ودّع الإيطاليون عام 1976، إرثهم البحري العملاق بدموع الحسرة، إذ شهد هذا العام الإبحار الأخير لليختين التوأمين "مايكل أنجلو" و"رافائيل"، من ميناء لاسبيتسيا في شمال غربي إيطاليا نحو مينائي عباس وبوشِهر في جنوب إيران.
لم يتخيل الإيطاليون أن تفتك بهم الأزمة الاقتصادية الناجمة من صعود أسعار النفط في منتصف سبعينيات القرن الماضي، ليبيعوا سفنهم الرئيسية، والتي كلفت ما مجموعه 90 مليون دولار عام 1965، مقابل 4 ملايين دولار بعد عقد من الزمن.
ومن اشترى ذينك اليختين المتطابقين والمتقدمين تكنولوجياً آنذاك، واللذين كانا رمزاً لتاريخ الصناعة البحرية الإيطالية، لم يكن سوى شاه إيران.
قصة تشييد اليختين
في بداية ستينيات القرن الماضي ونظراً للازدهار الاقتصادي وزيادة الحركة البحرية والحاجة إلى وظائف للبحارة الإيطاليين، خطط المسؤولون في الخطوط الملاحية الإيطالية لبناء أكبر السفن وأحدثها بتاريخ البلاد.
نمت حينها السفن الجديدة من 35000 طن مخطط لها في الأصل إلى ما يقرب من 46000 طن، ومن أول السفن تلك وآخرها في ذلك العهد سفينة كانت "مايكل أنجلو"، (Michelangelo)، وتوأمها "رافائيل" (Raffaello)، حيث خُطط لهاتين أن يكونا باخرتين خاصتين بالمحيطات.
من الناحية الفنية كانت السفينتان من بين أكثر السفن تقدماً في وقتهما، تميزتا بأجنحة مثبتة قابلة للسحب، ولوحات هندسية حديثة للغاية، كما كانت التصميمات الداخلية لهما على طراز الفن الزخرفي أي "آرت ديكو"، عمل على ذلك أبرز المهندسين المعماريين الإيطاليين، لتكتسب السفينتان تصميمات داخلية مستقبلية منفردة.
من الناحية الفنية كانت السفينتان من بين أكثر السفن تقدماً في وقتهما، تميزتا بأجنحة مثبتة قابلة للسحب، ولوحات هندسية حديثة للغاية، كما كانت التصميمات الداخلية لهما على طراز الفن الزخرفي أي "آرت ديكو"، عمل على ذلك أبرز المهندسين المعماريين الإيطاليين
بعد سنوات من العمل أصبحت السفينتان جاهزتين للخدمة عام 1965، وبدأتا رحلاتهما من ميناء جنوة نحو ميناء نيويورك والعكس، مذهلة بذلك ليس الإيطاليين فحسب، بل الدول الغربية أجمع، كما كان ينظر لهما كأثرٍ خالد قابل للإطراء.
سجل المخرج والممثل الإيطالي ألبرتو سوردي، فيلم " Help Me, My Love"، عام 1969، على متن كلا اليختين، وذلك للترويج لهما، ولكن حركة المرور عبر المحيط الأطلسي أخذت نحو الانخفاض، بينما الرحلات الجوية شرعت في الازدياد غير المسبوق، عقب نموّ صناعة الطيران.
عصر الطائرات ينهي عصر السفن
قلّ ركّاب السفينتين والمسافرون عبرهما، بينما استمرتا هما بالعمل حتى أن تعرضت "رافائيل" لأخطر حادث في مسيرتها، عندما اصطدمت بناقلة نفط نرويجية قبالة الساحل الجنوبي في إسبانيا عام 1970.
وبقيت الحركة البحرية سارية بين الحين والآخر حتى تدهور اقتصاد روما إثر صعود أسعار النفط، فزادت من تصاعد وتيرة تكاليف السفن، وأعلنت الحكومة عام 1975 عن عجزها في منح السفن الوقود المدعوم، لتكون الضربة القاسية الأخيرة لنهاية حياة اليختين، فقررت حينها شركة الخطوط البحرية بيع الأتوأمين "مايكل أنجلو" و"رافائيل".
تم فحص هاتين السفينتين من قبل العديد من المشترين المحتملين، على الرغم من تكاليف إعادة البناء الكبيرة، إلى أن أعلن شاه إيران عن رغبته في شرائهما، ما قبل به الخطُّ الإيطالي. وفي نهايات عام 1976، أبحرت التوأمتان نحو مياه الخليج، وما إن وصلتا لإيران افترقتا إلى الأبد، فرَست "مايكل أنجلو" في ميناء عباس، و"رافائيل" في ميناء بوشهر.
في ربيع عام 1977، أذهل سكان بوشهر بوجود سفينة عملاقة بيضاء في الميناء. لم يكن أهالي ميناء بوشهر غرباء أمام مشاهد السفن ووجودها، غير أن سفنهم والسفن الأجنبية التي كانت ترسو على شواطئهم لم تكن بهذا الحجم قط، ولا بهذا البهاء، ولا حتى بهذا اللون الفاتح الأخاذ.
تعامل الإيرانيين مع إرث الإيطاليين
كانت السفينة تحت ملكيّة القوات البحرية، فلم يكن مسموحاً لأحد دخولها، ويذكر الكاتب البوشهري رسول غريبي لرصيف22: "ارتفاع رافائيل كان أعلى من مدينة بوشهر، فكانت تتسنى فرصة مشاهدتها للجميع، وأما إضاءة السفينة عند حلول الظلام، فكان يمنح الميناء جمالاً مميزاً".
تدافع السكان على الساحل لمشاهدة الضيف العملاق الجميل، والتقاط الصور معه، حتى بات معلماً من معالم المدينة السياحية، ويصف لنا رسول: "بعد فترة من إرساء السفينة سمحت القوات البحرية لتلامذة المدارس بزيارات تفقدية لمتن اليخت دون استخدام إمكانياته".
يبلغ طول السفينة 276 متراً وعرضه 31 متراً، ويتسع لنحو 1800 شخص كفندق بحري، ويضم 750 مقصورة وستة مسابح، و18 مصعداً، و30 قاعة متنوعة، وعشرات المطاعم، وصالة عرض تستوعب 500 مقعد، ونواديَ رياضية متعددة، مع وجود طاقم بـ700 شخص.
وكان قد أمر الملك محمد رضا شاه البهلوي، أن تبقى رافائيل وأختها مايكل أنجلو طرادتين فخمتين وسياحيتين تبحران في مياه الخليج فحسب، لكن المتخصصين الإيطاليين الذين جاؤوا لتقييم حالة السفينتين أدركوا أنهما متهالكتان بحيث لا تجعلان إعادة الإعمار مجدية من الناحية المالية، فباتت رافائيل ضيفة دائمة على شواطئ بوشهر، وقام الأهالي بتسميتها بـ"عروس الخليج"، لتصبح جزءاً من هوية المدينة.
اليخت منام الضبّاط
"قررت القوات البحرية أن تجعل السفينة مقرّاً مؤقتاً لإقامة ضبّاطها الذين يتوافدون من أرجاء إيران، وذلك لأنها كانت عابرة للمحيطات، ولاتصلح للإبحار في مياه الخليج فحسب، كما أن ممر مرفأ بوشهر لم يكن يستوعب سفينة بذلك الحجم"؛ هكذا شرح لنا الباحث رسول غريبي.
في أواخر عام 1979 انتصرت الثورة الإسلامية، واستطاع بعض السكان الدخول إلى رافائيل، ومشاهدة ما تتمتع به السفينة من إمكانيات، والتي كانت بمثابة رمز الإيطاليين وقدراتهم الفائقة في الصناعة البحرية.
ثم وإثر حرب الخليج الأولى، تم تغيير مراسي السفينة، وعن هذا القرار يقول رسول: "كانت السفينة ترسو في بداية ممر المرفأ، بينما كان موقع تواجد القوات البحرية عند نهاية المرفأ، وإن كانت تُقصف السفينة فكان سيغلِق حطامها المرفأ الصغير".
في عام 1983، وخلال الحرب العراقية الإيرانية، قصفت المقاتلات الحربية العراقية، سفينةَ رافائيل أكثر من مرة، وألحقت أضراراً جسيمة بها، حتى غرقت جزئياً في المياه الضحلة أمام مفاعل بوشهر النووية.
بعد سنوات، ارتطمت سفينة شحن إيرانية بالحطام بشكل عرضي ومفاجئ، وأكملت عملية تدميرها التي شهدتها خلال الحرب، فظلّت رافائيل على تلك الحال إلى أن غرقت تماماً بعد ما غازلت الأهالي لسبع سنوات على سطح الماء، فيحدثنا رسول: "شواطئ بوشهر رملية، وليست صخرية، وهذا ما تسبب بغرق السفينة بشكل كامل. بقيت أبراج اتصالات رافائيل فوق المياه حتى تسعينيات القرن الماضي، إلى أن اختفت بعد ذلك شيئاً فشيئاً".
تحولت سفينة رافائيل إلى موطن للحيوانات البحرية، لتؤكد اليوم مؤسسة البيئة الوطنية على أن السفينة باتت جزءاً من الحياة البحرية، ولا يمكن انتشال حطامها، رداً على الشائعات والصور المنتشرة قبل سنوات حول نهب السفينة من قبل بعض الانتهازيين، أو تسريب أخبار عن قرار الجيش في بيع حطامها إلى شركة أهلية.
ذكريات عروس الخليج ومصير أختها
لا ترى العيون اليوم سفينة رافائيل، لأنها اتخذت لنفسها مكاناً يبلغ سبعة أمتار تحت المياه الساحلية، غير أن اللافت هو ذكريات هذه السفينة الزاهية، والتي ما زالت عالقة في أذهان كثير من الأهالي الذين يتذكرونها بحنين.
لم ينس السكان ذكريات عروس الخليج، ومازالت ملصقات رافائيل تباع في الأسواق المحلية، كما أنشئ مطعم في بوشهر باسم "رافائيل"، ومطعم آخر في العاصمة طهران يحمل هذا العنوان ويقدم أكلات إيطالية وبوشهريّة استذكاراً لمبدأها (إيطاليا) ووجهتها الأخيرة (بوشهر).
أما الأخت الكبرى لها مايكل أنجلو، والتي كانت خامس أسرع سفينة ركاب في العالم في ذلك الوقت، فكان مصيرها الموت كذلك، هي التي تمتد لـ276 متراً، بشعاع 30 متراً، وبنفس المواصفات والإمكانيات التي كانت تمتلكها رافائيل.
رست سفينة مايكل أنجلو في ميناء عباس نحو 15 عاماً، وبعد أن جُردت من جميع ممتلكاتها، بيعت على شركة باكستانية في حزيران/يونيو عام 1991، فتم إلغاؤها في ساحة تكسير السفن في ميناء جاداني بباكستان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...