أن نرسل التبريكات عبر الإذاعة فهو أمر عادي، وأن نتلذذ بسماع أغنيتنا المفضلة على الراديو خلال السهرة أو أثناء القيام بأعمال المنزل فهذا أيضاً طبيعي، لكن أن نجعل من أثير الإذاعات وسيلة ننصح بها أقاربنا في الشتات بضرورة غلي الجنبة البيضاء قبل أكلها، فهذا أمر يتجاوز الطبيعي.
هذا المثال وأكثر، لقصص موجودة في إسطوانات الإذاعة الأردنية أرشفت صوت الشتات الفلسطيني لسنوات طويلة، ووثقت رسائل المحبين والمغتربين والمشتاقين وحتى الثائرين، عندما كانت الإذاعة الوسيلة شبه الوحيدة لاستقبال وإرسال الرسائل بين من هم داخل فلسطين ومن هم خارجها.
نصيحة غلي الجبنة و"نقعها" قبل أكلها هي قصة حقيقية، بل وتعتبر أقل من عادية في برنامج رسائل شوق الذي ظلّ يبث يومياً على إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية بصوت كوثر النشاشيبي (1930- 2004) منذ بداية السبعينيات حتى توقفه مع توقيع معاهدة السلام بين الأردن وفلسطين.
أخبار الشعب يسمعها كل الشعب
ظلّ البرنامج لسنوات طويلة طريقة التواصل الوحيدة بين فلسطينيي الأردن وأقاربهم في الأراضي المحتلة، ربما لن تتكرر هذه التجربة الفريدة في التاريخ، أن تكون يوميات شعب كامل مبثوثة على الهواء ومحدّثة بشكل دوري ومسموعة من الجميع، بما في ذلك تفاصيل مواسم الزيتون والحصاد والمواليد والوفيات والدراسة والسفر والعمل والمرض.
برنامج رسائل شوق ظلّ يبث يومياً على إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية بصوت كوثر النشاشيبي (1930- 2004) منذ بداية السبعينيات حتى توقفه مع توقيع معاهدة السلام بين الأردن وفلسطين
البرنامج اقتصر على قراءة النشاشيبي للرسائل من فلسطين إلى الأردن وبالعكس، كانت عفوية الأخبار المنقولة وعاديتها هما السحر الأساسي، وتجاوب النشاشيبي وحياديتها بغض النظر عن محتوى الرسائل جعلا الشعب "ياخذ وجه" ويرسل أي خبر لطمأنة الغائبين، أخبار من نوع:
"نخبركم بأن خديجة أنجبت طفلة أسمتها آية"
"نخبركم أننا لن نستطيع أن نكون معكم هذا الموسم، الرجاء التصرف بزيتوننا".
"احنا بعتنالكم تنكة الجبنة ما تاكلوهاش طوالي انقعوها وحطوها بالفريز".
كان البرنامج يستهل حلقته بأغنية السيدة فيروز: "جايبلي سلام عصفور الجناين"، وهي نفس الافتتاحية التي استهلت بها الستينية صباح حسن حديثها مع رصيف22 عن ذكرياتها، وبعد أن انتهت من دندنتها سألت وأجابت نفسها: "بتعرفي امبارح شو كنت أعمل؟ كنت قاعدة على البرندة وقت المغرب وطولت وأنا سرحانة، وتذكرت لما فاجأتني بنت أختي وأنا في العشرينات بمعايدة بمناسبة عيد الأم على البرنامج، تذكرت اللحظة وبكيت كتير، ولما صحيت ثاني يوم كانت عيني الشمال بتوجعني من كتر البكا".
من رسائل البرنامج... "احنا بعتنالكم تنكة الجبنة ما تاكلوهاش طوالي انقعوها وحطوها بالفريز"
تعود صباح بذكرياتها إلى ما أسمته الزمن الجميل، حيث اعتبرت أن سؤالنا لها هو "طبطبة" على حسرتها، تقول إن ساعة بث البرنامج كانت أشبه بدقات ساعة "بيغ بينغ" في لندن، فقد كان كل فلسطينيي الأردن تقريباً يحرصون على ضبط ساعاتهم مع موعد بثه، لعلهم يستقبلون من أهاليهم في الأرض المحتلة رسالة طمأنة، لكن هناك رسالة محددة لا تزال محفورة في ذاكرتها عن فتاة نزحت مع عائلتها من فلسطين إلى عمّان، وهي لا تزال مخطوبة من شاب بقي مع عائلته في فلسطين، وبسبب الظروف لم يتمكن الشاب والفتاة من إتمام الزواج، تقول: "بعد فترة من النزوح أرسل والد الفتاة عبر البرنامج رسالة إلى عائلة الخطيب في فلسطين يخبرهم فيها أنه سيرسل ابنته بعد يومين من عمر بث الرسالة إلى جسر الملك حسين وهي مرتدية فستانها الأبيض إلى الجانب الآخر من الجسر لتستقبلها عائلة خطيبها وتذهب معهم إلى عرسها".
تقول صباح: "كل شي كان ينحكى في برنامج رسائل شوق، تعلمت طبخ المجدرة ببرغل منه، لما سمعت رسالة من ست بتشرح لبنتها اللي عايشة بعمان والمتزوجة من أردني كيف تطبخها على الطريقة الشامية".
ظلّ البرنامج لسنوات طويلة طريقة التواصل الوحيدة بين فلسطينيي الأردن وأقاربهم في الأراضي المحتلة، ربما لن تتكرر هذه التجربة الفريدة في التاريخ، أن تكون يوميات شعب كامل مبثوثة على الهواء ومسموعة من الجميع
وتختم: "اللي مش قادر يهدي وردة كان بهدي رسالة أو أغنية على الراديو، كانت المباركات على الزواج والنجاح والولادة تتجاوز الاحتلال والحدود".
دور الإذاعات في حركات التحرر الوطني
وفق حديث مع السبعينية إحسان البرماوي كان الأسرى الفلسطينيون يبعثون عبر أقاربهم في فلسطين رسائل مشفرة للمقاومة الفلسطينية في الخارج، تقول: "وأخي كان واحداً منهم".
تفضل إحسان ألا تخوض في تفاصيل تلك الرسائل، حماية لأخيها لكنها تبين أن كثيراً من الرسائل المشفرة عبرت عبر أثير رسائل شوق، وساعدت في التبليغ عن حركة المقاومة الأسيرة ودورها في الامتداد النضالي لمقاومة الفصائل الفلسطينية.
تتراجع قليلاً عن تحفظها وتسرد مثالاً عما قصدته بالرسائل المشفرة عندما أرسل أحد الأسرى رسالة إلى أقاربه في عمّان يقول فيها إنه يقوم خلال الأسر بعمل أشغال يدوية لأطفال العائلة، وأنه سيوصل واحدة منها لأقاربه في عمّان على شكل سوار من الخرز، السوار كان ترميزاً لرسالة موجهة لأشخاص بعينهم، رفضت البرماوي تفسيرها حتى بعد كل هذه السنوات.
أما كمال أبو سنينة السبعيني فيذكّر بالدور الذي اضطلعت به الإذاعات العربية في توجيه الرأي العام سياسياً وثقافياً وفنياً، ومساهمتها في تأجيج التعاطف مع حركات التحرر الوطني العربية، كالجزائر وتونس، فقد كانت إذاعة صوت العرب توجه رسائل للجماهير العربية جميعها وليس لشعب بعينه بالثورة على الاستعمار.
وفق حديث السبعينية إحسان البرماوي كان الأسرى الفلسطينيون يبعثون عبر أقاربهم في فلسطين رسائل مشفرة للمقاومة الفلسطينية في الخارج من خلال البرنامج
يقول: "كان الجمهور العربي يعرف الأخبار من الإذاعة، بتذكر إذاعة عمّان كانت تبدا بتلاوة للقرآن، ومن ثم درس دين للشيخ إبراهيم زيد الكيلاني الله يرحمه، وبعدين برنامج مع المزارع اللي كان يقدمه مازن القبج الله يرحمه، وبعدين برنامج مضافة أبو محمود".
ما يطلبه المستمعون
"بديش أسمع ولا كلمة" هكذا كان يقول والد أم فراس المرأة السبعينية اليوم، حين كان يعود إلى المنزل مرة كل أسبوعين في إجازة من الجيش، ويأمر العائلة بعدم الكلام حتى يستمع إلى حفلات السيدة أم كلثوم التي كانت تبث مباشرة على الإذاعة، كان الوضع في تلك اللحظات مثل "ترمي الإبرة بتسمعي رنتها" من شدة الإنصات كما تقول.
أما برنامج ما يطلبه المستمعون فهذه قصة أخرى كما تقول أم فراس، فقد كان جسر الاطمئنان بينها وبين شقيقتها التي كانت تعيش في الكويت، ومن خلاله اكتشفت أنها تحب فريد الأطرش أكثر مما تحب محمد عبد الوهاب.
تقول: "كنا نستنى رمضان حتى نسمع مسلسل الحب الضائع في الإذاعة، بيني وبينك؟ أصلاً أول حب في حياتي صار من ورا برامج رمضان". كانت البرامج الإذاعية آنذاك مواداً دسمة تستطيع من خلالها أم فراس أن تفتح نقاشات مطولة مع ابن جيرانها وهما في طريقهما إلى مدارسهما كل صباح، تستدرك: "كنت أتابع مسلسل رمضاني على الإذاعة اسمه من هو الجاني، كله قصص جرائم ولازم المستمعين يحزروا من هو الجاني قبل ما تخلص الحلقة، فاشتركت في البرنامج وكنت كل مرة أعرف من هو الجاني لكن ولا عمري ربحت".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم