثير من الفنانين، ومنهم الهادي دنيا وسمير الوصيف، إن حبوبة هو أول من حول هذا اللون الموسيقي إلى لون محترم، بفرض أزياء موحدة على الفرقة واعتماد مضخمات الصوت، وفرض الانضباط، وطار بالمزود من لامبالاة الهواية إلى انضباط الاحتراف. وفي الوقت الذي سمحت له الفرصة بالتعامل مع شركة إنتاج عالمية في فرنسا، سارع برفض العرض مباشرة لمّا علم أنهم يريدونه أن يتخلى عن آلة المزود، ويحافظ على باقي فرقته مع تدعيمها بآلات غربية، تلك الشركة هي التي تبنت الفنان الكبير، مغني الراي العالمي، الشاب خالد في ما بعد، وصعدت به إلى العالمية.
المزود ممنوع!
كثيراً ما ينفي حبوبة أنه كان معارضاً سياسياً، ولم تكن له خلافات مع السلطة، كما يؤكد ذلك دائماً حين يُسأل عن سبب منعه من الإعلام في الفترة البورقيبية. ومن الطُّرف الغريبة أنه التقى في إحدى حفلاته الخاصة بمدير الإذاعة نفسه بين الحضور، بل إنه يذهب بعيداً في اجتهاداته لرفع الحظر عن فنه المفضل، بتعامله مع أشهر الفنانين والملحنين من عالم الوتريات، وعلى رأسهم صالح المهدي نفسه، الذي كان في الوقت نفسه يمنع بثَّ أغاني المزود في الإذاعة، وهو الرئيس الثالث لفرقة الرشيدية من 1965 إلى 1971. والرشيدية هي الفرقة التي تأسست لإنقاذ الألوان الفنية التونسية من الاندثار، أي إن نزعتها منذ تأسيسها قومية هووية، لذلك اهتمت بـالمالوف، كتابةً وتلحيناً وتدويناً. ولمّا كان أغلب رؤسائها حينها منضوين تحت لواء السلطة الحاكمة، فإنهم لم يشذوا عن الرؤية السائدة للمزود باعتباره فناً هابطاً يتنافى مع الرؤية القومية، وربما اعتبروه لوناً دخيلاً، وبالتالي كان لا بد من التضييق عليه، وفسْح المجال لألوان فنية أخرى منها المالوف والزكرة والوتريات والسمفونيات.
وقد تدعمت هذه النظرة خصوصاً بعد الاستقلال وتأسيس وزارة الثقافة على يد الراحل الشاذلي القليبي في حكومة الباهي الأدغم في 1961، وتأسيس الأوركسترا السمفوني التونسي عام 1969، والذي أداره صالح المهدي، وصولاً إلى تأسيس المعهد العالي للموسيقى مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، وغيرها من الهيئات والمؤسسات الحكومية التي كانت تنفذ نظرةَ دولة الاستقلال للثقافة عامة، وتوجهاتها واختياراتها الفنية التي تتفق جميعاً في اعتبار المزود فناً هابطاً. وقد ثبت عن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة مثلاً انتصارُه لفنون أخرى مثل الأدب والمسرح.
كان ذلك في المستوى الرسمي الذي يَسِمُهُ التعالي والنظرة الدونية لهذا النمط، أما في "الظلّ" فقد اكتشفنا أن المزود كان حاضراً في بعض السهرات التي انتظمت في مسرح القصر الرئاسي بقرطاج، إذ كشف تسجيلٌ أفرجت عنه مؤسسة التلفزة التونسية وبثته لأول مرة في 14 شباط/فبراير 2015 أن سهرة متنوعة الفقرات في مسرح القصر حضرها الزعيم الحبيب بورقيبة وزوجته وسيلة بن عمار، قد تضمنت فقرةً خُصصت لرقصة الزوفري التي أداها الراقص التونسي الشهير حمادي اللغبابي على أنغام المزود، وبمرافقة طبلة ودربوكة، وكان ذلك عام 1974.
