مدفوعين -ولا شك- بالنوايا الطيبة، ورغبةً منهم في الرد على قرار عزل أستاذة الأدب الإنكليزي منى برنس، من وظيفتها الجامعية، حاول كثيرون استعراض "الجرائم الحقيقية" التي قالوا إن بعض أساتذة الجامعة الآخرين يرتكبونها، على غرار زيادة أسعار الكتب الجامعية على الطلاب، والاكتفاء بالشرح في الدروس الخصوصية، بدلاً من مدرجات الجامعة، و"اقتباس" رسائلهم الجامعية من رسائل أخرى، واعتماد الواسطة بدلاً من الكفاءة في تعيينات المعيدين الجدد، فضلاً عما يقع تحت طائلة القانون الجنائي (إذا ما تم إثباته)، كجرائم التحرش الجنسي، و"التودد" إلى الطالبات الجميلات.
تفترض هذه الطريقة في التفكير، أن هناك "جريمةً" ارتُكبت، من قبل برنس، مهما كانت متناهية الصغر.
حتى إن كان كل هذا وغيره صحيحاً، إلا أن الأثر الحقيقي لعملية تذكّره والحديث عنه الآن، بعد حكم المحكمة بعزل برنس، هو تصوير أسباب عزلها (الرقص فوق سطح بيتها، والحديث مع الطلاب بصورة مختلفة عن الشيطان!)، وكأنه "جريمة صغيرة، أو هامشية"، في مقابل "الجرائم الحقيقية" التي يرتكبها أساتذة آخرون، وكأننا في صدد استلهام التصور الشعبي التقليدي عن الفارق بين "سارق الخبز وسارق الملايين"، كما عبّر عنه نجيب سرور في أشهر قصائده "تسرق شلن تبقى هيصة وبلوة وجريمة/ تسرق أُلوف الأُلوف تبقى م الأبطال/ وكل ما السرقة تكبر/ القانون سيما/ وكل ما السرقة تصغر/ فيه حرام وحلال"
تفترض هذه الطريقة في التفكير، أن هناك "جريمةً" ارتُكبت، من قبل برنس، مهما كانت متناهية الصغر، في مقابل جرائم كبرى يتم التغاضي عنها أو التواطؤ معها، وأن الفساد الذي نحن في صدده، ليس فساد تحويل التصرفات التي حوكمت برنس بسببها إلى جريمة من الأصل، وإنما هو فساد التركيز المبالغ فيه على الجريمة الأصغر، مكتشفين فجأةً أن "فيه حراماً وحلالاً".
يبدو إذاً، ومبدئياً، أن أحداً غير قادر على الدفاع عن الرقص في ذاته، كفعل بشري طبيعي، فطري، تتعلمه الأجساد قبل أن تتعلم الكلام، ويمارسه البشر في المدن والسواحل والغابات والصحارى، في المناسبات الحزينة والفرحة، في سن تعلم المشي وفي سن الاعتماد على العكاز
تنتمي إلى ذلك المنطق نفسه، وإن بصورة أقل قليلاً، محاولات التهوين من حجم "جريمة" برنس، أو إيجاد ثغرات قانونية لصالح الأستاذة الجامعية (التي حوّلتها المحكمة إلى أستاذة سابقة)، كالقول إن منى لم ترقص في الجامعة بل في بيتها، أو إنها لم ترسل فيديو رقصها إلى أحد، بل نشرته على صفحتها الشخصية، وتصل تلك المحاولات إلى درجة تحليل درجة "احتشام" الرقص نفسه، أو الملابس التي كانت ترتديها برنس في أثناء الرقص، من أجل استخلاص نتائج "راقية"، تتحدث عن الرقص المبهج، لا الخلاعي، والزيّ التقليدي، الفلكلوري، لا الكاشف أو الموحي.
هذه "الدفاعات"، على إخلاص نواياها، تعبّر عن مشترك كبير بين أصحابها، وبين أصحاب قرار التحقيق مع برنس، وأخيراً مع القانون الذي عزلها. إذ يبدو أنه ليس هناك خلاف بينهم جميعاً على أن منى قد ارتكبت خطأً ما، والمسألة بعد ذلك نسبية، تتعلق بالسياقات والأولويات والانحيازات.
