أخطو بتأنٍ وعجلة في آن، وأحاول عدم تأمّل المساكن المتداخلة كي لا أظهر بمظهر السائح. متر وتسعة وخمسون سنتيمتراً. هل ازددت طولاً فجأةً؟ أأخذتني قدماي عالياً أم أنّ سماء مخيّم شاتيلا في بيروت هبطت على رؤوس من فيه. الأسلاك وإمدادات الكهرباء تعلو مسافة ذراع واحدة. عادي؟ يبدو أنه أصبح كذلك. خطوة سريعة منّي. رذاذ يتطاير. دماء. اتسعت عيناي بذعر.
نظرت إلى جانبي، محمد هناك، الشاب السوري القاطن في المخيم يرافقني في جولتي هذه. أتساءل: ألم يرَ ما رأيت؟ أظنّه لم يفعل. أعود لأدقق النظر، إنه هناك، أحمر مائل إلى السواد، ولزج. أغلق عينيّ بسرعة، أشدّ الجفنين، ثم أفتحهما. مجرّد ماء متجمّع في تجاويف الطريق، ممزوج مع خليط التراب وفضلات البسطات والحوانيت وغبار المارّة.
ماذا يحصل لي؟ هلوسات؟ أم أن التاريخ عاد بي إلى الوراء؟ أم أنه حيّ فيّ. حيّ فينا. هكذا كان المشهد عندما حدث ما حدث، في المجزرة، أطوف في المكان، كلّ شيء ثابت، الجثث من أمامي ومن حولي لم تزُل، ولن تزول.
أنظر إلى الحافة عند حانوت للخياطة، لا اسم، ولا لافتة. ماكينة وقماش ظاهران من الداخل عبر الزجاج المتّسخ. يعود النظر إلى الأسفل نحو الحافة. أتساءل: من الذي كان ممدداً عليها؟ كيف مات؟ برصاصة إعدام؟ مِن أمام أم من خلف؟ أم تفنن القتلة في ذبحه ثم تركوه ينزف ليمتزج الدماء مع تراب أرض غرّبت كل من عليها؟
أعود لأركز تفكيري في ما أفعل. وما الذي أفعله حقاً؟ ما هو الدافع لوجودي هنا اليوم؟ الأرقام؟ كل الأرقام معروفة، تملأ المقالات والتقارير التي أُعدّت بعد يوم 16 أيلول/ سبتمبر 1982: أكثر من 2،000 شهيد من الفلسطينيين واللبنانيين قتلتهم ميليشيات الكتائب اللبنانيّة بقيادة إيلي حبيقة، وجيش لبنان الجنوبي بقيادة سعد حداد، تحت عيون وتغطية القوّات الإسرائيلية التي أنارت لهم السماء بالقنابل المضيئة، بينما كان كما قيل أرييل شارون يشاهد بحماسة الأحداث من أعلى أحد المباني في منطقة السفارة الكويتية المطلّة على المخيّم.
تجسيد التاريخ
في الواقع، أريد محسوساً لخيالي، أريد تجسيداً لما قرأت وشاهدت من وثائقيّات عن جريمة حدثت على بعد كيلومترات قليلة من مسكني. في مدينتي التي امتلأت روزنامة أّيّامها بالمفاجع. أريد سبر غور التاريخ، تاريخنا.
في طريقنا إلى مركز الهلال الأحمر في المخيّم، شوارع وأزقة بالكاد تتسع لثلاثة مرتجلين في صف أفقي واحد. أنّى يتدفق كل هؤلاء الخلق؟ دراجات نارية، أطفال، كبار، نساء، رجال، الكلّ مسرعون، إلى أين؟ أنا الغريب، أنا المُستغرَب، لكن لا وقت للتدقيق في أمري.
في الواقع، أريد محسوساً لخيالي، أريد تجسيداً لما قرأت وشاهدت من وثائقيّات عن جريمة حدثت على بعد كيلومترات قليلة من مسكني. في مدينتي التي امتلأت روزنامة أّيّامها بالمفاجع.
قبل وصول محمّد، رفيقي في هذه الجولة، كنت أمشي في "شوارع" المخيّم. عندما توقفت إلى جانب بسطة للأدوات المنزلية، أنتظر عبور الناس كي أستطيع المرور بدوري من الجهة المقابلة لهم، انتظرت طويلاً، ثمّ فهمت. لا وقت للانتظار، عليك أن تشقّ طريقك بيدك. أو بالكتف. يقول غسان كنفاني: "إذا أردت شيئاً فخذه بذراعيك وكفيك وأصابعك". رميت نفسي كما يفعلون، وصوّبت كتفي تجاه كتف الآتي قبالتي، وعبرت.
في طريقنا إلى المركز، مررنا بجانب مدفن للشهداء. دخلت، وحملت الهاتف لأصوّر. التقطت بعض الصور من مختلف الزوايا. أحاول إظهار أكبر كمّ من المساحة في الصورة. لا مكان لقبور مفردة. مساحة واحدة للكلّ. لا شواهد للقبور، ولا أحواض للزهور، إنّما باقة كبيرة في المنتصف وصور ولوائح بأسماء من رحلوا معلّقة على الجدران.
"شهداء" أمل
لا أدري ما أفعل. أنتحب؟ أدوّن الأسماء؟ أحفظ الأوجه والملامح علّي ألمح طفلاً من نسل هذا أو ذاك؟ وهل بقي لهم نسل؟ تدخل حاجة تسأل ما نفعل. سمراء أتعبتها السنوات. لكنها لم تتعب ابتسامتها. قلت لها: "هؤلاء شهداء مجزرة صبرا وشاتيلا يا حجة، أليس كذلك؟"، هزّت رأسها نافيةً: "لا هون شهدا أمل".
لم أفهم. حدّقت فيها مستغربةً العبارة. كأنها فهمت سؤالي قبل أن أطرحه، فسارعت بالشرح: "شهداء حرب المخيمات، اللي قتلتن حركة أمل". قالت: "شهداء صبرا وشاتيلا الذين قُتلوا على يد الكتائب مدفونون في أرض واسعة عالرحاب يغطيها العشب، تقع في الجهة الأخرى للمخيّم". وعادت لتؤكد عبارتها بعد أن تأكّدت من أنني فهمتُها: "هون شهدا أمل".
سألتها: أيّ المجازر شهدتِ وأيّ الحروب؟ مجزرة صبرا وشاتيلا أم حرب المخيّمات؟ ردّت بابتسامة ملؤها الشجن وهي تمشي على مهلٍ لتعذّر مشيتها، "الإتنين". وتابعت بمحاولة منها لمواساتي: "الحمد لله وين كنّا ووين صرنا"
للذين خسرناهم مسميات مختلفة. شهداء، ضحايا، فدائيون، ومخرّبون، ولو كانوا أطفالاً. أمواتنا موزعون على مدافن بحسب "مناسبات" الموت التي خطفتهم من أحضان أحبتهم، أو خطفتهم وأحبتهم من أحضان الحياة. بقيت تحدثني، ولم أنصت. غبت في العدم. لا شيء سواه يساعدني على احتمال بشاعة ما أرى وأسمع.
وصلنا إلى المركز، لا كهرباء. "الدولة بتيجي ساعتين، والموتور غالي كتير"، يقول لي محمّد، "فيبقى معظم أهل المخيّم بلا كهرباء من الساعة الـ3 بعد الظهر إلى الساعة الـ12 عند منتصف الليل".
ملجأ "أبو ياسر"
المركز معتم، وموحش. طرقنا بابين، ودخلنا من الثالث. لا أحد. عندها فُتح باب وخرجت الحاجة آمنة 59 عاماً، وهي ممرضة تعمل في مركز الهلال الأحمر في مخيم شاتيلا، فلسطينية عاشت وكبرت هنا، وعملت في صباها في مستشفى غزّة، حيث شهدت أهوال المجازر التي كان هذا المخيّم ساحةً لها.
سألتها عن ملجأ "أبو ياسر"، حاولت المساعدة، لكن كثافة الذكريات حالت بينها وبين تحديدها. سألتها: أيّ المجازر شهدتِ وأيّ الحروب؟ مجزرة صبرا وشاتيلا أم حرب المخيّمات؟ ردّت بابتسامة ملؤها الشجن وهي تمشي على مهلٍ لتعذّر مشيتها، "الإتنين". وتابعت بمحاولة منها لمواساتي: "الحمد لله وين كنّا ووين صرنا".
هل يختلف الخوف بين مجزرة وأخرى؟ هل يختلف القاتل؟ عدنا إلى بحثنا. "ملجأ أبو ياسر؟ مش قصدكم ملجأ علي أبو طوق؟"، تسألنا آمنة مستفهمةً، وحاولت مساعدتنا للعثور على الملجأ، وتبيّن لنا لاحقاً بعد حديثنا مع أحد المسؤولين في المخيّم، أن ملجأ علي أبو طوق بُني بعد المجزرة ليستخدمه الناس ملاذاً في حرب المخيمات. هذا الملجأ هو الآن مساحة يستخدمها اثنان من أهل المخيّم لتعليم وإقامة حلقات الدبكة الفلسطينية.
أما ملجأ "أبو ياسر" الشهير، الذي سيق الناس، كبار السنّ والشبان والنساء والأطفال إلى خارجه ليُذبحوا، هو الآن مطمور بعدما دُفن فيه من كانوا فيه أحياء ليلة السادس عشر من أيلول/ سبتمبر 1982، ثمّ رُميوا فيه أكواماً. دُفن بقية الشهداء جميعاً في مقبرة جماعية هي الآن مجاورة لملجأ "أبو ياسر" المطمور.
سلّموا تسلموا
تروي آمنة عن بدء العمليّة، عندما طوّقت القوّات الإسرائيليّة صبرا ومخيّم شاتيلا، قبل دخول الميليشيات اللبنانية إلى المخيّم. بدأ الإسرائيليّون بدعوة السكان: "سلّموا تسلموا"، بحجة التأكّد من خلوّ المخيّم ومحيطه من الفدائيين والمسلّحين بعد إجلاء مقاتلي منظمة التحرير بقيادة ياسر عرفات من لبنان. اجتمع وجهاء المخيّم الأربعة، ومن بينهم والد آمنة، وقرّر ثلاثة منهم أنّهم سيذهبون للتفاوض مع الإسرائيليين. رفض والدها قائلاً: "هذا جنون، حدا بيتفاوض مع الإسرائيلية، ما بيردو عحدا". أبو أحمد سلامة، وأبو أحمد حمشي، وأبو محمد سعد، ذهبوا رافعين الرايات البيض في محاولة منهم لحماية المخيّم ومن فيه. لم يعودوا، ولم يعرف أحد عنهم شيئاً.
ملجأ "أبو ياسر" الشهير، الذي سيق الناس، كبار السنّ والشبان والنساء والأطفال إلى خارجه ليُذبحوا، هو الآن مطمور بعدما دُفن فيه من كانوا فيه أحياء يوم المجزرة، ثمّ رُميوا فيه أكواماً
حدّثتني آمنة عمّا شاهدت وسمعت. عن اغتصاب النساء والعذارى. عن عقر البطون. جارتهم التي لا تزال على قيد الحياة خسرت أختها الحبلى في المجزرة، حين دخل عليها المسلّحون وأخرجوا طفلها من أحشائها بعد شقّ بطنها. وتركوها لتموت. وعن بيت عمّها، الذين استطاعوا الهرب، وحين عادوا وجدوا بلطةً مزروعةً في عرض المنزل، تقول آمنة: "تركوها عن قصد، ليقولوا لنا إنهم موجودون".
الحاجة فاطمة، لبنانية، تبلغ من العمر 80 عاماً، لها 11 ولداً، ربّتهم وهي تركض من المخيّم تارةً، وإلى المخيّم تارةً أخرى. "احترق البيت وتهدّم ورجعنا عمّرناه أكثر من عشر مرّات"، تقول. لم تكن وأطفالها في المنزل عند دخول الكتائب وفعلهم ما فعلوا. لكنّها عادت وطفلها الصغير الذي كان يبلغ حينها سنتين من عمره. تستذكر دخولها من سوق الخضار. رأت عجوزاً يرتدي "الشروال"، متعكزاً على عصاه وهو يصيح ببائع يحاول فرد بضاعته: "جايين تبيعوا وتشتروا وأمّة محمّد اندبحت متل الغنم". ركضت إلى البائع تواسيه قائلةً: "الله أعلم ما الذي رآه هذا العجوز من أهوال ليقول ما قال".
الأسئلة المستمرّة
لم تكن قد وصلت أنباء المجزرة بعد. الناس علموا وأحسّوا بأنّ شيئاً ما كان يحدث. لكنه محال على الخيال أن يصل إلى مثل ما جرى. قررت الحاجة فاطمة يومها المضيّ قدماً في طريقها إلى منزلها لاستكشاف ما حدث. "لحقت العجوز لأسأله شو صاير يا عمّي؟"، وكان أوّل ما رأته أباً وابنته، جثتين، جنباً إلى جنب في الطريق. "مشيت خطوتين أخريين، ونظرت جانباً، فرأيت جثّة امرأة، صدرها مكشوف ورضيعها بين ذراعيها. مات وهو يرضع من ثدي أمه".
في منزلها المتواضع التي أصرّت على الحفاظ عليه، جلست أسمع أهوال ما مرّت به وعايشته، وهي بين الفينة والأخرى تمازحني وتضحك. بعناق وقبلة ودّعتها وعائلتها بعد الشكر على حسن الاستضافة بالرغم من تطفّلي. خرجت من المخيم، ثم قطعت حدود صبرا إلى أرض جلّول. في طريقي إلى منزلي، أسئلة تتقاطع وتتوازى.
أسترجع كلّ من رأيت وحدّثت. الحاجة في مقبرة شهداء أمل، والحاجة آمنة، والحاجة فاطمة. تذكرت شاباً ظهر في أحد التقارير التي شاهدت عن المجزرة، وكان اسمه ماهر. تعابيرهم مجتمعة ارتسمت أمامي. أعينهم تحملق بي. يحكون البلوى وكأنها حدثت لغيرهم. يصفون المشاهد المروّعة، بهدوء. أليس حريّاً بهم أن يذرفوا الدموع كلّما ذكروها؟ هل ذرفوها أصلاً عندما حدثت حينها؟ عندها تنبهت. لا وقت للبكاء والنحيب. لا وقت للانتظار.
عرفت لماذا ذهبت. مذ قرأت عمّا جرى، أحسست بالمسؤولية، بمسؤوليتي عن هذا الإرث. كلّ ما حدث وما يحدث هنا في بلادنا هو مسؤوليتي أيضاً. أردت أن أرى لأكتب، فالسكوت تسليم، والمسلّم والقاتل سيّان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...