وبالتالي يسهل أن نستنتج أن هناك مستوييْن في التعامل مع هذا النمط الموسيقي: مستوى رسمي يحتقره ويحظره في الفضاءات العامة وفي الإعلام، وقد ظلّ كذلك فعلاً إلى لحظة الانقلاب على بورقيبة في 1987 من قبل زين العابدين بن علي، ومستوى ثان، غير معلن يسمح لهذا اللون بالتداول في الحفلات الخاصة والمناسبات وغيرها.
كان فن المزود محتقراً يشار إلى أصحابه باصبع السخرية، كأن ممارسَه يأتي منكراً أو يقترف فضيحة، ذلك أن المجتمع ربطه بثالوث الخمرة والمخدرات والسجن، لأنه في عُرف هذا المجتمع ينتمي إلى الصعاليك من الطبقات الاجتماعية المسحوقة
ومن الأسباب التي يتعلل بها أصحابها لتفسير حظر المزود الأسباب الدينية والأخلاقية. وهي في نظري حجج تافهة ومردودة. إذ ينسب بعض "الباحثين" المزود ازدراءً إلى اليهود وحبهم لهذه الآلة، ويعتقدون أن ذلك كان عامل منعٍ، والحال أن ألواناً موسيقية أخرى برع فيها اليهود وتميزوا في أدائها وغنائها كانت تجد الاحتفاء وتبثها الإذاعة والتلفزة دون قيد أو منع، إذ لمع نجم راؤول جورنو، صاحب أغنية "الزفة" الأكثر انتشاراً في تونس "لا إله إلا الله، والفرح واتانا (لاءمنا)"، وجورنو هو يهودي تونسي. ومنهم أيضاً حبيبة مسيكة والشيخ العفريت وغيرهم كثير. وبالتالي فلا علاقة للدين بمنع المزود، ولو كان ذلك صحيحاً لمنع هؤلاء أيضاً من التداول، مهما كانت ألوانهم الموسيقية.
وأما الاعتبار الأخلاقي، فهو في الحقيقة اعتبار أخلاقوي زائف أيضاً، لأن "التهمة" نفسها يمكن أيضاً أن توجه إلى "الزكرة" التي لا تختلف أجواؤها عن المزود في شيء، وكثيراً ما تتضمن كلمات أغانيها وألحانها إيحاءات جنسية وتغنياً بالخمرة، ولو كان الاعتبار الأخلاقوي حقيقياً لمنعت من التداول أيضاً، ولضربت عليها الثقافة الرسمية الحظر، ولكنها كانت تبث يومياً في برنامج "قافلة تسير" المعروف على موجات الإذاعة التونسية الرسمية.
التحدّي
غير عابئ بهذا الحظر الذي لا نجد له أسباباً واضحة سوى التهويمات غير الدقيقة، والذي يعكس النظرة المتعالية القائمة على المفاضلة السخيفة بين الفنون، كان الهادي حبوبة منكباً على نمطه الموسيقي، يطوره باختيار أفضل الأشعار وأقربها إلى مهجة التونسيين، إذ تعامل مع كبار شعراء الأغنية التونسية مثل عبد المجيد بن جدو -الذي كتب لعبد الحليم حافظ- والهادي الجويني، ويوسف التميمي، كما تعامل مع علي سعيدان، الشاعر وخبير التراث المتميز، ورضا الخويني، والحبيب المحنوش، وغيرهم كُثر.
أما الألحان فقد استعان أيضاً بأشهر الملحنين والفنانين مثل صالح المهدي كما ذكرنا، وهو الملقب بزرياب تونس، ومحمد التريكي وعبد الحميد بن علجية والفنان الهادي الجويني، والفنان الهادي قلة، وعدنان الشواشي، وجميعهم صنع مجد الأغنية الوترية التونسية في القرن العشرين.