أما التفكير الحر، أما التفكير في حد ذاته، فهو جريمة أخرى لا تقل عن جريمة الرقص، وليس مسموحاً للعقل ما ليس مسموحاً للجسد، والعكس صحيح.
يبدو إذاً، ومبدئياً، أن أحداً غير قادر على الدفاع عن الرقص في ذاته، كفعل بشري طبيعي، فطري، تتعلمه الأجساد قبل أن تتعلم الكلام، ويمارسه البشر في المدن والسواحل والغابات والصحارى، في المناسبات الحزينة والفرحة، في سن تعلم المشي وفي سن الاعتماد على العكاز. بدا الرقص فجأةً عاراً، وفعلاً لا يجوز، ولا يليق بأستاذ جامعة (وبمن أيضاً؟ يمكن أن نتخيل الكثير من الوظائف في بلادنا التي ترفض "العار" نفسه). هل هو الانتصار الشامل لأيديولوجيا الموت؟ إنها وإن كانت، لا تستطيع منع الفرح، فهي تشذّبه (تخصيه؟)، وتعزله داخل مناسبات محددة، فيحق للأب والأم، مثلاً، أن يرقصا فقط في أعراس الأبناء. أما في غير ذلك فـ: "عيب على شيبتك/ عيب على سنّك". هكذا يصبح الدافع الرئيسي لمعظم الزيجات في بلادنا أن العائلة "نِفسها تفرح"، لأن الفرح ممنوع خارجها، خارج المناسبة زمنياً، وخارجها مكانياً أيضاً. في الشارع مثلاً؟ عيب! الشارع للتجهم والغضب ومشاجرات السائقين.
غير أن المحكمة لم تعاقب برنس فقط بتهمة "الرقص في العلن وتشجيع طلابها على ذلك"، بل أيضاً لاتهامها بـ"نشر أفكار هدّامة تخالف العقائد السماوية والنظام العام، وذلك لما قالته للطلاب في المحاضرات، بالطعن في ثوابت الدين بقولها: لقد تعرّض إبليس للظلم".
إذاً، لم تكتفِ أستاذة الجامعة بالرقص، بل كذلك أسمعت طلابها أفكاراً على النقيض مما ظلّوا طوال حياتهم يسمعونه. ولأن جامعاتنا ليست إلا مدارس كبيرة، فإن ما يُنتظر من أساتذتها هو مواصلة التلقين الذي تلقّاه الطلاب في مدارسهم. أما التفكير الحر، أما التفكير في حد ذاته، فهو جريمة أخرى لا تقل عن جريمة الرقص، وليس مسموحاً للعقل ما ليس مسموحاً للجسد، والعكس صحيح.
إذا كان تصرّف الجامعة مع أستاذتها كما رأينا، فماذا ننتظر من تصرّف القانون. هل المسألة إذاً -كحجة أخيرة- هي ضرورة التزام الوقار واحترام "التقاليد الجامعية"؟ إنها حجة تسخر منها، في العالم الآخر، عذابات نصر حامد أبو زيد وطه حسين
جاء في نص حكم المحكمة: "حرية الاعتقاد مكفولة طالما ظلت حبيسةً في النفس دون الجهر بما يخالف الأديان السماوية". من البديهي أن تلك العبارة (التي أعلن بعض المحامين أن في القانون ما هو أسوأ منها حتى)، تعني عملياً إلغاء حرية الاعتقاد، إذ إن ما لا يمكن التعبير عنه لا يمكن عدّه موجوداً. لكن إذا كان تصرّف الجامعة مع أستاذتها كما رأينا، فماذا ننتظر من تصرّف القانون.
هل المسألة إذاً -كحجة أخيرة- هي ضرورة التزام الوقار واحترام "التقاليد الجامعية"؟
إنها حجة تسخر منها، في العالم الآخر، عذابات نصر حامد أبو زيد وطه حسين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...