شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"التعذيب أفقدني توازني النّفسي"... شهادات معنَّفين في المدارس القرآنية المغربية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأحد 21 أغسطس 202203:23 م

لو بحثنا جيّداً في الأرياف والضواحي والهوامش، وحتى داخل المدن الصغرى والكبرى، فسنعثر على المئات بل الآلاف من المعنَّفين في المدارس القرآنية داخل المساجد، والمعروفة بـ"المَسْيَد" في الثقافة المغربية. 

أسلوب عنيف عفّى عليه الزمن، لكن الغريب أن يجري تقديمه على أنّه أحد أهم أسس المهمّة التّربوية داخل هذه "المدارس" التقليدية التي تعود إلى قرون خلت. لكن، هل استمعنا إلى المعنَّفين مرّةً، بعد أن اكتمل إدراكهم لما حدث، لنعرف الآثار النفسية والجسدية لذلك العنف الذي تعرّضوا له في فترة الصّبا وسط "المسجد" و"مدرسته"؟ بالأحرى هل قدّمنا الجزء المتواري والمُمتنع من الحكاية، وكشفنا أبرز مقولاته التي تدين العنف بـ"المسيد" بكلّ أشكاله، من طرف الذين عايشوه، كونهم معنيّين؟

رصيف22 ينطلق للإجابة عن هذه التساؤلات، من منطقة تافيلالت في الجنوب الشرقي للمغرب، ويقدّم شهادات وتجارب إنسانيّةً خالصةً، لـ"معذّبين" في "المدارس" القرآنية العتيقة آنفة الذكر.

أشرف: "ذلك العنف أفقدني توازني النفسي!"

أشرف شابّ عشريني من مدينة الريصاني (جنوب شرق المغرب)، يتذكّر "الفظاعات" التي كان يمارسها عليه فقيه "المسيد". يقول في تصريحه لرصيف22: "كلّفني الأمر زمناً حتى أبرأ من الأعطاب النفسية التي سببها لي ذلك الضرب المبرح في المسجد، وأنا طفل في العاشرة. كنت "ثقيل الذهن"، كما كانوا يقولون لي، لأنني لا أستطيع حفظ الآيات بانتظام. وكان الفقيه في كلّ مرة يطلب من أصدقائي تكبيلي وينهال على أخمص قدميّ بالضرب المبرح بالسوط، حتى تتورّم قدماي ولا أستطيع المشي عليهما.

يضيف أشرف بمرارة: "في الحقيقة، كان تنمّر أصدقائي والاستهزاء بي بعد كلّ حصة مسائيّة يدخلانني في محنة نفسيّة. وكنتُ أجلس وحيداً، هرباً من ذلك التهكّم القاسي. حين كنتُ أخبر الفقيه ألاّ يضربني لأن ذلك يدفعهم للسخرية مني بعد كل حصّة، طلب مني إخباره بهوياتهم، فذهب إليهم وبدأ يضربهم بقوّة بتلك العصا. بكى الكلّ، وتشاجرت مع بعضهم نتيجة إفشائي ما يحدث للفقيه".

كلّفني الأمر زمناً حتى أبرأ من الأعطاب النفسية التي سببها لي ذلك الضرب المبرح في المسجد، وأنا طفل في العاشرة

يختم أشرف الذي كان يقضي عطلة الصيف في المسيد، بعد سنة دارسية داخل المدرسة الحكومية قائلاً: "كان والدي سبباً في تلك المأساة، لأنّني كلّما أخبرته بما يجري ليطلب من الفقيه أن يتوقّف عن تعذيبي في كلّ مرة من دون رحمة، ردّ علي بأن "تلك هي التّربية، وأنتم جيل مدلّل". كنت أواجه تلك الفوضى وحيداً، إذ أدركت أنّهم لن يفهموا ما ينتابني من مشاعر خوف يوميّة كلّما اتجهت نحو المسيد. لا أخفي أنني كنت أطلب من الله أن يموت الفقيه في كلّ مرة. هذا أمر سيء. أعرف ذلك، لكني أقول ما كنت أشعر به وقتها. بل كنت أتمنى أن يتأخّر الصّيف، لأنني لم أكن على استعداد لذلك الضرب. لا أحد يتحمله، وكلّنا كنا نلعن الفقيه بعد كلّ حصة. كنا نمارس الاحتجاج بصمتٍ وبغمزات في ما بيننا".

إبراهيم: "انتقمتُ من الفقيه على طريقتي!"

إبراهيم شابّ يتحدر من مدينة الرّيصاني. لا يتردّد في الكشف عن حكايته داخل المسيد والتي كُتبت بمداد العنف.

يقول في حديثه إلى رصيف22: "آخر سنة لي في المسيد كانت حين كنت في السنة الابتدائية الرابعة. كنتُ أذهب إليه لأحفظَ السّور القرآنية التي سندرسها في المدرسة بعد الصيف. أحياناً كنت أحفظ وأحياناً لا، لأنني كنت أنشغل باللّعب مع أصدقائي. لم أكن أستوعب كثيراً تلك الآيات والمغزى منها، لكنني كنت أقدّسها حرفيّاً، وما زلت صراحةً. لكن الفقيه كان فظّاً. لم يكن رحيماً بنا ونحن أطفال. كان كل من لم يحفظ الآيات في الحصة القادمة عرضةً للفلقة".

ذات مرّة لم أتحمّل الضرب، فقلت لأصدقائي والفقيه ‘أفلتوني يا أبناء العاهرة’. بدأت أكرّرها صارخاً. فردّ الفقيه حينها: "ماذا تقول يا حمار، يا عدوّ الله واستمر في ضربي

يشرح إبراهيم بنبرة متأثّرة، وكأنّه يسترجع ما جرى. "الفَلَقَة" هي طريقة التعذيب في المدرسة القرآنية. كانت عبارةً عن عصا مشدودةً بخيط صلب وقويم من الجانبين، ويتم تثبيت قدمي الطفل المعاقب، بين الخيط والعصا، وهو ممدّد على ظهره. يستعين الفقيه بطفلين أو أكثر للتحكم بالمعذَّب حتى لا يفلت قدميه في أثناء الضّرب. يبدأ الفقيه بالضرب بقوّة، حتى تشعر بالألم ينبعث من قدمك إلى دماغك مباشرةً. وللحقيقة فقد تعرضت لهذا التعذيب مراراً. لا أخفي أنه في كلّ مرة كنتُ أحسّ بأن كرامتي تتحطّم. لم أكن على بيّنة من معنى الكرامة حينها، لكن كنت أعرف أنّ شيئاً سيّئاً يحدث لي".

يشير إبراهيم إلى نقطة مهمة ومثيرة: "ذات مرّة لم أتحمّل الضرب، فقلت لأصدقائي والفقيه ‘أفلتوني يا أبناء العاهرة’. طبعاً قلتها بالعامية المغربية بكلّ ما تحمله من وقاحة. وبدأت أكرّرها صارخاً. فردّ الفقيه حينها: "ماذا تقول يا حمار، يا عدوّ الله، تقول الكلام الفاحش في بيت الله"، ثمّ استمر في الضرب أضعافاً مضاعفةً على كلّ منطقة من جسدي. كان ذلك سنة 2007. غير أني حين خرجت، لم أعد أبداً، فسأل عنّي الفقيه والدي. أبي كان يظنّني أواظب على الاستمرار في الذهاب إلى هناك".

ثمّ يجمل إبراهيم قائلاً: في إحدى المرات، وعلى حين غرّة، بدا لي الفقيه وهو يمرّ على درّاجته، فرشقته بالحجارة من خلف السّور. هكذا أردت أن أنتقم من أحد أكبر أسباب عذابي في طفولتي. أردتُ أن أدمّر تلك الصّورة التي نرى بها الفقيه، لأنه كان إنساناً سيئاً مهما حفظ القرآن. الآن، أذهب إلى مدينتي في العطل، فأرفض الصلاة في "مسجده". كلّما أراه يُخَيَّل إليَّ أنه حاملٌ عصاه. ولا أستبعد أن يكون محافظاً على سلوكه العنيف والعدواني تجاه الأطفال. لكن، عموماً، قيمة المدارس القرآنية في الريصاني، أصبحت تبدو لي في تراجع.

مراد: "المدافعون عن العنف ساديّون"

يبدأ مراد حديثه إلى رصيف22، بالتأكيد على أنّ "من يقولون إنّ العنف ضروريّ للتربية هم إمّا ساديون أو مازوشيّون. فلا يمكنُ أن تُعدّ الفلقة وغيرها أشكالاً ضروريةً للتّربية وحفظ القرآن، إذ ما قيمة الحفظ الآلي والتلقائي الذي يتم، في الأصل، بالغصب والإكراه؟ أليس القرآن في حدّ ذاته قانوناً وتربيةً وسلوكاً كما يقولون لنا مراراً؟ لكنّي، من جهة أخرى، أعتقد أنّ الذين يدعون إلى العنف، بالرغم من كلّ ما جرى من تطوّر في معنى الحياة والطفولة، يرون أن الأسلوب الذي "تعلموا" به هو الأرقى وينبغي تعميمه، وأن ما عايشوه هو الأصل وتالياً لا ينبغي تحريفه باسم التربية الناعمة التي لا تقيم للعنف بأشكاله كلها وزناً".

حتى الآن أتذكّر ذلك الضرب وأحسّ بقشعريرة غريبة في بدني. كان ذلك الفقيه يقرصنا بعنف أحياناً من دون سبب، ويترك منطقةً زرقاء في أذرعنا وأفخاذنا

يوضح مراد قائلاً: "إنّه غرور الأجيال السابقة وتضخّم أنا كلّ منها، لأنني لا أستطيع أن أتمنى أن يعاد سيناريو العنف الخاصّ بي مع شخص آخر. وما زلت حتى الآن أتذكّر ذلك الضرب وأحسّ بقشعريرة غريبة في بدني. كان ذلك الفقيه يقرصنا بعنف أحياناً من دون سبب، ويترك منطقةً زرقاء في أذرعنا وأفخاذنا. من بين الأشياء ‘الطّريفة’ أنّه كان معنا صديق يدرس في "مَسيدنا" أيضاً، وكان كلما ضربه الفقيه يخبرنا بأنه سيتبوّل على اللّوح الذي تُكتبُ عليه الآيات بالصمغ. لم يفعل ذلك أمامنا نهائيّاً، لكن ما كان يقوله نستطيع فهمه اليوم على أنه كان تجاوزاً حقيقيّاً وبريئاً، للفقيه والمسيد والقرآن نفسه". 