يبدو حبوبة حريصاً على "تطهير" المزود مما ألصق به من تهم زائفة، باختياراته الفنية لحناً وكلمة
يبدو حبوبة حريصاً على "تطهير" المزود مما أُلصق به من تهم زائفة، باختياراته الفنية لحناً وكلمة، وما قبول هذه الأسماء الكبيرة الوازنة حينها التعامل مع هذا "المزاودي" إلاّ دليلاً قاطعاً على ازدواجية الثقافة العالمة التي تحملها الأنتليجنسيا الفنية التونسية وتمزقها بين صورتين: صورة رسمية ظاهرة توحي بالصرامة والتعالي والرفعة والرقي تترجمها إلى احتقار لهذا النمط الفني الشعبي، وصورة مخفية تقبله بل تُقبل عليه في الحفلات الخاصة وتتعامل معه في مستوى التلحين وكلمات الأغاني، بل إن حبوبة في أحد لقاءاته يذهب أبعد من هذا، ويؤكد أن فن المزود كان محبوباً لدى الوزراء ورجال الدولة وكبار المسؤولين في حفلاتهم الخاصة، التي تكون في بدايتها مفتوحةً للضيوف، ولكن حالما يغادرون تستمر الحفلة حتى مطلع الفجر خاصة بالعائلة الضيقة.
على الهواء أخيراً
بعد صمود أكثر من عشرين عاماً قاوم خلالها كلَّ ذلك التجاهل، طلع الهادي حبوبة لأول مرة على شاشة التلفزة الوطنية "أ ت ت" (الإذاعة والتلفزة التونسية) عام 1988، ليواجه تهمةً جاهزة كانت تسوّقها الأنتليجنسيا التونسية خلال كل تلك الفترة، وفحواها أنّه بأغانيه "قد أفسد الذوق العام"، فكان ردُّه مفحماً بأنه لم يتعامل إلا مع أساطين الموسيقى التونسية وشعراء الأغنية الأشهر الذين يكتبون للفنانين الذين ينالون رضا الأنتليجنسيا نفسها.
فُك الحصار عن فن المزود بسبب موجة الانفتاح التي انتهجها الرئيس الراحل زبن العابدين بن علي إثر انقلابه على بورقيبة في السابع من شباط/نوفمبر 1987، إذ كانت وعوده خلال سنواته الأولى مطمئنة سياسياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً، كما أعلن ذلك في بيان الانقلاب المعروف بـ"بيان السابع من نوفمبر"؛ إذ سمح حتى للفرق الملتزمة بتنظيم مهرجانات ضخمة فيها فنانون ملتزمون من تونس والعالم العربي يتغنون بأغانٍ سياسية تنتقد السلطة، وسمح بتداول بعضِ الفنون والأنشطة التي كانت محظورة، وفتح الأبواب للإبداع في مختلف الفنون في سنواته القليلة الأولى، قبل أن يتراجع عن ذلك سريعاً مطلع التسعينيات، ويواجه الجميع بقبضةٍ حديدية انتهت بالثورة عليه في 2010.
وكان نمط المزود واحداً من الفنون التي استفادت من هذا الانفتاح، وتُوّج ذلك بتنظيم عرض "النوبة" التاريخي على ركح مسرح قرطاج الأثري في 1991، وهو عرض للمخرج الفاضل الجزيري الذي فكر في تقديم عصارة الفنون التونسية على مدى قرن من الزمان تقريباً، بالتركيز على "المزود" و"الزكرة" تحديداً، دون أن يغفل تطعيم الفرقة التي قدمت العرض حينها بلوحات راقصة وبآلات غربية. وقد أشرف على الحفل موسيقياً الملحنُ سمير العقربي.
النجم
وفي عرض "النوبة" كان الحضور الأبرز لاسمين مثّل كلٌّ منهما أسطورة في مجاله: الفنان الكبير إسماعيل الحطاب في "الزكرة"، والهادي حبوبة في "المزود". فكان حضورهما طاغياً على الحفل رغم أهمية بقية الأسماء المشاركة مثل فاطمة بوساحة، ولطفي بوشناق، وليليا الدهماني، وصالح الفرزيط، وصلاح مصباح.
