شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
الذّكَر الأبيض المسلم الساكن في القاهرة… تراث العنصرية وفلكلور الإبادة

الذّكَر الأبيض المسلم الساكن في القاهرة… تراث العنصرية وفلكلور الإبادة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 8 نوفمبر 202203:51 م

يحمل التراث الشعبي والفلكلور المصري متمثلاً في الأمثال الشعبية وكثير من القصص والملاحم التراثية والأغاني الشعبية، الكثيرَ من التمييز والتعصب والعنصرية والاضطهاد على أساس العِرق أو الجنس أو الدّين أو الثقافة، وحتى على أسس اقتصادية. ويضم التراث الشعبي الشفهي في المجتمع المصري بين طياته الكثير من ملامح الاستعلاء المرتبطة بالخصائص الاجتماعية.

وقد تجلى الاستعلاء الديني في أقسى صورة داخل حركات الإسلام السياسي، منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي؛ فكان سيد قطب أبرز من طرح فكرة الاستعلاء بالإيمان، مخصِّصاً لذلك فصلاً كاملاً في كتابه "معالم في الطريق"، واصفاً بذلك الحالةَ الشعورية للمؤمنين تجاه أنفسهم، وكيف ينظرون للآخرين، وطارحاً فكرة الاستعلاء على قوى الأرض الحائدة عن نهج الإيمان.

العنصرية الثقافية وإبادة المختلف

ويبدأ الطريق بالعنصرية وينتهي بإبادة المختلف، ويشمل ذلك مراحلَ مختلفةً، تبدأ بثقافة الازدراء والسخرية من المختلف، والتحاشي الاجتماعي للمختلف، ثم حرمانه من حقوقه الإنسانية، والاعتداء الجسدي عليه بكراهية مفرطة، وتنتهي بالاتجاه نحو إبادة المختلف. بما يعني أن العنصرية تقع في قلب مثلث الازدراء والعداء والإفناء. وهكذا تنمو مشاعر الكراهية يوماً بعد يوم، وتولّد مزيداً من الكراهية، وتتراكم عبر الزمن، بحسب ما ذكره وشدد عليه أستاذ علم الاجتماع في جامعة القاهرة، الباحث الدكتور سعيد المصري في كتابه "تراث الاستعلاء... بين الفولكلور والمجال الديني"، الصادر في القاهرة عن دار بتانة للنشر، والحائز على جائزة الشيخ زايد للكتاب، فرع التنمية وبناء الدولة.

وعلى غير المألوف، يُسلّط الباحث الضوءَ على تراث سلبي يُكرّس لثقافة عدم المساواة، وروح التعصب، والتطرف، ونار الكراهية، وعدم قبول الاختلاف، ويدعم سلوكيات سلبية، مثل: كثرة الإنجاب، وهدر الموارد، ويعزز من ثقافة الفقر والتحايل وعدم تحمّل المسؤولية، مُركّزاً على الموروثات الشعبية في المجتمع المصري، التي تقوم على أساس التعصب والتمييز والكراهية والاختلافات الإثنية والنوعية والاجتماعية، وتؤدي بدورها إلى الصراعات الطائفية والعرقية.

كما يربط الباحث بين التغيرات الاجتماعية والثقافية السياسية، وبين فرض تراث الاستعلاء باسم الدين، مستعرضاً السياقات المرتبطة بتفعيل فكرة المجتمع الإسلامي المتخيل في البادية، وكيفية تطور الحركات الإسلامية، بجانب تحليله للوضع الراهن للمؤسسات الدينية في مصر، وقضية تجديد الخطاب الديني.

الأولوية للذّكر الأبيض المسلم

بجانب ما يتضمنه الفلكلور المصري من تراث الاستعلاء الديني، فإنه يتضمن إرثاً كبيراً من التمييز الطبقي والعنصري الذي يصل إلى حد الاستعلاء والاستبعاد، إذ يمنح الأفضلية للون البشرة الأبيض على حساب الأسود وأصحاب البشرات الملونة.

كما يميز الناس على أساس طبقي، وفقاً للانتماء الجغرافي والحسب والنسب، ويتضمن التراث تلك النظرة الدونية من المجتمع لذوي الاحتياجات الخاصة، ووفقاً للكتاب فإن الأولوية للذكر أبيض البشرة (فاتح اللون)، مسلم الديانة، الذي يعيش في العاصمة.

وبالإضافة إلى القيم المتوارثة والتراث الشعبي، الذي يعزز وجود الذكر على حساب الأنثى، ويمارس العنصرية بحق المرأة، فإنه أيضاً يعطي أفضلية لكبار السن على حساب الشباب، وهو الأمر الذي يحرمهم كثيراً من الفرص، ويتسبب في إهدار الطاقات الشابة.

تبدأ من إلقاء التحية، وتحريم عبارات "صباح الخير، ومساء الخير"، واستبدالها بـ"السلام عليكم"، ومروراً بالاحتفالات الاجتماعية، واستبدال العقيقة بعادة السبوع في الاحتفال بميلاد الأطفال، وصبغ الأفراح بالصبغة الدينية... عن مظاهر الاستعلاء الديني في حياة المصريين

على امتداد سبعة فصول ونحو 350 صفحة من القطع المتوسط، يُقدّم لنا سعيد المصري، في كتابه الذي يقع ضمن مجال الأنثروبولوجيا الثقافية، عدداً من الدراسات والبحوث الميدانية ذات الطابع البياني والاستطلاعي، التي أجريت حول تراث الاستعلاء بأبعاده الفولكلورية والدينية، والقصص، والحكايات، والأشعار، والأمثال الشعبية المتوارثة، وجميع عناصر التراث اللامادي، المعززة للتمييز بين البشر، وفقاً لخصائصهم وانتماءاتهم واختلافاتهم، والصور النمطية للتباينات الاجتماعية والعمرية والجغرافية والدينية والعرقية والجسدية، وتداعيات ذلك على النواحي الاجتماعية والثقافية والسياسية، وتأثيراتها على الواقع الاجتماعي العربي المعاصر، ومقدماً بانوراما لبعض مشكلات المجتمع المصري، ووضع التراث والمسار الديني في مصر.

يستعرض الفصل الرابع، فكرة المجتمع المتخيل وآليات تفعيلها في الواقع، وكيفية ظهور فكرة الاستعلاء الديني، وتتجلى في عدة مظاهر اجتماعية، "تبدأ من إلقاء التحية، وتحريم عبارات (صباح الخير، ومساء الخير)، واستبدالها بـ(السلام عليكم)، ومروراً بالاحتفالات الاجتماعية، واستبدال العقيقة بعادة السبوع في الاحتفال بميلاد الأطفال، وصبغ الأفراح بالصبغة الدينية، وصولاً لتزايد الاهتمام بالعبادات والممارسات والطقوس والشعائر في الحياة اليومية، كالحرص الشديد على الصلوات، وحضورها جماعةً في المسجد، والصوم، وحضور حلقات الدرس الديني، والمداومة على قراءة القرآن خلال الصيام، بالإضافة إلى الحج والعمرة.

"والحرص المستمر على ربط السلوك بأحكام النصوص الدينية ،وتنامي دور الإفتاء في كثير من التفاصيل الخاصة بالحياة اليومية للناس، والرغبة المحمومة لدى بعض الفئات للعيش بمقاييس النص الديني، كما الحال في الملبس والمأكل وعادات الميلاد والزواج والوفاة، والتسمية، وأنماط التفاعل والممارسات الحياتية، ولغة الخطاب اليومي، والاحتفالات العائلية، والصحة والمرض وصور التداوي بالقرآن...".

العلاقة بين الدين والمجتمع

بينما يُحللّ الفصل السادس الوضعَ الراهن للمؤسسات الدينية بمصر، ويناقش الفصلُ السابع والأخير، الجدلَ حول مسألة تجديد الخطاب الديني، وخصوصاً بعد سقوط حكم الإخوان في مصر جراء أحداث 30 حزيران/يونيو 2013، وكيف يمكن إعادة صياغة العلاقة بين الدين والمجتمع بحسب الأولويات المجتمعية.

وجاء في الكتاب أن "المجتمع المصري شهد على مدى ما يقرب من أربعة عقود مضت، صعوداً قوياً للحركة الإسلامية علي مختلف الأصعدة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. واستمر تأثير الجماعات الإسلامية والسلفية وجماعة الإخوان المسلمين بصورة مطّردة سنة بعد أخرى، حتى استطاع الإخوان الوصول إلى السلطة عام 2012 فى انتخابات ديمقراطية، بموجب القدرة الهائلة على الحشد الجماهيرى، المدعوم من كل أطياف الحركة الإسلامية فى ذلك الوقت".

"ولم يمضِ عام واحد حتى فقدت جماعة الإخوان المسلمين السلطةَ تحت تأثير حشود جماهيرية معارضة لحكم الإسلاميين فى يونيو 2013. وبموجب تراجع الثقة الاجتماعية فى حكم رجال الدين، فقدت تيارات وجماعات الإسلام السياسى كثيراً من حضورها فى المجال العام، وفقدت قدراتها على الحشد والتعبئة والتأثير الاجتماعي، الذي كانت تحظى به من قبل. ولا يعني ذلك تراجع التوجهات الدينية... بل لا تزال العلاقة بين الدين والمجتمع عميقة وقوية". 

وينصح الباحث في هذا الفصل بالبحث عن "طريق ثالث"، بعيداً عن الاستقطاب الحاد بين التجديد الانتقائي من داخل المؤسسة الدينية، والتجديد الجذري الذي ينادي به البعض، مستمداً ذلك من علوم "دنيوية" قائمة على أربع زوايا، وهي: التأويل، والتوافق، والتفرد، والتحرر.

ويرى الباحث أن ذلك يحقق اعتبارات أساسية، وهي: التجاوب مع التحديات الاجتماعية الجديدة، والتفاعل الإيجابي مع إمكانيات العصر الحديث، والإسهام في تحقيق السعادة الإنسانية، والتخلص من أوهام العلاقة بالآخر، والتأسيس للمصالحة والتعايش السلمي، بدلاً من الصراعات والنزاعات.

الاستعلاء ظاهرة

ويُفرّق أستاذ علم الاجتماع سعيد المصري، في حديثه لرصيف22، بين نوعي الاستعلاء: الإيجابي والسلبي، مبيناً أن الاستعلاء الديني الإيجابي ورد في القرآن الكريم: "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين"، وهي الآية التي استخدمتْها الحركاتُ الإسلامية في الاستعلاء بالذات. أما الاستعلاء السلبي فيتجلى في تمييز البشر وفقاً لخصائصهم وانتماءاتهم، وهو حالة شعورية ترتبط بتصنيف البشر للعالم وإدراكهم لهم، وهو شعور بالتفوق على الآخرين والنظرة العنصرية، بدءاً من السخرية والازدراء تجاه المختلف، وهي ظاهرة موجودة في كل الوطن العربي.

أمثلة شعبية مثل: "البنات زي القطط بسبع أرواح"، و"ما يجيبها إلا رجالها"، "الرجالة غابت والستات سابت"، تمتلئ بها اللغة اليومية، وتحقر منها إلى موضوع للشهوة، و"الأولوية للذكر أبيض البشرة، مسلم الديانة، الذي يعيش في العاصمة" 

ويوضح المصري أن كتابه تناول ثلاثة أنواع مختلفة من الاستعلاء، وهي:

الاستعلاء البدائي، المرتبط بتمييز البشر وفقاً لخصائصهم الاجتماعية والجسمانية وأعمارهم وسلالتهم ونوعهم، ويرتبط بنمط بسيط من أنماط الحياة، يُعلي من قيم الذكورة والفحولة والإثنية.

الاستعلاء الطبقي، ويرتبط بالتمييز بين البشر وفقاً لنصيبهم من امتلاك الثروة والمال والممتلكات والدخل، ويترتب عليه تفرقة في الحقوق والواجبات، وقد عمقت ثقافة الاستهلاك من فجوة التمييز بين الطبقات والاستعلاء الطبقي.

