في الأعوام الأخيرة، دخل التدوين التاريخي في تحوّلات عظيمة وترك الأسلوب التقليدي مكانته التي تساهم في التأريخ الثقافي والسياسي. يستعين التاريخ الجديد بعلم الاجتماع والاقتصاد والديموغرافيا والجغرافيا والأنثروبولوجيا، والكثير من العلوم الأخرى والأساليب، فأصبح التاريخ يُقدّم بأبعاد متعددة وأكثر جاذبية وإثارة من تدوين الوقائع التقليدي. يسعى هذا النوع التاريخي إلى مناقشة زوايا من حياة الانسان التي لم تكن سابقاً جزءاً من التاريخ. الموضوع هنا ليس سيرة النُخب والملوك والعلاقات السياسية والحروب والفتوحات، بل التطرق إلى البُنى الاجتماعية والثقافية للمجتمع، أي حياة الناس العاديين.
وبالطبع مثل هذا التاريخ يحتاج إلى مصادره الخاصة، ويتخفف من الوثائق الرسمية مثل الصحف والمجلات والتلغراف والرسائل الإدارية. في المادة السابقة اطلعنا على مذكرات امرأة خلال الشهر الأول من زواجها، وسنلقي هذه المرة نظرةً على رسائل متبادلة بين زوجين (أفسانة ومهدي)، كُتبت في ستينيات القرن الماضي وقد عثرتُ عليها في محلّ بيع الأغراض القديمة في طهران.
يذهب الزوج إلى مدينة بعيدة لإنهاء فترة تجنيده، ويُجبر على ترك زوجته وطفلتهما الصغيرة. يكتب عن وحدته والصعوبات التي يواجهها، وهو دائم القلق من أن يُنسى.
كتب في رسالة أرّخها 4 آذار/مارس 1970:
"امرأتي الجميلة، زوجتي المثالية، جميلتي اللعوب والطيبة والوفية، عزيزتي أفسانه
أكتب هذه الرسالة والساعة الآن التاسعة مساء. أخذونا اليوم صباحاً يا عزيزتي إلى تمارين الاستعراض العسكري. وبعد وجبة الغداء وارتداء ثياب الفصل مع الخوذ الحديدية التي يضعها الجنود، والوقوف ليلقي القواد علينا نظرةً تفحصية، ذهبنا إلى الساحة لنستعرض أمام الناس... اشتقتُ لك. لا تقلقي عليّ، واذكريني دائماً. كم هي طويلة لحظات الفراق، وأعرف أنك تمرّين بمثل هذا الشعور. قبّلي من جانبي طفلتنا عدّة قُبل".
500 رسالة متبادلة بين زوجين كُتبت في الستينيات. يذهب الزوج إلى مدينة بعيدة لإنهاء فترة تجنيده ويُجبر على ترك زوجته وطفلتهما. يكتب عن وحدته والصعوبات والقلق الدائم الذي عاشه... مذكرات من إيران
وتكتب أفسانه عن حاجتها للمال وعذاباتها، وعن ابنتهما (لونا) وأنها كبرت. كتبت في رسالة 8 آذار/مارس 1970:
"إلى باني فرحتي، زوجي العزيز. تقبّل تحياتي الحارة من فراسخ بعيدة
مهدي الطيب، أرجو أن تكون بخير وبعيداً عما يُقلق. يا عزيزي إذا كنت تريد الاطلاع على وضعي ووضع ابنتنا عليّ أن أكتب لك أنّ وضعنا جيد... رهنت مجوهراتي، وبعد أن أعيد له المبلغ سأستعيد خاتمي وخاتم الزواج. لونا أصبحت جميلةً، ما شاء الله! ولن يخطر على بالك أنها هي لونا التي كان وزنها كيلوين و800 غرام. ظهرت لها 10 أسنان، واثنتان في حالة نمو".
يتبادل الاثنان الرسائلَ حتى يتجاوزا الخمسمائة رسالة، محاولين الكتابة كلّ يوم. ولكن بسبب مبالغ البريد، كانا يضعان في بعض الأحيان رسائلَ كلّ أسبوع في ظرف واحد مع تواريخها، ويرسلانها دفعة واحدة.
هكذا نتابع علاقتهما المليئة بالحبّ والشوق عبر الرسائل إلى أن يأتي مهدي في إجازة. تنقطع الرسائل في هذه الفترة، ولكن بعد سفر مهدي تنتبه أفسانة إلى أنها حبلى. تكتب في تواريخ 11 و12 و13 و14 و15 شباط/فبراير 1971:
"عزيزي، أعتذر، لم تأتِني الدورة الشهرية، لا أعلم ماذا أفعل".
توضّح أنها لا تريد الاحتفاظ بالجنين:
"تتفاقم الأيام يوماً بعد يوم. الحلّ الوحيد هو إسقاط الجنين. وهذا مع الأسف يحتاج إلى ثلاثمائة وخمس تومان. ذهب المال لأمور أخرى. والآن أشعر أنك لا تحبني ولو ذرة، لأنني وبرغم كلّ تحذيراتي لك وقعتُ في مثل هذا الأمر. أنت تعرف جيداً حجم هذه المشكلة".
في نفس الرسالة تقرر أن تستعين بأختها للحاجة الماسة في إسقاط الجنين. تكتب:
"عزيزي مهدي يمكنني القيام بأمر آخر. إمّا أن أقتل نفسي أو أن أطلب من پَري -أختها- أن تساعدني في إدخال خرطوم لأصاب بنزيف وأذهب إلى مستشفى (حكومي) وأسقط الجنين".
"مهدي الطيب، لو كنتُ تستطيع القدوم إلى طهران لسهلت الأمور. على الأقل حين أنزف، كنا سنذهب سوياً إلى المشفى، أو تبقى مع لونا في البيت"... رسالة أفسانه إلى مهدي
تكمل في الأيام التالية:
"مهدي الطيب، لو كنتُ تستطيع القدوم إلى طهران لسهلت الأمور. على الأقل حين أنزف، كنا سنذهب سوياً إلى المشفى، أو تبقى مع لونا في البيت... إن أحضرت لي پَري الأنبوب سأنزف، وإن ذهبت إلى المشفى سأحتاج على الأقلّ سبعين أو ستين توماناً. لا أعلم ماذا سأفعل. أدعو الله أن تصل الرسالة لك بسرعة لتبعث لي المال، وإلا سيبقى الطفل".
يكتب مهدي بعد أربعة أيام على مرور تاريخ آخر رسالة من أفسانه موضحاً أنّ الرسائل قد وصلت له كلها دفعة واحدة بسبب مشكلة في البريد، ولكنه استطاع إرسال مبلغ:
"يا عزيزتي وضعي الاقتصادي سيء، لأنني استلمتُ راتبي هذا الشهر بمبلغ 267 توماناً. أرسلتُ منها 100 تومان إليك وما تبقى هو من أجل دَيني".
يكتب عن وضعها النفسي والحمل:
"لقد نحفت جداً في الأيام الأخيرة. ليتني أنا من أُصبت، كيلا أراك في مثل هذا الوضع. أفكر كثيراً في كلامِك وجهلي، وألعن نفسي... بالنسبة لجملتك عن إنهاء حياتك، لو حدث ذلك، لا سمح الله، لو اقتُلعت شعرة من رأسك، فماذا سأفعل؟ على أي حال لقد قررتُ بعد إسقاط الجنين أن أحضرك مع لونا بقربي".
تكتب أفسانه مباشرة:
"يا عزيزي، مهدي، لقد جننتُ بك. أنا أعبدك وأعشقك. سأحتاجك إلى الأبد"
"يا عزيزي أنا سعيدة جداً بالمبلغ الذي أرسلته. في النهاية أحضرتْ لي پَري الأنوب، ونزفت قليلاً البارحة. ثمّ خرج الأنبوب مني وأعدتُه للداخل. لا تعرف حجم الألم يا عزيزي. ذهبت اليوم إلى المشفى النسائي. فحصوني. قال الطبيب إذا اشتدّ النزيف عودي".
ثمّ انتبهت إلى أنها قد تكون مخطئة، فكتبت:
"قررتُ الانتظار حتى الغد. تقول پَري إذا لم يزد النزيف، فمعناه أنك لستِ حبلى. وعلى ذلك سآخذ سونوغرافي يوم السبت. إذا لم يزد نزيفي لن أذهب إلى المشفى".
ثم تنتبه إلى أنها مخطئة منذ البداية، وأنها ليست حبلى، وقد تأخرت دورتها الشهرية وحسب. تشكره على تفهمه ومرافقته لها، وتختم رسالتها بحبّها لزوجها:
"يا عزيزي، مهدي، لقد جنُنتُ بك. أنا أعبدك وأعشقك. سأحتاجك إلى الأبد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...