يشعر محدّثنا بأن تواطؤ العائلات كان يمنح الفقهاء السلطة للاعتداء بالعنف على الصبية. يقول: كنت أحس بالضيق حين يقترب الصيف، إذ سنذهب إلى المسيد. لم أذهب يوماً إلى الجامع برضاي مثل كثيرين من أصدقائي. كان يقول لنا الفقيه: "من لم يحفظ، لا يلومنّ إلا نفسه، أولياؤكم طلبوا مني أن أذبح وهم يسلخون" (نتا تذبح وحنا نسلخو) وهي مقولة شعبية مغربية تعني موافقة العائلة على "تأديب" الأطفال من طرف المعلم بالضرب. يرى مراد أنها كانت صحيحةً في هذا السياق قائلاً: "كان الفقيه محقًّاً، لأنّ وحدها والدتي كانت تتعاطف معي حين أحصل على حصّة وافرة من الضرب المبرح. وكانت تسبّ الفقيه باللغة الأمازيغية، وتتمنى له عذاباً مثلما عذّب فلذّة كبدها. لكنها لم تستطع أن تطلب منه أن يتوقف عن ضربي، لأن والدي قال كلمته، ووالدتي لا تستطيع معارضته".

ما بعد العنف...

يدخل العنف، الذي يمارَس في المسيد، ضمن تصوّرات "تقليدانية" تعدّ عصا الفقيه مشتقّةً من الجنّة، وأن أعضاء الصّغار، التي تمسّها عصا الفقيه "لن تحترق في نار جهنّم"، وفق التصور الشعبيّ. هنا، يتعلّق الأمر ببديهيّات ماضويّة غائرة ومتوارثة، لكن كيف يمكن أن نقاربها اليوم؟

تقول الباحثة السوسيولوجية سعيدة الزين، في تصريح لرصيف22: "لا نستطيع اليوم أن نعدّ العنف شرطاً للتّعلم، سواء كان ذلك في التّعليم المدرسة الحديثة أو في الجوامع العتيقة، ذلك أنّ العنف آليّة قمعية لا تأتي بنتائج مرغوب فيها، بل على العكس تنتج جيلاً كله أعطاب وعقد نفسية. ونجد كثيرين من تلاميذ الماضي يحملون، فعلاً، كرهاً للمؤسسة المنتجة للعنف، أو المسؤولة عنه على نحو مباشر. نحن نتعامل مع متعلم له قدرات عقلية وله ذكاء عاطفي، ومع طفل يحمل كتلةً من الأحاسيس والمشاعر، وليس شيئاً جامداً".

تضيف الزين، أن "المنظور الجديد للبيداغوجيا والمقاربات الجديدة في التدريس داخل المدرسة العمومية، يقضي بمنع كل أشكال العنف الموجه ضد المتعلم منعاً تاماً، كترجمة وتفعيل للمواثيق والاتفاقيات الدولية".

لهذا، ترى المتحدثة أنّ "مدارس تعليم القرآن العتيقة، أو المسيد والزوايا، ليست خارج الدعوة، لأنها مطالبة بدورها بالتخلي عمليّاً عن العنف كآلية للتدريس، وعليها دفن كل الممارسات الكلاسيكية على غرار "التحميلة، و"الفلقة"، و"المسويطة"... إلخ. هذه الممارسات لم تعد مقبولةً إطلاقاً، نظراً إلى كون التّعلم، في الأصل، غير مرتبط بالترهيب، بل بالترغيب إذا ما أردنا استعمال القاموس الديني".

تجملُ سعيدة الزين، قائلةً: لكن هذا لا يمنع أن العقلية التقليدية ما زالت منتشرةً في صفوف المسؤولين عن المسيد والزوايا، وغيرهم من الذين يعدّون العنف قاعدةً ضروريةً لإتقان التعليم والتربية. بل تسرّب ذلك حتى إلى داخل المجتمع التقليدي، الذي تجده لا يرفض مسألة ممارسة العنف على أبنائه داخل المسيد مثلاً، ويدعم المسألة ويزكّيها. هذا يُظهر أن العنف، عند هؤلاء، هو القاعدة وليس الاستثناء. والمشكلة الأعمق أنّ الناس، بدورهم، ينظرون إلى العنف داخل المسيد كقاعدة متوراثة في المجتمع وينبغي أن تستمر، لذلك هذا العنف مسكوت عنه، والأخطر أن معظم شرائح المجتمع متعايشة معه!

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard