شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عملي في مدينة غريبة كان فرصتي للتمتع بالمشي وحيدة

عملي في مدينة غريبة كان فرصتي للتمتع بالمشي وحيدة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

خروج فتاة للتجول في الشوارع بلا هدف أمر غريب ومستهجن في مدينة صغيرة ومغلقة كمدينتي، دشنا، في صعيد مصر. الشوارع هناك للرجال، يمكنهم السهر في الخارج للفجر دون تبرير.

أما النساء، فوجودهن عابر وسريع كالأطياف. يخرجن للعمل أو للتسوق، لزيارة أقارب، وتأدية واجب عزاء أو مباركة زفاف. يتخذن الشارع سبيلاً لا هدفاً في ذاته. لا وجود لمتنزهات أو نوادٍ، لا مطاعم أو كافيهات لاستقبالهن.

عملي في مدينة أخرى مثل "قنا" - واحدة من عواصم المحافظات في الجنوب - كان فرصتي للتمتع بالمشي وحيدة. تتردد في أذني أغنية ماجدة الرومي "الشارع لمين؟ الشارع لنا".


منحتني الغربة حريتي. لا أحد يعرفني، ولا عيون تترصدني وتتساءل عن أسباب خروجي، كتلك الموجودة على نواصي مدينتي، حيث الجميع يعرف بعضه البعض، تشعر أنك مراقب ومقيد. في "قنا"، يتلّبسني إحساس السائح في بلاد الله، لا جذر يربطني بالأرض، أمشي بخفة وحرية.

منحتني الغربة حريتي. لا أحد يعرفني، ولا عيون تترصدني وتتساءل عن أسباب خروجي، كتلك الموجودة على نواصي مدينتي، حيث الجميع يعرف بعضه البعض، تشعر أنك مراقب ومقيد

الساعات التي تسبق المغرب، وتعقب الفجر أوقاتي المفضلة في اليوم، ساعات تبدل الليل والنهار. تعلو زقرقات العصافير على الأشجار، يتجدد الهواء، وتنتعش روحي. أحببت المشي على مهل والشعور بالهواء يحرك ثيابي، النظر إلى الشجر وألوان الزهر طول الطريق.

أسرح في فيلم شاهدته مؤخراً، أمشي وأنا منتشية بالجمال الذي شاهدته، أشعر بقلبي ذاب، وأذاب ما يلمس في طريقه، الأشجار، أعمدة الإنارة، الثياب المتطايرة من الشرفات، البيوت والأرصفة، مع كل خطوة يمتد النهر.

صدق المغني محمد عبد المطلب وهو يقول: "وعلشان أنول كل الرضا يوماتي أروحله مرتين م السيدة لسيدنا الحسين". لا أتفق مع المتندرين والمشككين في إمكانية أن يقطع إنسان كل هذه المسافة لرؤية الحبيب. 


صدق المطلب لأنني أعرف الطاقة الهائلة التي يهبها الجمال لمحبيه، طاقة تدفع الإنسان للحراك وإلا احترق بشوقه للحبيب أو بجمال الفن. المشي يخفف حدة الأشواق بالتعرض للطف النسمات.

ألفّ الشوارع وأنا محاطة بأجواء الفيلم الذي شاهدت، أمشي على وقع موسيقاه، مقتبسة روح شخصياته، مبدلة في ذهني أحداثه. بتلك الروح، أدخل محل عصائر، لتشرب الممثلة البريطانية كيت وينسلت في فيلم "الطريق الثوري" عصير قصب يُهدئ من غضبها. أزور محل خزف لتختار الممثلة الأميركية كيري راسل من فيلم "النادلات" أطباقاً مزخرفة لعرض كعكاتها، أذهب بها لمطعم لتناول بيتزا على سبيل التغيير. أدخل محل ملابس لتشتري الممثلة الأمريكية ميريل ستريب من فيلم "جسور مقاطعة ماديسون" فستاناً ذا زهور زرقاء صغيرة لمقابلة عشيقها الصحافي.

أزور محال ذهب وإكسسوارات أزين أصابعي وعنقي بها، متاجر أحذية وشنط أمشي بها لمشاوير متخيلة ومقتبسة شخصيات أفلامي. أعتذر لأصحاب المحال لإضاعة وقتهم متحججة أن لا شيء يعجبني، إن لم أستطع الشراء. ألتقط صوراً وآخذ تذكارات إن أمكن، أعود بها لمنزلي حتى لا تختلط عليَّ الأمور وأصدق أن هذا حدث حقيقي ولم يكن مشهداً في فيلم.

في أيام أخرى، لا تكون للجولة وجهة محددة. أمشي بلا هدف ربما استكمل قصيدة بدأتها وتوقفت. أمشي لملاحقة المعنى واقعاً ومجازاً. المشي يحث ما بداخلي من وهج ورعشة على الهدوء لأستوضح الفكرة وأصل للعبارة.

أحياناً، كنت أجد منبت القصيدة في الشوارع، بجوار زهرة وحيدة أسفل رصيف، وسط حبات قمح ملقاة خطفها عصفور سريعاً وطار، في يد صغيرة تلوح من الميكروباص. 

أدور في الشوارع وأغني مع نجاة الصغيرة:

"دوارين في الشوارع دوارين في الحارات 

يا شباكهم ياللي غايب عن عينيا سلامات"


تبحث نجاة عن شباك يطل منه حبيبها، وأبحث عن شباك تطل منه قصيدتي.

كنتُ كالمراهقين، نجاهر تمرداً بعدم محبتنا لأم كلثوم. ويرد الأهل بثقة "لما تكبروا هتحبوها". وهذا ما حدث. محبتها كانت معادلاً للنضج العاطفي. 

الطريق كان سر محبتي لها. وجدتني أبطئ الخطى حين يصلني صوتها من مقهى قريب، أستسلم لو أدار السائق إحدى أغنياتها، وامتلأ الجو بالآهات والنغمات، أرجوه ألا يوقف الراديو، وأتمنى ألا نصل. مرات، كنت أدخل محطة نزولي، أترجل مع نهاية وصلتها. أتمشى في شوارع جديدة منتشية، حتى أفيق من سكرتي وأسأل المارة كيفية العودة.

تجولت مع الحبيب لأول مرة في شوارع "قنا" ممسكة بيده، أمر بمعالم المدينة في شوق. عدت للشرب والأكل في الطريق، بينما نحكي ونضحك. عادت حواسي للعمل ومعها ثقتي في الحياة، وعاد الشارع بيتي من جديد بفضل الحب

مع هذا، لم أجرب أن أستمع إليها وأنا في مكتبي أو غرفتي بالمنزل. جمالها كان ذا جلال يصعب عليّ تحمله، دون الهواء الملطف للحرارة التي تُشعلها في القلب. المشي كان سبيلي لالتقاط الأنفاس.

مع بداية ظهور كورونا، استبد بي الخوف، وقبل قرار تركي العمل والانعزال في المنزل، قررت أن أودع "قنا" بالتجول في شوارعها. أمر ببيوت قديمة ذات بلكونات خشبية، أبراج حمام أعلى البنايات. أمر أمام مقهى لا أرتاده لكن محبةً في اسمه "أنا وأنت". أمر بجامع "أبو بكر الصديق". تطل شبابيكه الزجاجية الملونة على أشجار وارفة، أغصانها تجتاز الشباك وتلقي بظلها داخل مصلى السيدات. 

يومها، شربت أكواب عصير قصب زجاجية لا ورقية، إمعاناً في الاشتباك مع كل ما يحيط بي، كنت أعلم أن عزلتي ستطول، وأنَّي سأشتاق لكل هذا، تملكتني رغبة عارمة في احتضان الشوارع والمباني والبشر.

التهمت عيدان ذرة وأنا أتمشى، والمطربة الشعبية المصرية روح الفؤاد تدندن:

"سوق بينا يا اسطى عـلى الكورنيش ناكل درة ونشرب مانجا

وواحدة واحدة إن شالله تعيش مشي الحلوين دنجا دنجا"

صانعة دويتو في رأسي مع "هدى سلطان"

"سوق يا أسطى وعلى مهلك بينا 

فوت ع الانفوشى وع المينا

ما توصلناش ما ترجعناش..."


أصابتني كورونا برهاب الخروج. أتوتر لو انفتح الباب لاستقبال زائر، أو لجلب أغراض من السوق. اللمس صار مرادفاً للشك والخوف. حاصرت رائحة الكحول والمنظفات حاستي الشم والتذوق لدي.

لم أرغب في العودة إلى المنزل. أشعر أن الشوارع بيتي، ممتنة للباعة الجوالين، بائعي الذرة والبطاطا، غزل البنات والجيلاتي. هؤلاء رفقاء المشي على طول البلاد وعرضها، مقدمو التسالي بأسعار زهيدة، مانحو السعادة والونس المجاني.

أصابتني كورونا برهاب الخروج. أتوتر لو انفتح الباب لاستقبال زائر، أو لجلب أغراض من السوق. اللمس صار مرادفاً للشك والخوف. حاصرت رائحة الكحول والمنظفات حاستي الشم والتذوق لدي. عيناي تحولا لميكروسكوب لرصد احتمالات تسلل كورونا. 

لم يُخرجني من تلك الحالة المرضية سوى تسلل الحب إلى قلبي. راحت يدي تلمس دون رعب، واكتشفت حلاوة وتنوع الروائح والمذاقات من حولي.

تجولت مع الحبيب لأول مرة في شوارع "قنا" ممسكة بيده، أمر بمعالم المدينة في شوق. عدت للشرب والأكل في الطريق، بينما نحكي ونضحك. عادت حواسي للعمل ومعها ثقتي في الحياة، وعاد الشارع بيتي من جديد بفضل الحب.

في كتابي "في غرام المشي والظلال" كتبت إهداءً مستحقاً للمشي، أود أن أختم به المقال.

"إلى الخطوات التي قطعتها من منزلي إلى المدرسة صباحاً، أتأمل أنواع الزهر والثمر، تبدل أوراق الشجر، ألعب بحصى الطريق، وعلى بلاطات الأرصفة، أفكر في أسئلة ظننت إجاباتها ستطرح مع الزمن. الخطوات طرحت خطوات ليستمر فعل المشي. مشي للتأمل، للعب، للهرب، للعثور على المجهول، على الذات، المشي لكتابة قصيدة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

شكل حياتنا اليومية سيتغيّر، وتفاصيل ما نعيشه كل يوم ستختلف، لو كنّا لا نساوم على قضايا الحريات. "ثقافة المساومة" هذه هي ما يساعد الحكام على حرماننا من حريات وحقوق كثيرة، ولذلك نرفضها، ونكرّس يومياً جهوداً للتعبير عن رفضنا لها، والدعوة إلى التكاتف لانتزاع ما لنا من قبضة المتسلّطين. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard