كثير من الناس يرحلون عن أوطانهم، إما مضطرين وإما بمحض إرادتهم، وقاطبتهم يكتبون عن رحلاتهم مستندين إلى الطريقة التي سافروا بها، فمن سافروا أحراراً كتبوا كالزوّار، ومن رحلوا مُجبرين كتبوا بمأساوية المهاجر، لكن محمود السعدني أحالَ غُربته لنُكات مُضحكة، وفلسف مشاهداته بسخرية الفلاح المصري الفصيح.
كثرت رحلات "الولد الشقي"، كما يحب أن يصف نفسه، ما بين السعي وراء لقمة العيش، والفرار ممن يبعدونه عن لقمة العيش في وطنه! وفي كليهما خرج منتصراً، بعدما طاف البلاد، شرقاً وغرباً.
القلم الجالب للمشكلات والشقاء
لم تخلُ رحلة محمود السعدني الصحفية والسياسية يوماً من الأشواك، فيقول في "مذكرات الولد الشقي": "فُصِلتُ ثلاث مرات من ثلاث صحف قبل الثورة. فصلني مرة تاجر حشيش دفع ألف جنيه للجريدة؛ لأني كتبت خبراً ضده، ولهَفَت الجريدة المبلغ، وكتبتْ في الصفحة الأولى (تقرر فصل محمود أفندي السعدني من هيئة تحرير الجريدة)... . وفُصِلت مرة أخرى من مجلة أسبوعية لأنني طالبت صاحب المجلة بمنحي أجري عن شهر كامل اشتغلته، وفُصلت مرة ثالثة من دار كبرى، لأني رفضت أن أشتري هدية بعشرة جنيهات لسيادة مدير التحرير. ولم أعرف طعم الاستقرار في الصحافة".
آمن السعدني بثورة يوليو، وعمل في الجريدة الناطقة باسمها "الجمهورية"، لكنه عانى كثيراً في عهد السادات، خاصة في الفترة التي عرفت بـ"ثورة التصحيح" عام 1971، فتم اعتقاله لعامين وأُفرِج عنه مع قرار بفصله من مجلة "صباح الخير"، وتم منعه من الكتابة، وغادر مصر، متنقلاً في البلاد شرقاً وغرباً، لكنه لم يفقد ساعة واحدة حسّه الساخر، ولم يخل سطر له من النكات!
رغم السخرية الواضحة في كلّ سطر كتبه السعدني، فإنه يحمل شجناً ينبع من الدوام من معاركه السياسية مع الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، فيقول السعدني في "مذكرات الولد الشقي": "أنا بطبعي رجل قلق لا أستطيع أن أعيش في مدينة واحدة طول العام، وأعشق السفر كتعبير عن حاجتي الشديدة إلى شيء مجهول! وأكثر الأصوات شجناً إلى نفسي صوت باخرة تقلع من الميناء في الليل، ويهزني بقسوة صفير قطار في الفجر، ودائماً أتمنى لو كنت واحداً من الذين يركبون فيه".
حملت رحلات السعدني طابعاً سياسياً مغلفاً بحسّه الساخر، فنجدها تكتظ بتعبيرات عن ضياع العروبة وسطوة حكومات أمريكا المتعاقبة على رؤساء الدول العربية، ولن نجد في كتاباته عن رحلاته إلا نذراً يسيراً عن تقاليد الشعوب التي زارها، أو وصفاً لمعالم هامة افتتن بها. كل ما شغله هو البُعد الصحفي والسياسي.
من "ابن بطوطة" لـ"ابن عطوطة"!
وجه الشبه بين الأب الروحي للرحالة، محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن يوسف اللواتي، المعروف بـ"ابن بطوطة"، وبين محمود السعدني، أن الأول "كان صحفياً، وإن كان ليس عضواً بنقابة الصحفيين، فلم يكن في زمانه صحافة ولا يحزنون. كان الشاعر هو الصحفي، وكانت غاية الشعر هي مدح الملوك والخلفاء والولاة وعساكر المرور!".
يرى السعدني أن العيب الوحيد في "ابن بطوطة" هو اسمه "فبطوطة من البط، والبط طائر لا يطير، شديد الكسل، شديد الوخم، غاية رحلته لفة في بحيرة أو نزهة في بركة أو بلبطة في ترعة"
لكن السعدني كان يرى أن العيب الوحيد في "ابن بطوطة" هو اسمه "فبطوطة من البط، والبط طائر لا يطير، شديد الكسل، شديد الوخم، غاية رحلته لفة في بحيرة أو نزهة في بركة أو بلبطة في ترعة"!
لذلك اختار الولد الشقي لوصف رحلاته اسم "ابن عطوطة"، باعتبار أن كلاً منهما له "رحلات وجولات وسفريات على اختلاف المكان والزمان"؛ فألف كتاباً كاملاً أسماه "رحلات ابن عطوطة" (مؤسسة دار الهلال، 1993)، وهي وفقاً لما أورده "من العط. الإنسان يعط حتى يزهق، وأحياناً يعط حتى يغمى عليه، وبعض الناس تعط وتعط حتى تضيع"!
تظل هناك بعض الخلافات بين السعدني ـ من وجهة نظره ـ وبين ابن بطوطة، أهمها أن الحدود في زمان ابن بطوطة "كانت سداح مداح، والبُساط أحمدي، والمزاج رايق، والرؤوس مرفوعة والأعلام أيضاً، والظهور مشرعة والسيوف أيضاً. وكان أمير المؤمنين يعطس في القاهرة فيقول له من في الدار البيضاء: يرحمكم الله (...) أما في زمان العبد لله، فلا حول ولا قوة إلا بالله. الجمارك في كل مكان من بلاد العرب، لا تنقض إلا على من يبدو من سحنته أنه من نسل قحطان، وصاحب الشرطة في بلاد العرب الجديدة لا يقتفي إلا أثر العرب الأغراب. ولن تجد في سجون العرب أحداً من صنف الألمان أو الطليان، فما بالك بصنف الإنجليز والأمريكان!".
العالم العربي بعيون الولد الشقي
زار السعدني عدداً لا بأس به من الدول العربية، سردها جميعاً في كتابه "رحلات ابن عطوطة"، فيحكي عن رحلته إلى طنجة، أنها جاءت في "قلب العواصف. كانت قمم الجبال في الجزائر تشتعل بالنار، وكان الملك محمد الخامس عائداً لتوه من المنفى، وتونس على عتبة الاستقلال، وكانت شعارات القومية مرفوعة، ورايات الثورة خفاقة، وطبولها تدق في كل مكان".
لكن الذهاب إلى بلاد المغرب العربي لم يكن يسيراً عليه، فقد بدأت رحلته "من القاهرة إلى روما، ومن روما إلى مدريد، ومن مدريد إلى طنجة، لأنه كان صعباً علينا نحن العرب أن نخترق أرض العرب. ففي ليبيا كانت هناك ثلاثة جيوش أجنبية: إنجليزية وفرنسية وأمريكية، والحدود بين مصر وليبيا مقفولة".
ويستطرد: "نزلنا طنجة في الليل، وكانت أبوابها مفتوحة على جهنم الحمراء، وفيها سبع حكومات، وسبعة حكام، وخمسون ألف عربي، ومئة ألف أجنبي كلهم جواسيس (...) الكل فرحان وسعيد وقابض ومسرور، إلا صنف العرب... آخر فقر وآخر بهدلة!".
وهناك في طنجة، أقسم السعدني أن يزور الجزائر المستقلة، بحسب وصفه في "رحلات ابن عطوطة"، فزارها دون دعوة، فذهب إلى تلمسان الجبل، لكنه ندم، فيقول : "ليتني ما ذهبت. حطت الطائرة في الجزائر، فاستأذنت وأخذت حقيبتي ونزلت. وعشت في الجزائر أسبوعاً في حالة اندهاش تام. كنت أود أن أُغنّي على كل شبر من أرض الجزائر وأبوس التراب. وعندما حان الرحيل (...) صعدت سلم الطائرة لأسمع صوتاً يناديني من الخلف يأمرني بالعودة مرة أخرى إلى المطار، واكتشفت أنني مطلوب للتفتيش تفتيشاً ذاتياً، وفعلوا بملابسي كل ما يشتهون: مزقوا ياقة قميصي وبطانة جاكتتي وثنية بنطلوني. كان واضحاً أنهم يبحثون عن ورقة أو خطاب، وعندما انتهوا من التفتيش كانت الطائرة قد غادرت إلى باريس".
"تركت اليمن، الذي ساء عن أحواله التي كان عليها في عهد سيدنا آدم"
لكن علاقة الولد الشقي بتونس كانت أكثر متانة، رغم قلة المدة التي قضاها بها، والسبب كان سياسياً من وجهة نظره، فيقول: "ميزة تونس أن الحزب الحاكم استطاع أن يفرض الأمن في كل مكان. كما أنها تخلو من أي مراسم في دوائر الحكومة. وتستطيع في أي وقت أن تقابل كاتب الدولة (الوزير) حتى بدون أسباب (...) الحبيب بورقيبة هو الزعيم الوحيد الذي يتحدث مع شعبه مرة كل أسبوع من خلال التليفزيون، حديثاً ليس في السياسة، ولكنه حديث شخصي كأنه جالس مع أقرب أصدقائه في البيت".
تلك المحبة لتونس والشوق لزيارتها مُجدداً لم ينله السعدني، في عصر السادات، أو كما يقول في "رحلات ابن عطوطة": "أحوال السياسة التعبانة حرمتني من زيارتها منذ ذلك التاريخ، فلم أشاهدها مرة أخرى منذ عام 1956".
ومن البلاد التي نالت نصيبها من سخرية السعدي، كان اليمن، الذي لم يكن سعيداً أبداً، أو كما يصفه في "رحلات ابن عطوطة": "تركت اليمن، الذي ساء عن أحواله التي كان عليها في عهد سيدنا آدم"، ويقول عن عمان: "كان السلطان سعيد بن تيمور لا يزال جاثماً على أنفاس شعبه، وإن كانت كلمة (شعبه) لا تليق بوصف المخلوقات التي كان يحكمها السلطان. لم يكن هناك شعب، ولا حتى رعايا، وخُيّل إليّ من أول نظرة ألقيتها على البلاد أن هؤلاء الناس مجرد أسرى طال بهم الزمن، وأن عمان ليست وطناً وإنما معسكر اعتقال كبير، وأن الداخل هنا مفقود، والخارج مولود، ولا حول ولا قوة إلا بالله"!
أما عن قطر فيقول في الكتاب ذاته: "وإذا كان أهل الإمارات يمتازون بالدماثة والسماحة والدهاء الشديد، فالقطري جاف الطبع، حاد المزاج. وهو فخور بتاريخه القديم بمناسبة ومن غير مناسبة. كان القطري يفخر بأنه من نسل قطري بن الفجاءة. وتسأل عن أمجاد القطري، يكون الجواب أنه من قطر، وأنه كان في رحلة إلى بلاد اليمن، ثم جاء فجأة إلى قطر، فسُمي فجاءة!".
الصعلوكي في بلاد الأفريكي!
قرر محمود السعدني الغوص داخل قارة إفريقيا، ووضع كتابه الترحالي الساخر "السعلوكي في بلاد الأفريكي". وعن هذا العنوان الغريب، يقول: "لأن هناك فارقاً كبيراً بين المعنيين. فالصعلوك كلمة عربية فخيمة لها رنين. كان العربي يتصعلك عندما تزجره القبيلة التي ينتمي إليها. تطرده من ديارها وتطارده كما الكلب الجربان وتهدر دمه فيصبح كما الوحش في الصحراء، من يلقاه يقتله، وله الأجر والثواب عند الله"!
ويضيف السعدني: "الصعلوكي إذن لا تنطبق على العبد للّه. ها أنا ذا راكب في طيارة ولا عمارة روزاليوسف. أنيقة كما المركب إيزيس، مريحة كما سيارة رولزوريس".
لتجربته في فرنسا، وضع السعدني كتاباً أسماه "حمار من الشرق"، كان عبارة عن حوار مُطول مع فتاة فرنسية، أبزر خلاله التناقضات بين مصر والدولة التي احتلتها قديماً
خلال تلك الرحلة، طاف السعدني بعدد من الدول، لكن أظرف ما قاله، هو وصف لحظة هبوطه لمطار دولة مالي، بقوله: "انفتح باب الطائرة الروسي الضخمة على أرض مطار باماكو، وكأنما انفتحت على بوابة جهنم... أعوذ بالله من هذا الشرد اللعين الذي يقصف الأعمار قبل أوانها، ويسوي الطفل كهلاً كما تسوي النار المُشعلة قطع اللحم وتدهنها بلون الفحم! الحرّ هنا في باماكو حرّ له وزن وله كثافة... حر محترم احترام كابتن كورة أحرز هدفاً في البرازيل، حَرّ له حيثية وله كيان وله وضع اجتماعي ممتاز"!
الغرب في مخيلة الفلاح المصري!
للسعدني في رحلاته عدة تجارب إلى الغرب، لكنها كانت منفذه الأثير لعقد مقارنات اجتماعية وسياسية بلغة ساخرة جذابة كعهده، خاصة التي يعقدها في مخيلته كتمهيد للمفاجأة التي سيلقيها على قرائه بعدما تطأ قدمه أرض هذه الدولة الأوروبية أو تلك.
لتجربته في فرنسا، وضع السعدني كتاباً أسماه "حمار من الشرق"، كان عبارة عن حوار مُطول مع فتاة فرنسية، أبزر خلاله كل التناقضات والتباينات بين مصر والدولة التي احتلتها قديماً!
مهّد السعدني لـ"حمار من الشرق" بمقدمة مثيرة للغاية بقوله: "أول مرة جئت فيها إلى باريس، تصورت أني قادم إلى الفردوس. الشوارع من البلور، والأرض من الزجاج، وحيطان البيوت من ذهب، والحدائق من شجر الجنة، وتصورت النساء من جنس آخر؛ الجلد زبدة، والدم قشطة، والكلام نغم موسيقى، خليط من أناشيد كاهن فرعوني، ومزامير داود، وتراتيل سماوية للشيخ رفعت. وتصورت نساء باريس بلا فضلات، لأن بطونهن بلا أمعاء، وأفواههن للهمسات والقبلات، وليس للمضغ والطحن وازدراد الفول"!
لكن تجربته في السفر إلى لندن، لها شأن خاص، كونه سافر إليها مُجبراً، في نهايات عهد السادات، ولم يعد إليها إلا بعد مقتل الرئيس، ورغم هذا يراها السعدي أحبّ البلاد إلى قلبه (بعد مصر بالطبع)، فيقول في كتابه "الموكوس في بلاد الفلوس": "إذا كان العبد لله قد ضاع وصاع وجاع في بلاد الله، مشرقها ومغربها، وبحريها وقبليها، فأشهد وأختم بالعشرة أنه ما دخل في مزاج حضرتنا بلد مثل لندن، ولا عشش في نافوخ سيادتنا مثل الحياة في بلاد الإنجليز".
لكن عاصمة الضباب لم تسلم من سخريته السياسية اللاذعة، فيقول: "حكمة الله أن الإنجليز كلاب خارج بلادهم، لوردات داخل حدودهم. والإنجليزي في الجنوب العربي كان يقتل كل صباح ألف عربي ولا يرتعش له رمش، ولا تطرف له عين، فاجِرٌ وقلبه من صوان، ولكن الإنجليزي في لندن يبكي دماً من أجل كلب جربان وسقعان"!
أوجع الضحكات ما ينتهي بالدموع
وكما يعتقد كثيرون بأن الساخر هو أكثر الناس حزناً من الداخل، لم ينسَ محمود السعدني على طول رحلاته أن يُعلي من قيمة الأوطان، ويرفع من شأن النضال من الداخل، فيقول في "رحلات ابن عطوطة": "تجنبوا اللجوء إلى أوطان الآخرين مهما كانت الشعارات براقة والكلام معسول".
ويفسّر الولد الشقي مبدأه، قائلاً: "يا ولدي لن تستطيع ولن يسمح لك بأن تلعب سياسة على أرض الآخرين، وإذا لعبت فسيكون لحسابهم ولمصلحتهم، ولن تكون أكثر من كاتب تقارير أو مخبر نشط، أو في أفضل الأحوال عضواً في حزب الكهرباء، تكتب التقارير وتجند الأفراد لحسابهم مقابل أكياس الدنانير. وتسألني الآن يا ولدي: ما الحلّ إذا تورط الإنسان في عمل سياسي داخل بلده، وغياب الديمقراطية، وفي ظل نظام يعتمد البطش والقمع والتقتيل؟ جوابي هو كما قلت لك: تقدم إلى السجن في بلدك، أو تعلق بحبال المشنقة في مسقط رأسك. هذا أفضل وأشرف مما سوف تلاقيه في بلاد الآخرين... وآه من الضياع وخيبة الأمل في بلاد الآخرين"!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...