لا أعي متى بدأتُ تقصّي جذور الأشياء. إلى أحمد لطفي السيد ترجع مقولة "الاختلاف في الرأي لا يفسد للودّ قضية"، ولا اتفاق على أول من خطب قائلاً: "أما بعد". كيف وصف الناس "التنمّر" قبل صوغ المصطلح؟ ولا أعرف مخترع كلمة "سياق"، لكني أعتبر سعيد جودة السحّار أول محرر أدبي مصري محترف. لم يشغله المصطلح، ولا التنظير لمهنة مارسَها كرسالة ضمن صناعة النشر. وآثر البقاءَ في الظلّ، منذ اختار طريقه، في أجواء لا تشجع على بدءِ مشروعٍ للنشر، في ذروة الحرب العالمية، حتى صار الأخ الروحي لجيلٍ عنوانه نجيب محفوظ. وبعد تعدد ناشري أعمال محفوظ، لا تزال طبعة "مكتبة مصر" مرجعية.
النشر في مكتبة مصر
محفوظ، والذين نشر السحار أعمالهم، محظوظون بإتاحة مؤلفاتهم في دار واحدة؛ ميزة انفردت بها "مكتبة مصر"، واختصت جيلاً بدلالٍ لم يعرفه جيل آخر. وفي تقاليد النشر، حرص السحار على أشياء، وتجاهل أخرى؛ حرص على وجود قائمة بأعمال المؤلفين في نهاية كلِّ كتاب، وتسجيل تاريخ أول وآخر طبعة. وحذف رواية "أولاد حارتنا" من قائمة أعمال محفوظ، لنشرها في دار الآداب البيروتية. وأغفل تاريخ نشر الكتب، مكتفياً بأن يكون رقم الإيداع مجرّد رقم من دون تاريخ. وتشابهت أغلفة طبعات الكتاب الواحد. سنة 1988 فقط ميزت المنشور قبلها، عما بعدها. وأضيف إلى الصفحة الداخلية أن محفوظ نال جائزة الدولة التقديرية وجائزة نوبل للآداب.
لم يخضع النشر في مكتبة مصر إلى تقاليد ثابتة. امتازت الدار بهويتها البصرية، بفضل الأغلفة التي صمّمها الفنان جمال قطب، وأصبحت دالةً على الناشر والمؤلفين وأعمالهم، حتى يبدو غلاف "أولاد حارتنا" في دار الآداب أكثر انتماءً إلى الناشر المصري. عدم ثبات التقاليد يتمثل في وجود رسوم داخلية لجمال قطب في الأعمال القديمة دون الحديثة، توجد رسوم تعبيرية مثلاً في "أولاد حارتنا" و"الكرنك"، وفي "دنيا الله" جسّد ملامح شخصية "زعبلاوي" في قصة بالعنوان نفسه. لم أسأل الأستاذ سعيد السحار (1909ـ2005)، في مقابلاتنا القليلة، عن ذلك. ونسيت سؤالاً آخر أثار الجدل لعقودٍ، عن التاريخ الحقيقي لنشر المجموعة القصصية "همس الجنون".
"زعبلاوي" كما تخيله الفنان جمال قطب
على رأس قائمة مؤلفات محفوظ استقرت مجموعة "همس الجنون"، بتاريخ 1938. الإلحاح على هذا "التوثيق" جعلها باكورة أعماله، وفي المجموعة قصصٌ من أجواء الحرب العالمية الثانية. الناشر لا يصحح "الخطأ"، ولا يوضح إصراره على تاريخ يسبق تأليف بعض القصص. اقتضى الأمر تدخّل الخواجة نوبل، لكي يتكلم الناشر. في ختام طبعة جديدة من رواية "الباقي من الزمن ساعة"، كتَب سعيد جودة السحار، للمرة الأولى، تذييلاً لعمل محفوظي. استعرض قصته مع محفوظ، من اللقاء الأول حتى حصوله على جائزة نوبل عام 1988، وحصوله عليها "اعتراف بقيمة الأدب العربي بين الآداب العالمية، ولو أن هذا التقدير جاء متأخراً عن موعده خمساً وعشرين سنة".
قصة السحّار مع محفوظ
كتب سعيد جودة السحار أنه عرف محفوظ عام 1943. حضر إليه أخوه عبد الحميد (1913ـ1974) "في المكتبة التي أملكها ـمكتبة مصر بالفجالةـ وبصحبته شابّ في مثل سنّه". قدّمه إليه: نجيب محفوظ، ومعه رواية، "يرجو أن أقوم بطبعها ونشرها". نجيب محظوظٌ في كلّ خطوة برجل الأقدار. في البداية كان سلامة موسى الذي قرأ رواية "حكمة خوفو"، فتحمّس لها، ولم يعجبه العنوان، ونشرها بعنوان "عبث الأقدار". وبعد حصوله على جائزة نوبل قال محفوظ لغالي شكري إن موسى "أستاذي العظيم. ومن النادر في الماضي أو في الحاضر أن تجد رجلاً مثله يكتشف الموهبة ويواكب نموها بالرعاية الكاملة حتى تصل".
كان سعيد السحار رجل الأقدار. أعطاه محفوظ رواية "رادوبيس" فأذهلته، لاختلافها "عن كلّ الروايات العربية التي ظهرت حتى ذلك الوقت". رحّب بنشرِها، في عنفوان الحرب، "والورق معدوم تماماً من السوق"
وفي الخطوة التالية كان سعيد السحار رجل الأقدار. أعطاه محفوظ رواية "رادوبيس" فأذهلته، لاختلافها "عن كل الروايات العربية التي ظهرت حتى ذلك الوقت". رحب بنشرها، في عنفوان الحرب، "والورق معدوم تماما من السوق". واستطاع تدبير كميةٍ طبعَ عليها خمسمئة نسخة فقط، بناء على نصيحة المؤلف الذي خشي ألا تستوعب السوق أكثر من ذلك.
وانتهت الحرب، ونشر السحار لمحفوظ رواياتٍ وقصصاً منها مجموعة "همس الجنون". لعلّه أول اعتراف من الناشر بأن "همس الجنون" نشرت بعد انتهاء الحرب، وأن "رادوبيس" أول عمل ينشر لمحفوظ في مكتبة مصر. وفي كتاب "نجيب محفوظ من الجمالية إلى نوبل" قال محفوظ لغالي شكري ما يؤكد ذلك.
ذكر محفوظ أن الناشر شاء أن يكتب تاريخ نشر مجموعة "همس الجنون" عام 1938، وهو تاريخ يصلح لزمن كتابتِها، ولكنها في الواقع نشرت في كتاب للمرة الأولى بعد "زقاق المدق" التي صدرت عام 1947. هكذا يكون عام 1948، الذي وضعته دار الشروق لمجموعة "همس الجنون" في الأعمال الكاملة لنجيب محفوظ، أكثر دقةً، ويساعد الباحثين على رصد تطور اللغة الفنية في أدب محفوظ، في المجموعة القصصية الوحيدة آنذاك، وهو مشغول بمشاريع روائية درّتها الثلاثية. ويذكر السحار أن محفوظ جاءه عام 1956 حاملاً كمية ضخمة من الوراق، تزيد على ألف صفحة، وطلب "أن أطبعها وأنشرها في كتاب واحد". كانت تلك هي الثلاثية.
السحار قال إن محفوظ عرض الثلاثية على طه حسين، فكتب مقالاً "يبشر فيه بمولد روائي كبير في الأدب العربي". لعله يقصد مقال طه حسين في صحيفة "الجمهورية"، في 6 شباط/فبراير 1957، بعنوان "بين القصرين.. قصة رائعة للأستاذ نجيب محفوظ". وصفها بأنها "أروع ما قرأت من القصص المصري منذ أخذ المصريون يكتبون القصص... تثبت للموازنة مع ما شئت من القصص في أي لغة"، وانتهى بأن المؤلف الذي انتفع بدراسته للفلسفة "لم يصبح فيلسوفاً ولا مؤرخاً للمذاهب الفلسفية، وإنما أصبح فقيهاً بالنفس الإنسانية بارعاً في تعمّقها وتحليلها". لكن السحار المحرر المحترف ليس مطبعة، واقترح طبعها في ثلاثة أجزاء، "فوافق نجيب على رأيي".
السحّار المحرر
السحار كاتب ومترجم آمن بدورِه كمحرّر، تبدأ علاقته بالكتاب وهو مخطوطة قابلة للتشكل، بموافقة المؤلف ومناقشته، للاتفاق على العنوان المناسب، والحجم المريح لقرّاء لا يحتملون الإمساك بكتابٍ ضخم في ألف صفحة. المحرر ينظر بعين إلى النصّ، وبأخرى إلى مصيرِه بين أيدي قرّائه. وبين المخطوطة ونشرها يدقق النصَّ لغوياً وأسلوبياً، ويلفت انتباه المؤلف إلى ما فاته، ويراعي جماليات التنسيق الإخراجي لكيلا تكون القراءة عقوبةً. المحرّر لا يؤلف، وإنما هو قارئ محترف، أعصابه عارية يهزّها أي ارتباك مهما يكن الفولت منخفضاً. لي تجربة مع ناشر محرر محترف، قرأ مخطوطة روايتي الجديدة، ودلني على بضع تفاصيل فنية اقتنعت بمعظمها، مع أنه لن ينشرها.
سعيد السحّار ونجيب محفوظ
أقرأ أعمال محفوظ التي توزعت بين عدة ناشرين، فأترحم على الأستاذ سعيد جودة السحار. أحسنتْ مؤسسة هنداوي بإتاحة تحميل أعمال محفوظ إلكترونياً. حمّلتُ نسخةً من رواية "بين القصرين". النصُّ أكثر دقةً، صوّب أخطاءً في طبعة دار الشروق. أما التنسيق الهنداوي فيختلف عن الرواية الأصلية. أذيب النص، وتمّ صبّه في قالب، فامتزج السردُ بالجمل الحوارية، ليختلط على القرّاء الحوار والتداعي الذاتي للأفكار والهواجس والمشاعر. بدون علامة (ـ) الدالة على جملة الحوار في أول السطر، يلتبس الأمر على القراء. كان تنسيق مكتبة مصر دقيقاً ومريحاً، رغم تواضع الطباعة، على العكس من أناقة طبعة دار الشروق الأخيرة (2021). لا جمال يكتمل.
أول محرر أدبي مصري محترف، لم يشغله المصطلح ولا التنظير لمهنة مارسها كرسالة ضمن صناعة النشر، وآثر البقاء في الظلّ منذ اختار طريقه، في أجواء لا تشجع على بدء مشروع للنشر، في ذروة الحرب العالمية، حتى صار الأخ الروحي لجيلٍ عنوانه نجيب محفوظ ... سعيد السحّار
الطبيعي أن يستقل الحوار بسطرٍ أو سطور، وألا يُستغل فراغ بنهاية السطر الحواري في بدء جملة سردية تالية. وفي طبعة دار الشروق قد تلتحق بالحوار، في السطر نفسه، جملةٌ تالية. الحوار المحفوظي يبدو مقلقاً لمحرر الشروق. هناك فرق بين متحاورين في قاعةٍ للدرس البلاغي، ومتحاورين في الحياة يكون ضبط أدائهم اللغوي، بالمسطرة المدرسية، تكلفاً يحمّلهم فوق أنصبتهم من الوعي. أم كلثوم، بجلالة قدرها، تجاسرت بالإجابة عن سؤال: "أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمرُ؟"، قائلة: "نعم". ولم تلتزم بنصّ أبي فراس الحمداني، فتقول: "بلى". فكيف بإجابة رجلٍ عاديّ في الشارع عن سؤال من هذا النوع؟ دار الشروق تريده أن يقول: "بلى".
من أمثلة هذا التصرّف في نصوص نجيب محفوظ، في قصة "عنبر لولو" يسأل الرجل:
ـ ألم يقع اختيارك على أحدهم؟
ـ نعم، لم يقع. إنهم موظفون...
وفي طبعة مكتبة مصر: ـ كلا. إنهم موظفون...
وفي قصة "شهر العسل":
ـ ألم تأكل من الكرنب؟
ـ بلى أكلت...
وفي طبعة مكتبة مصر: ـ أكلت...
وفي الحرافيش:
ـ ألم ترَ من قبل سِت قمر؟
ـ نعم، لم أرها...
وفي طبعة مكتبة مصر: ـ كلا.
وفي حكاية "التوت والنبوت":
ـ ألم تثق بأقواله؟
ـ نعم، لم أثق.
وفي طبعة مكتبة مصر: ـ لا.
ويتكرر الأمر في مجموعة "الشيطان يعظ"، وفي رواية "ليالي ألف ليلة"، قال الحاكم لصنعان الجمالي:
ـ المقاول حمدان طنيشة قريبك.. أليس كذلك؟
ـ بلى يا مولاي...
وفي طبعة مكتبة مصر: ـ أجل يا مولاي...
وكبير الشرطة حمصة البلطي يسأل العبد:
ـ ألم ترَ دخاناً ينتشر؟
ـ نعم يا مولاي...
ـ ألم تسمع صوتاً غريباً؟
ـ نعم.
في طبعة مكتبة مصر جاء الردُّ على السؤالين: ـ كلا.
وفي رواية "الباقي من الزمن ساعة"، يقول الوجيه نعمان الرشيدي بعد طرد الملك:
ـ "إذا زلزلت الأرضُ زلزالها وأخرجت الأرض أثقالَها".
في طبعة مكتبة مصر:
ـ "إذا زلزلت الأرض زلزالها.. وقال الإنسان مالها".
أكتفي بهذه الأمثلة، وأتوقف أمام ما لم أصل فيه إلى يقين. تحمل الحكاية التاسعة في "الحرافيش"، في طبعة مكتبة مصر، عنوانَ "سارق النغمة". واحتفظت طبعة دار الشروق 2007، بالعنوان نفسه "سارق النغمة". وفي الأعمال الكاملة (2021)، أصبح العنوان "سارق النعمة"، بالعين لا الغين. ولا أدري أيهما الأصل.
لا تستقيم قراءة إلا بالاستئناس والاستناد إلى مرجعية النسخة "الرائقة" من طبعة سعيد جودة السحار. لا جمال يضيع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...