لا يزال الجدل يتواصل في مصر حول التصميمات التي أعلنتها "ديوان"، الناشر الورقي الحالي لأعمال الأديب الراحل نجيب محفوظ، إذ أثارت التصميمات الجديدة المعلن عنها موجة من الغضب والسخرية، ووضعها المتلقون من محبي محفوظ موضع المقارنة مع رسوم الأغلفة التي وضعها الفنان الراحل جمال قطب للطبعات الأولى للكاتب الراحل الصادرة عن "نهضة مصر"، ورسوم الفنان حلمي التوني لأغلفة الطبعات التالية الصادرة عن "الشروق" التابعة للمجموعة الاستثمارية القابضة نفسها التي تملك الناشر الجديد "ديوان".
رداً على تلك الموجة الغاضبة، نشرت صحيفة الأهرام حواراً مع المخرج يوسف صبري، المشرف العام على الرؤية البصرية للأغلفة المثيرة للجدل، ليتجدد الحوار حول تصميم أغلفة الكتب، الذي يقف بين عالمي الفن والتسويق، ولأي منهما الغَلَبَة.
"ما يحدث في الواقع من قبل دور النشر المصرية لا يراعي المعايير الفنية اللازمة التي تُدرَّس في كليات الفنون"
"فن تطبيقي"
تتخصص كلية الفنون التطبيقية في مصر في تدريس القواعد العلمية للتصميم الفني وتطبيقاته في مجالات تسويقية مختلفة، من بينها أغلفة الكتب، كما يدرس طلاب قسم "الغرافيك" في كليات الفنون الجميلة في مصر كذلك فن تصميم الغلاف، إلا أن واقع سوق النشر المصري يشهد بأن كثيراً من مصممي أغلفة الكتب في دور النشر المختلفة، لم يدرسوا هذا التخصص بعينه.
على هذا يعلق الناقد التشكيلي المصري عزالدين نجيب في حديثه لرصيف22، قائلاً: "ما يحدث في الواقع من قبل دور النشر المصرية لا يراعي المعايير الفنية اللازمة التي تُدرَّس في كليات الفنون. فهناك عناصر لا بُد من توافرها في أى غلاف؛ الأول هو عنصر الجاذبية، والثاني إحداث توازن بين اسم العمل واسم المؤلف واللوحة الفنية المصاحبة للعمل وغيرها".
عز الدين نجيب: "ليست هناك مدارس فنية للغلاف في مصر"
ويرى نجيب أن الأغلفة الأخيرة التي أثارت الجدل تؤشر إلى وضع فن الغلاف في مصر حالياً، إذ تخالف النسب والمعايير الفنية "ثلث المساحة في جميع الأعمال يحتلها اسم نجيب محفوظ، وببنط صغير جداً يأتي اسم الرواية، وتحت الاثنين لوحة لا علاقة لها بأحداث الرواية".
ويواصل: "كنا قديماَ نأخذ على أغلفة نجيب محفوظ أنها تقليدية، اليوم ما يحدث يعد تراجعاً أكبر، اسم المؤلف يجور على اسم الرواية [في التصميمات الجديدة]، ونجيب محفوظ عملاق ولا يحتاج لزيادة حجم اسمه".
قائم على المصادفة
بحسب الناقد المخضرم "ليست هناك مدارس فنية للغلاف في مصر". ويرى أنه على الرغم من امتداد تاريخ الطباعة والنشر في مصر إلى ما يزيد على قرنين من الزمن، لم تتأسس مدارس فنية يمكن الارتكان إليها في تصميم الأغلفة، إذ غلبت الوظيفية على الفن في تصميم الأغلفة، ربما لضيق قاعدة القراء لفترات طويلة من الزمن بحكم اتساع قاعدة الأمية حتى ستينيات القرن الفائت.
ولكن بحسب نجيب: " لدينا مواهب فردية تظهر وتؤسس طابعاً خاصاً يشكل تياراً أو مدرسة، كتجربة الفنان الراحل محي الدين اللباد الذي أعده أكثر فنان فاهم ما هو الغلاف. وقد حافظ على الشكل الجمالي الحر، ويأتي بعده الفنان حلمى التوني. وكل فنان له تفاصليه. ولكن قلائل هم الذين يدركون أن للغلاف دوراً في صناعة الكتاب يتجاوز الإعلان عن المحتوى، فالغلاف هو عتبة النص".
"كنا قديماَ نأخذ على أغلفة نجيب محفوظ أنها تقليدية، اليوم ما يحدث يعد تراجعاً أكبر، اسم المؤلف يجور على اسم الرواية [في التصميمات الجديدة]، ونجيب محفوظ عملاق ولا يحتاج لزيادة حجم اسمه"
رموز ومفاتيح
عبر تجربة فنية فريدة، تستطيع التعرف عليها بمجرد النظر إلى صنع الرسام والفنان الكبير حلمي التوني بصمة فنية خاصة، ارتبط اسمه بأغلفة كتب لها طابع الحركة والحيوية، ولها أشكال وألوان خاصة تستدعي روح الطقوس الشعبية والأيقونات النسائية، ومن أعماله الكثيرة، أغلفة "الشروق" لكتابات الراحل نجيب محفوظ.
للفنان الذي بدأ رحلته مع الغلاف في إصدارات دار الهلال وارتبط اسمه بأغلفة نجيب محفوظ عقب فوز الأخير بجائزة نوبل وانتقال حقوق النشر من نهضة مصر إلى الشروق، يرى أن فن الغلاف في مصر عموماً يمر بأزمة ممتدة ولا يعتقد أنها في سبيلها إلى الحل: "للأسف حتى اليوم، فن صناعة أغلفة الكتب لا تدرس عندنا في مصر كفن مستقل له قواعده ومدارسه، بل يُدرس الغلاف ضمن فن التصميم عموماً. أنا خريج فنون جميلة وعلى دراية بالمناهج التي لم تتطور كثيراً منذ تخرجي في الكلية (قبل ما يربو على 50 عاماً)، ومع اتساع قاعدة القراء ونشاط حركة النشر يفترض أن تكون هناك مناهج علمية فنية تخدم صناعة الكتب. لكن الواقع أن الأمر متروك لمعارف الفنان ومقدار سعيه الشخصي للتعلم وقدرته الشخصية على التعليم".
وعن تجربته يقول التوني: "رسمت 4000 غلاف، وأصبحت محترفاً وأرسم الغلاف من المرة الأولى. فنجيب محفوظ قرأت معظم أعماله، ورسمي لأغلفته جاء لى كفكرة أو تخيل وقمت بوضعه على الورق ثم اخترت الألوان. وهناك شيء مهم لا بد أن يدركه مصمم أغلفة الكتب، هو أن الغلاف مثل فاترينة أي محل، هو ملخص ما داخل المحل أو تعرض أهم ما فيه، ولكن بأسلوب فني راقٍ. إذن الغلاف ليس ترجمة فورية، فالفن هو المسافة، نبعد عن الأصل وننتج عملاً جديداً لا يطابق الأصل".
تمتع التوني بفرصة لم تتح لفريق التصميم الجديد الذي أثارت أعماله الجدل، إذ حظي بفرصة التعرف المباشر على الراحل نجيب محفوظ وإن لم يعمل معه عن قرب: "أعرف الكاتب الكبير نجيب محفوظ منذ السبعينيات، ومعروف عنه أنه لم يكن يتدخل في أي أعماله. ينتهي دوره عند وضع القلم على المائدة (عند تسليم العمل للناشر) لذلك هو لا يعلق على الأغلفة، لكني تبنيت وأنا أرسم 54 عملاً عنه، فكرة الحوار الصامت بين محتويات الغلاف والنصوص، دون التورط في الاختزال أو الإخلال. فالتعبير المباشر الحرفي لاسم العمل، أعده ضعفاً فنياً. وارتباط اسمي بنجيب محفوظ شرف كبير".
مشروع بصرى متجدد
تولى الفنان أحمد اللباد مهمة إنجاز أغلفة الإصدار الجديد من الأعمال الكاملة لنجيب محفوظ التي صدرت في عشرة أجزاء عن دار الشروق، فتعمد الانتقال بمحفوظ من التفاصيل الواضحة من فتوات بجلاليب بلدية ونبابيت قاسية، ونساء خانعات في خدورهن بملايات اللف المغوية، وهياكل الحرافيش الجائعين المقهورين، ليشتبك مع روح أعمال محفوظ عبر مظلة بصرية جامعة، موحداً نوع ومقاس خطوط الكتابة المستخدمة في كل الأغلفة في المجلد الأول عبّر عن الحضور الأنثوي في العصر المصري القديم، الذي دارت فيه الروايات الثلاث الأولى (المرحلة الفرعونية)، وتقابل مع العصر المحدث لخان الخليلي والقاهرة الجديدة وفي المجلد الثاني تقابل الزقاق مع ملامس الجدران المنهكة.
يرفض اللباد الابن روح "النوستالجيا" التي حكمت الآراء في الأغلفة الجديدة من خلال لجوء منتقديها إلى مقارنتها بأعمال قطب والتوني، ويرى أن الحكم يجب أن يكون وفق معايير فنية لا وفق ما يفرضه "الحنين"
وحول الجدل الأخير يعلق الفنان أحمد اللباد لرصيف22 قائلاً: "أرى الجدل على أغلفة ديوان الخاصة بأعمال نجيب محفوظ إيجابي، لأن نجيب محفوظ هو مشروع بصري مفتوح، قابل للتأويل، وقابل للعمل عليه بأشكال مختلفة لأنه كاتب حديث جداً ومتجدد جداً".
يرفض اللباد الابن روح "النوستالجيا" التي حكمت الآراء في الأغلفة الجديدة من خلال لجوء منتقديها إلى مقارنتها بأعمال قطب والتوني، ويرى أن الحكم يجب أن يكون وفق معايير فنية لا وفق ما يفرضه "الحنين".
يقول اللباد: "أنا مع رسم أعمال لنجيب محفوظ بروح جديدة، لكن المهم هو ما هي النتيجة؟ وما مدى نجاح هذا المنطق البصري الجديد في التعبير عن نجيب محفوظ؟الأهم هو ما يتحقق في هذا المشروع البصري، فالقديم ليس دائماً أفضل. نجيب محفوظ ظُلم بشكل ما في الأغلفة القديمة، لأنه ثبت عند تعبير بصري واحد، جَمُد عند تركيبة واحدة. وهناك رسومات غير موفقة حتى في الأغلفة القديمة بالنسبة لتقديم شخوص نجيب محفوظ".
وهو ما يأخذه اللباد على تصميم اغلفة نجيب محفوظ في جميع إصداراتها: "التعبير البصري ارتبط عند البعض بشخوص وأماكن نجيب محفوظ فقط، دوناً عن القضايا والأسئلة الفلسفية التي عمرت بها أعماله، فكانت الأغلفة تتجاهل هذا العمق الفلسفي. صحيح ارتبط عالم محفوظ بالقاهرة كمكان، ومعظم الزمن قديم نسبياً، لكن الأشخاص والمكان هما مجرد مسرح للأفكار والتساؤلات، وتصوير عالم محفوظ كشخصيات وأماكن فقط هو نوع من التثبيت المضر للفن، فكتابة محفوظ ليست كتابة عن أشخاص أو أماكن، وإنما قدم ذلك من باب المخاتلة الفنية".
انطلاقاً من هذه الفكرة، نظر اللباد الابن إلى فرصة العمل على تصميم أغلفة مجلدات الأعمال الكاملة، باعتبارها "فرصة ثمينة" لإظهار امتنانه لأعمال محفوظ، على حد قوله لرصيف22. يقول: "أعماله كانت من أساسات قراءاتي الأولى في الشباب المبكر، وما زالت العودة لها مصدراً للمتعة والتأمل بشكل جديد. كنت سعيداً للغاية لأنني أخيراً سأشتبك معه وسأحقق تصوري لأعماله. وكنت سعدت بأعمال الفنان حلمي التوني على أعماله المفردة، لأنه قدم وجبة بصرية معبرة".
وعن طريقة عمله على تصميم أغلفة الكتب، التي بات أحد أهم وأشهر مصمميها في مصر، وله بصمته التي يمكن التعرف عليها عند النظر إلى الأغلفة قبل قراءة معلومات الغلاف، يقول اللباد: "بعد حوالى 35 عاماً من العمل كمصمم، أصبح عندي خبرة الذهاب نحو مناطق متنوعة في التصميم، أحددها في عقلي من اللحظات الأولى. لكني أرسم سكتشات متنوعة للغلاف من باب الاستمتاع، الاسكتشات هدفها خلق تداعي الأفكار، وأحياناً العمل يسلم إلي مفتاحه لأختار فكرة أجدها الأكثر تعبيراً عنه. والأهم بالنسبة لي هو النتيجة الأخيرة".
وحول المسافة بين "الفن" والتسويق" في صناعة غلاف الكتاب، يقول اللباد: "غلاف الكتاب صفحة واحدة، ولا يمكن أن يكافئ عملاً أدبىاً أو فكرياً كاملاً، إنما نختار ما يعبر عن روح العمل، ووظيفة الغلاف هي جعل القارئ يشتبك مع العمل، وليس مهمته ترجمة كامل النص، وإنما الذكاء هو خلق زوايا غير مستهلكة، تحاكي روح العمل وأبجديات التصميم من حيث الوضوح والبساطة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...