يمكن تحليل الشخصيات العامة في العالم وعبر التاريخ وفق رؤى معينة، كأن تقول هذا الرئيس واقعي، مثل أنور السادات الذي ذهب إلى إبرام صلح مع إسرائيل، أو هذا الرئيس "عقلاني"، كما هو الحال مع الحبيب بورقيبة الذي بدأ حياته بنظرية "خذ وطالب"، أو "استشرافي" من خلال خطاب أريحا واقتراحه للتسوية الفلسطينية الإسرائيلية ويمكننا أن نصف الرئيس الأوكراني بالرئيس المراهن، وبوش بالرئيس المتهور، والقذافي بالرئيس العجائبي الكرنفالي، وفيديل كاسترو بالرئيس الثوري الأسطوري، وعبد الناصر بالرئيس التراجيدي والدونكيشوتي الحالم، لكن كلما توقفت عند شخصية قيس سعيد أدوخ من هذه الشخصية وأفعالها، ولم أهتد لخانة يمكن أن ينتمي إليها هذا الكائن السياسي الجديد، حتى خرج علينا بخطابه الغريب فجر 21 آذار/مارس 2022 ، فإذا باللقب يجري على لساني دون قصد وأنا أسأل نفسي: "ما هذا الرئيس السوريالي؟".
سوريالية شعب جاء برئيس سوريالي
عاش الشعب التونسي عشرية متعبة، بعد أن وضع، على خطأ، آمالاً كبيرة على إسقاط نظام بن علي، ولم يفكّر أن مسار التقدم ونجاح الثورة يحتاجان أولاً إلى الصبر وثانياً إلى العمل، فلم يكن صبوراً، وظل يطيح بالحكومة تلو الحكومة، حتى أصبح التونسيون يتندرون بالقول إن قنينة غاز عمرها أطول من عمر وزير بالوزارة.
أما في العمل، فقد سجل التونسيون الرقم القياسي العالمي في عدد الإضرابات، وشملت الإضرابات حتى بائعات الهوى بالمواخير الرسمية. كل ذلك ساهم في تعطيل الإنتاج وهروب المستثمرين، وتضاعفت أعداد العاطلين عن العمل الذين قامت الثورة من أجلهم أولاً، حتى أن الرئيس بن علي ناور بتسوية وضعيتهم في آخر خطاب له، ووعد بإحداث ثلاثمائة ألف فرصة عمل. غير أنه، ومنذ أن هرب الرئيس بن علي إلى السعودية، صار العمال يتظاهرون في الشوارع مطالبين بزيادة الأجور، بينما خفت صوت المعطلين، وظهرت جمعية اسمها "المعطلون عن العمل".
طرق باب مكتبي يوماً بدار الثقافة التي كنت أديرها، شخص عرّف نفسه أنه "رئيس جمعية المعطلين عن العمل"، وعندما أخبرته ألا دخل لي بالتوظيف، أخبرني أنه لا يريد عملاً، بل مكتباً فقط للجمعية وله. وانتقلنا من المطالبة بالكرامة إلى المطالبة بتغيير الدستور، وغرق التونسيون في أزمة التعرف على هويتهم وتعريف أنفسهم، فهل هم علمانيون أم مسلمون، وهل هم عرب أم أمازيغ؟
مر على تونس في هذه العشرية أكثر من أربعة رؤساء، وعدد لا يحصى من رؤساء الحكومات، كلهم عجزوا عن فهم الشعب التونسي، وعجزوا عن إقناعه بألا مستقبل إلا بالعمل، وقد وجدوا منظمة الشغيلة تنظم الإضرابات عن العمل وتهدد بها، من التعليم إلى التصنيع إلى التطبيب.
هكذا إذن تعاظمت الصورة السوريالية لبلد فقير يتهاوى أمام أعين شعبه كل يوم. تواصل الانهيار حتى تمكنت العدمية من الشعب الذي تحوّل إلى كائن مازوشي، يتلذذ بإيلام نفسه، وسادي يتلذذ برؤية الآخرين يتألمون، وكانت مواقع التواصل الاجتماعي الفضاء الرحب الذي تربى فيه هذا الشعب الجديد، الذي يحتفل بالعنف كما لم يحتفل به الماركيز دي ساد، حتى نجح في تصديره إلى الخارج، عبر حملات التسفير المنظمة وغير المنظمة للإرهابيين، فكانت صناعة العنف الصناعة الوحيدة التي شهدت في تونس تطوراً بعد 2011.
أصيب بعض التونسيين بالرعب من وقوع مصيرهم في يد هذا الرجل الغريب، قيس سعيد، الذي قاده أنصاره في جنح الظلام من شقته عبر الدرج إلى الشارع كأنما يخرجون مومياء من قبرها وقد عادت للحياة
وكتتويج للعدمية، انتخب الشعب قيس سعيد بنسبة خرافية في انتخابات مباشرة وشفافة. كان انتحاراً متلبساً بأقنعة العذرية والنظافة، وانتخاباً انتقامياً من المشهد السياسي برمته، ولكن نصف ذلك الشعب الانتخابي تقريبا كان قد انتخب أيضا رجلاً لقب كثيراً بـ"المافيوزي"، وهو نبيل القروي، قبل أن يتفوّق عليه قيس سعيد، الذي أطل على الشعب في ليلة ليلاء، يقبّل العلم مذعوراً، ويلوح بقبضته مصدوماً من نجاحه في الانتخابات، وكل ملامح وجه تشي بأن الرجل تحت وقع الصدمة.
فأصيب بعض التونسيين بالرعب من وقوع مصيرهم في يدي هذا الرجل الغريب، الذي قاده أنصاره في جنح الظلام، من شقته عبر الدرج إلى الشارع، كأنما يخرجون مومياء من قبرها وقد عادت للحياة، بينما رأى قسم آخر في المشهد لحظة تراجيدية وحميمية في آن، تبشر بنهاية الاستبداد والفقر وترجمة لإرادة الشعب وللعدالة والحرية.
ظل الرئيس السوريالي يردد أنه لا يملك حساب فيسبوك ولا حساب تويتر، في نبرة ازدراء لهذه الوسائل، وقد وصل للحكم عبر فيسبوك، فقاطع الإعلام وصار لا يتواصل مع الشعب والعالم الا عبر صفحة فيسبوك الخاصة بالرئاسة، ثم يطلق استشارة لتغيير نظام الحكم والعادات الغذائية والسرية ودخول الحمّام عبر الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي. هو نفسه الرئيس السوريالي الذي يكتب رسائله بالخط المغربي، ويرسل مدير مكتبه الى رئيس الحكومة محملاً بخطابه في طية أسطوانية من قرون ما قبل الإسلام، موقعاً إلى اليوم مراسيمه الانقلابية بالريشة.
هو نفسه الرئيس السوريالي الذي زج بالمعارضين في المعتقلات بسبب تدوينة فيسبوك، أو بسبب تحريض من أتباعه له عبر فيسبوك. وهو نفس الرئيس الذي يعتبر فشل استشارته انتصاراً، ويحذر من هجمة سيبرانية متخيلة، وأنهم من غيروا مفتاح هاتف البلاد (216) الذي أضاعه يوم انقلب على الديمقراطية وعلى الشعب وعلى نفسه، حينما أغلق كل المؤسسات ورمى مفاتيحها في فوهة دبابة، ليجد نفسه، بعد أن جرّب عزل الجميع، معزولاً ومنعزلاً.
أروع صورة لسوريالية الرئيس كانت حين تزامن خطابه مع نزول الترتيب السيادي، ونهوض شبح الإفلاس وغرق الشعب في الغائط بسبب انقطاع الماء
السميد موجود في نشرة الأخبار
بسبب اختلال في التنسيق والتواصل مع فريقه، يتورط الرئيس كل مرة في مشهد سوريالي، فبعد أن أطلق حملته لمحاربة الاحتكار، وخاصة محتكري الدقيق، نزل إلى الشارع يزور المخابز ليعلن من هناك، في الميدان، انتصاره على المحتكرين، كما أبلغه فريقه، فإذا به يواجه مواطناً حراً، صاحب مخبز، يرد عليه بكل تلقائية عندما سأله إذا ما كان "السميد موجود"، وعاد إلى توزيعه العادي بعد حملة الرئيس، "شوية شوية. ناقص برشا". فيطلق الرئيس السوريالي جملته السوريالية "ميلزمش السميد يكون موجود في نشرة الأخبار وفي الواقع لا"، في إشارة إلى المغالطة التي تعرض لها، والتي جعلته ينزل إلى ليحتفل بانتصاره، فعانقته الخيبة على لسان صاحب المخبز. تعمد أن يدخل إلى المخزن ليتثبت من كلام الرجل فلم يجد إلا صدقه. لا دقيق في المخبز.
الرئيس يخطب في شعبه النائم
تبقى أروع صورة لسوريالية الرئيس عندما تزامن خطابه مع نزول الترتيب السيادي لتونس إلى CCCوأصبحت شبه عاجزة عن تسديد ديونها، ليطل شبح الإفلاس، وفي وقت يغرق فيه الشعب في الغائط بسبب انقطاع الماء على عديد الجهات لمدة أسبوع، وعندما كانت أخبار تصادم القطارات تملأ صفحات التواصل الاجتماعي، يخرج علينا الرئيس السوريالي ليخطب معلناً أن انقلاب 25 تموز/يوليو أنقذ التونسيين من الفقر وأعاد لهم كرامتهم.
تحليل صورة الرئيس وهو يخطب في شعبه النائم تبدو صورة رمزية سوريالة عجز عن رسمها أندريه بروتون، فالرئيس يبدو مصراً على ملاحقة شعبه بإخفاقاته حتى في النوم
إن هذا الرئيس الذي قال يوماً إنه بلا برنامج، فانتخبه الشعب بسوريالية وعدمية غير مسبوقة في التاريخ، صار يخطب في الشعب كل يوم عبر صفحة الرئاسة، ويشتم الصغير والكبير، سيأتي اليوم الذي يكتشف فيه خواءه، ويردد خلف "مولوي" بطل رواية صامويل بيكيت:
"الغاز يخرج من أعماقي. أنا عند ضرورة التّلميح إلى الأشياء التي ليس لها وزن والتي لها وزن على حدّ السّواء، رغم النّفور الذي تُخلّفه لديَّ. في مرّة أحصيتُ عددها. ثلاث مئة وخمس عشرة ضرطة خلال تسع عشرة ساعة. يعني بمعدّل أكثر من ستّ عشرة ضرطة في السّاعة. في النّهاية هذا ليس مهولاً. أربع ضرطات كلّ ربع ساعة. لا يُعدّ هذا شيئاً. أقل من ضرطة كلّ أربع دقائق. أمر لا يُصدق. لستُ سوى ضرّاط صغير".
تتجلى السوريالة في أشد تمظهراتها في اختيار توقيت الظهور لإلقاء الخطاب وبثه، فقد فاجأتنا التلفزة الحكومية بخير أسفل الشاشة عند منتصف الليل من 20 آذار/مارس: "قريباً بث خطاب رئيس الجمهورية بمناسبة ذكرى الاستقلال". صُدم الساهرون، متسائلين عن سر هذا الخطاب الذي سيلقى على شعب كان قد نام من ساعات. ولم يبث الخطاب إلا بعد قرابة الساعة، أي أن خطاب عيد الاستقلال المؤرخ بـ 20 آذار/مارس بث يوم 21 آذار/مارس، وبدأه الرئيس بشبه اعتذار أنه كان من المفترض أن يقدمه صباحاً، لكنه انشغل باجتماع مجلس الوزراء.
كيف يمكن أن يثق الشعب في رئيس لا يستطيع أن يرتّب نشاطه ليوم رسمي كعيد الاستقلال، وينتظر منه أن يرتب دواليب دولة تعيش أسوأ فترة في حياتها منذ الاحتلال الفرنسي سنة 1981، ذلك الاحتلال الذي سماه الرئيس قبل وقت بنظام الحماية، والذي لا يحتاج أن نطلب من فرنسا الاعتذار عنه في زيارته الأولى إلى فرنسا، عندما قبّل كتفي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
إن تحليل صورة رئيس وهو يخطب في شعبه النائم تبدو صورة رمزية سوريالية، عجز عن رسمها أندريه بروتون، فالرئيس يبدو مصراً على ملاحقة شعبه بإخفاقاته حتى في النوم. ولكن هذا الشعب أيضاً لا يستيقظ، ويثق في نتائج سبر الآراء التي مازالت تصدّر الرئيس السوريالي في عمل سوريالي خلاّق.
إن الساعة التي زرعها الرئيس زين العابدين بن علي في قلب العاصمة كالقيامة تعد على التونسيين أنفاسهم، صارت اليوم ساعة مائعة كساعات سلفادور دالي الذائبة على أطراف الشارع. لقد صار الشارع أيضاً مائعاً بمعارضة أشد سوريالية عرفت بانتهازيتها وسذاجة معظم وجوهها. إن السوريالية كتيار ما فوق واقعي، وينشغل بالمعنى بدل الشكل، والذي يشكل إخراج الوعي الباطن واللاوعي الفردي المقموع من القوانين الجمعية إلى الخارج، أحد أهم أهدافه ستعلن حدادها بعد أن تقرأ هذا التشبيه، لأننا سلبناها أهم خصائصها وهي الذكاء،4 عندما خلعناها على هذا الرئيس العدمي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 14 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 20 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com