الهادي حبوبة هو أسطورة المزود الحية، تلخص مسيرته تاريخَ نمط موسيقي مهم نُقش في وجدان التونسيين عبر عن أحزانهم وأفراحهم، فجاءت ألحانه وكلماته نابعةً بما يعتمل في ضميرهم الحديث من مشاعر، يترجم حبهم العجيب للإيقاع والحركة، ويبوح بعشقهم للحياة
ليلتها غنى حبوبة أربع أغاني منفرداً هي: "طيح لتالي"، و"بابا عبد الله"، و"اكدلاّلي"، و"بجاه الله يا حب اسمعني". كما غنى أغنية "عبد القادر" بالاشتراك مع أحمد بادوس وصالح الفرزيط، فأبدع خصوصاً أنّ التخت المرافق يتناسب مع توجهه في الموسيقى، إذ يركز كثيراً على الإيقاع، ودوماً ما يدعم الآلات الإيقاعية بعشرات العازفين قد يصل عددهم إلى خمسين أو أكثر أحياناً.
ولكن الأهم ليلتها هو حضوره على الركح بشخصيته الفنية الحركية. ذلك أنه ليس من الفنانين الذين يكتفون بالوقوف خلف الميكروفون بين الكوبليهات، بل يملؤها بلوحاتٍ راقصة خاصة به. ولم تكن تلك الرقصة وليدةَ ذلك العرض، بل إنها تربت على مدى أكثر من عشرين عاماً، وتطورت حتى صارت علامةً مميزة له، يؤديها برشاقة نادرة، موظفاً حركة رأسه يمنة ويسرة، ماداً يديه كجناحي نسر، وبخصر ثابت وقدمين تتحركان بسرعة على الركح نادرة، ليصنع منها لوحةً تعتمد جُملاً راقصة قصيرة خاطفة، ولكنها تعكس إبداعاً كبيراً وحنكة وخبرة وذوقاً عالياً.
"الرقّاص"!
ولا بد من التعريج على رقصة حبوبة لأنها كانت أيضاً عاملاً من عوامل استهجانه وازدراء ما يقوم به؛ فبقدر ما كانت رقصتُه علامةً مميزة له، فإنها كانت محلَّ سخريةِ الأنتليجنسيا الفنية والمجتمع، وكثيراً ما كنا نسمع تلقيبه بـ"الرقاص" احتقاراً، ذلك أن الرجال والرقص لا يجتمعان في أذهان كثير من التونسيين، على الرغم من أن الواقع يثبت عكس ذلك تماماً، لأن المجتمع التونسي، رجالاً ونساءً، هو مجتمع راقص مُقبل على الحياة في عمومه، ويظهر هذا خلال الممارسة في الحفلات اليومية، وهذه خصيصة ازدواجيةِ الموقف التي أشرنا إليها سابقاً. ولكن هذه المواقف المحتقرة والمشككة لم تزد حبوبة سوى ثبات وانكباب على عروضه وأغانيه ورقصاته يطورها ويدعمها.
ما قدمه حبوبة إلى حدود عرض النوبة كان مهماً جداً، خصوصاً أن أجواء أغانيه كانت تدور في فلك الأجواء التي تقدمها الأغاني الوترية، والسبب أنه تعامل مع الأسماء نفسها كلماتٍ ولحناً كما أسلفنا. وربما يلخص توجهه أغنية "ناري على الزينة ما جاتش اليوم"، التي كانت كلماتها تقليديةً محببةً للنفس لا تختلف في شيء تقريباً عن عالم الأغاني التونسية حينها. وهو الخط نفسه الذي دعمه في أغاني أخرى في ما بعد مع "تيشري جمل علي ولدي"، و"الزمياطي"، و"خلوهولي"، "وكيف جيتك نجري يا اما"، و"روح من السوق عمار"، وغيرها.
كان ما قدمه إلى ذلك الحين مهماً، غير أن حضوره في عرض النوبة مثّل انطلاقةً أخرى، إذ ساهم في انتشاره أكثر، خاصة مع انتشار أجهزة التلفزيون أكثر وأكثر في كلّ نواحي البلاد، وصار الشباب يقلدون رقصته في الأعراس والحفلات الخاصة في شتى بقاع تونس. وأصبح حبوبة نجم تونس الأول في الفن الشعبي.
ولع حبوبة بالإيقاع وجد له متنفساً في حفل افتتاح ألعاب البحر الأبيض المتوسط بملعب رادس عام 2001. أخرج العرض المسرحي الكبير محمد إدريس، واستعان بحبوبة، طالباً منه فقرةً تقوم فقط على آلات الإيقاع، فكان أن استعان بقرابة 160 عازفاً أمنوا الفقرة مؤدّين مختلف الإيقاعات التونسية التي يؤكد حبوبة في كل مرة ثراءها وتنوعها، إذ يذكر في أحد لقاءاته أنها تُعدّ بالعشرات. وقد رأينا بعضها في محطة مهمة في مسيرته الفنية هي حفل قرطاج 2004 الذي نقلته قناة "روتانا" حينها مباشرة، إذ استعان بعشرات عازفي الإيقاع معتمداً الآلات التونسية الثلاث (الدربوكة والبندير والطبل). وقد ظل ذلك الحفل علامةً مميزة في مسيرته الفنية لما حظي به من نجاح أمام مسرح ممتلئ بالجماهير. أدى حبوبة كعادته عدداً من أغانيه وقدم لوحات راقصة متنوعة.
يحظى حبوبة بتقدير كبير من الفنانين الذي جاؤوا بعده إلى مجال المزود، لأنه قدم لهم يدَ المساعدة، ومنهم سمير الوصيف، الذي أقرّ بأن حبوبة مدّ له يد المساعدة في أواسط التسعينيات كي يلمع نجمه أيضاً. وربما يعود هذا الاحترام إلى طبيعة شخصية حبوبة الودود، إذ يحترم كلَّ الأجيال التي جاءت بعده، ولم نسمع أنه أبدى موقفاً نرجسياً يوماً يدعي فيه أنه السابق واللاحق، ولا أنه أسطورة الأساطير الذي لم تأت به إنس ولا جان، كما يفعل عادةً من يكونون بمثل تجربته. بل إنه ذهب أبعد من ذلك، إذ قدّم بعضَ الحفلات المشتركة مع سمير الوصيف، وقدم أكثر من ديو منها "عندي غزالي" مع ألفة بن رمضان، و"الليلة زينة" مع مغني الراب سواغ مان.
ختاماً
الهادي حبوبة هو أسطورة المزود الحية، تلخِّص مسيرتُه تاريخَ نمطٍ موسيقيّ مهم نُقش في وجدان التونسيين، وعبّر عن أحزانهم وأفراحهم، فجاءت ألحانه وكلماته نابعة بما يعتمل في ضميرهم الحديث من مشاعر، يترجم حبهم العجيب للإيقاع والحركة، ويبوح بعشقهم للحياة. هو فن المزود الّذي بينت رحلتُه من المنع إلى الإباحة نظرةَ الأنتليجنسيا السياسية والفنية إلى الثقافة التونسية المعاصرة التي شاؤوا لها أن تسير وفق نظرةٍ متعالية، فتمرد عليهم وعلى نظرتهم الفوقية، وبات واحداً من أكثر الألوان الموسيقية انتشاراً وقرباً من قلوب التونسيين. ويبقى الهادي حبوبة الجناح الذي طار بفن المزود، فإذا به يطير به أيضاً، ويبادله وفاءً بوفاء، ما زال يتعزز إلى أيامنا لحظة بعد لحظة.
أُعدّ هذا البورتريه بالاتفاق مع موقع "معازف" وكان من المقرر أن يُنشر فيه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...