الاستعلاء الديني، ويتعلق بالحالة الشعورية المتمحورة حول علو الانتماء لهذا الدين على كافة الانتماءات الأخرى، وأنهم الأحق بالدين والدنيا معاً، وأنهم على حقٍّ وغيرهم على باطل.

ويدعو المصري إلى تطوير التراث، واختيار منه ما يؤسس للحياة الإنسانية الجيدة، والتخلي عن الممارسات المتطرفة في العلاقة بالتراث، كالتمجيد المطلق له أو الإدانة المطلقة له أو الحياد المطلق في دراسته، والفصل المطلق بين التراث الشعبي والتراث الديني، وأنه يجب على الباحثين القراءةُ النقديةُ للتراث بشجاعة وحسم.

التراث الشعبي والمرأة

فيما ترى الكاتبة الصحافية نسمة تليمة أن المجتمع المصري به قيم استعلاء وتراث متجذر عن صورة المرأة تحرك الناس، حيث ترمز الذكورة إلى القوة والشجاعة والحيوية والحرية، مقابل الأنوثة التي ترمز إلى الضعف والاستكانة والحياء والهشاشة والخنوع. وفي الوقت الذي تتسامح فيه التقاليد مع جرأة الولد، في "معاكسة" البنات، تشدد على كبح سلوك البنات، وحثّهن على إظهار الحياء والخجل في التعبير عن الأنوثة، ويعتبر التراث أن الطفل الذكر معرَّض للحسد أكثر من البنت.

وتستشهد تليمة بعدد من الأمثلة الشعبية مثل: "البنات زي القطط بسبع أرواح"، و"ما يجيبها إلا رجالها"، "الرجالة غابت والستات سابت"، مشيرة إلى أن التراث الشعبي ينظر للمرأة على أنها كائن ناقص، حين يصف فرصها بالزواج بـ"العَدَل"، كما لو كان تصحيح من الاعوجاج، وعدم استقامة وجود المرأة دون الارتباط برجل، مضيفة أن التراث الشعبي يمتلئ بمفردات كثيرة، تعبّر عن معان شديدة القسوة في احتقار المرأة، واختزالها كموضوع للشهوة وتشبيهها بالحيوانات، كالأفعى للدلالة على شرِّها، وتشبيه الرجل بالمرأة كدلالة على الضعف، أو وصف الرجل ضعيف الشخصية بأنه "ابن أمه" أو أنه "تربية امرأة"، مؤكدة أنه في ظل ذلك الزخم من الاحتقار للأنثى، والإقلال من شأنها، فإن المجتمع يتقبل بسهولة أولويةَ الذُّكور على الإناث في فرص الحياة.

وتشير نسمة تليمة إلى دراسة وردت في كتابه "تراث الاستعلاء... بين الفولكلور والمجال الديني" أجريت على عينة كبيرة من المجتمع المصري، وأظهرت أن 81% من السيدات يعتقدن أن الأولوية بالنسبة للبنت هي بيتها وليس العمل، وأن الزواج مُفضّل على عمل البنت.

وفي سؤال الدراسة، الذي طرحته على عينة من المصريين، حول مبدأ "المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة من متطلبات الديمقراطية"، انخفضت نسبة الموافقين من 51% عام 2008 إلى 25% عام 2012، وهي كما وصفها الدكتور سعيد المصري "مفارقات الواقع الجديد"، الذي تشكل بعد ثورة 25 يناير، بما يؤكد غلبة القيم التقليدية المناوئة لحقوق المرأة في الإدراك العام لمعنى الديمقراطية والعدالة بين الجنسين.

وتعتقد تليمة أن تلك المعتقدات في صدور الناس، تشرّبوا بها، مهما كانت درجة تعليمهم أو ترقيهم، لذا نرى صفحات وتعليقات تدافع عن القتلة، وتدين المقتول لمجرّد أنه مختلف عنه كأن يكون امرأة، أو يعتنق ديناً آخر، أو شكله غريب.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard