شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الشواطئ الشرّيرة في بلد طيّب

الشواطئ الشرّيرة في بلد طيّب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الاثنين 19 سبتمبر 202212:29 م

لماذا يصف المصريون بعض شواطئهم وسواحلهم بأنها "شرّيرة" (من الشر)، مع أنها تمثل جزءاً غير هيّن من بلدهم الخيّر الطيّب؟ الشرّ، لغة، هو الأذى والسوء والفساد، وهذه المعاني كلها ببساطة هي المقصودة بالضبط في تلك التسمية الفريدة، الفطنة، التلقائية، التي انتشرت بكثافة على الألسنة، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، بعدما ابتدعها المصريون بحسّهم الانتقادي التهكمي اللاذع، وقدرتهم على نسج الطرافة والسخرية والكوميديا، حتى في أحلك الظروف وأكثرها مأساوية.

المقصد القريب والمباشر من هذا الوصف هو الشاطئ مرتفع التكلفة بشكل مبالغ فيه، المقصور على فئة قليلة من الأثرياء في ظلّ الأوضاع الطبقية السائدة. وأطلقت التسمية في الأصل على مناطق محددة من ذلك الشريط الممتد على ساحل البحر المتوسط غرب الإسكندرية حتى معبر السلوم على الحدود الليبية، المعروف اصطلاحاً بالساحل الشمالي. ومن ثم، فقد صار في ذلك الشريط الشمالي مستويان: الساحل الشرير، والآخر الطيّب.

قرية بالساحل الشمالي

كان ذلك قبل الشهور القليلة الماضية، التي شهدت بدورها طفرةً جنونية أخرى في تكلفة الإشغالات السياحية في الفنادق والقرى والمنتجعات الشاطئية، وهي الطفرة التي صاحبت الأزمة الاقتصادية المحلية والعالمية جراء الحرب الروسية الأوكرانية، وخفضِ قيمة الجنيه المصري أكثر من مرة في مقابل الدولار الأميركي المعتمد رسميّاً في تسعير الإقامة (بالليلة) في الأمكنة السياحية، للأجانب وللمصريين على السواء.

الشاطئ الشرير هو الشاطئ مرتفع التكلفة بشكل مبالغ فيه، المقصور على فئة قليلة من الأثرياء في ظل الأوضاع الطبقية السائدة. وأطلقت التسمية في الأصل على مناطق محددة من ذلك الشريط الممتد على ساحل البحر المتوسط غرب الإسكندرية حتى معبر السلوم على الحدود الليبية

وبالتالي، وفق ذلك المعيار الاقتصادي البحت المأخوذ به "ظاهريّاً" للفصل بين الخير والشر، فإن ما شهده الصيف الجاري هو إعلان واضح لتمدّد مساحات هذه الشواطئ الشريرة (الغالية)، حيث باتت وفق هذا المنطق تضمّ وجهاتٍ ومقاصدَ غيرَ قليلةٍ، ليست فقط على سواحل المتوسط في العلمين وسيدي عبد الرحمن ومراسي ومارينا وغيرها، وإنما أيضاً على سواحل البحر الأحمر وخليج السويس في الجونة والغردقة وشرم الشيخ والعين السخنة وغيرها، وذلك بعد ارتفاع أسعارها بشكل كبير في فترة وجيزة.

معيار اجتماعي وإنساني

وفي واقع الأمر، فإن المعيار الحقيقي "الجوهري" للتمييز بين الخير والشر في هذه التسمية الشاطئية الطريفة والذكية هو معيار اجتماعي وإنساني في الأساس، للتفرقة بين "شعبين" متناقضين أو متخاصمين يعيشان فوق أرض واحدة (مجتمع الكتلة البشرية العاملة، وأقليّات الكمبوندات الرأسمالية والأندية المغلقة والحفلات الاستفزازية). وقبل التطرق إلى ذلك، لعله من المفيد ذكر بعض المؤشرات الاقتصادية، وأيضاً السلوكية، التي تمخضت عنها تسمية شواطئ بعينها بالشريرة، بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات لغوية معبّرة ومؤثرة: أذى، سوء، فساد.

ساحل عجيبة في مرسى مطروح

في هذا الصدد، يكفي الاطلاع على ما نُشر منسوباً إلى موقع "بوكينغ" للحجوزات، بشأن الفيلّات والأجنحة الفندقية في العلمين ومراسي وسيدي عبد الرحمن وغيرها، التي تصل تكلفة الإقامة فيها أياماً قليلة إلى مليون جنيه (أكثر من 52 ألف دولار). أما تكلفة طاولة عائلية في حفل للمطرب عمرو دياب في العلمين الجديدة مثلًا فتتجاوز 2600 دولار، ناهيك عن أرقام خيالية بآلاف الجنيهات لفواتير المطاعم والمقاهي وغيرها، حتى التي تقدم المأكولات والمشروبات الشعبية. فلا مجال لشيء عادي أو رخيص في هذه المناطق، التي يحرص مرتادوها في الأساس على "ثقافة التباهي" والمزايدة الفجة على بعضهم بعضاً في المظهرية والإنفاق غير المشروط، كمرادفات للتحقق والتسيّد والوجاهة.


فنادق العلمين

وإلى جانب الافتخار بمفردات هذا الغلاء الفاحش، وترويج مظاهره وتفاصيله الدقيقة (اليوميات اللحظية) على أوسع نطاق بواسطة بثّ الصور والفيديوهات والتعليقات على السوشيال ميديا، فهناك فحش سلوكي في الكثير من اللقطات التي يجري ترويجها أيضاً تحت مظلة التمدين والفرنجة والانفتاح؛ منها مثلاً تلك الممارسات المنفلتة المبالغ فيها في حفلات التعرّي والرقص و"الرّوشنة" واستعراض الموضات الشاذة وشرب الخمور في الحانات الأمريكية، وعلى الشواطئ، وفي صالات الديسكو، وغيرها.

ساحل الغردقة

وخلال الفترة الأخيرة، حدثت زيادات كبيرة أيضاً في أسعار الشواطئ الأخرى التي لم تكن شريرة، وذلك بسبب الأوضاع الاقتصادية العامة، المحلية والعالمية، وانخاض قيمة الجنيه المصري بالنسبة للدولار، الذي يتوقع الخبراء الماليون أن يواصل ارتفاعه في الأشهر المقبلة. وطالت هذه الزيادات سائرَ الفنادق والقرى والمنتجعات السياحية في الساحل الشمالي القديم "الطيب" (21 كم من الإسكندرية)، والبحر الأحمر (الجونة، الغردقة، شرم الشيخ، طابا، دهب، إلخ)، وخليج السويس (العين السخنة)، وغيرها؛ الأمر الذي زاد رقعةَ السواحل الشريرة بمصر، وفق منظور القيمة التسعيرية.

الفيلّات والأجنحة الفندقية في العلمين ومراسي وسيدي عبد الرحمن وغيرها، وصلت تكلفة الإقامة فيها أياماً قليلة إلى مليون جنيه، أما تكلفة طاولة عائلية في حفل للمطرب عمرو دياب في العلمين الجديدة فتجاوزت الـ2600 دولار 

وقد رفعت الدولة المصرية الحد الأدنى لسعر الغرفة في الفنادق ذات النجوم الخمس مرّتين خلال العام الماضي (2021) بنسَبٍ زادت على 40%، وذلك قبل قفزة الأسعار التي شهدها العام الجاري بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.

سوء توزيع الثروات

وبالعودة إلى المعيار الحقيقي، الذي أكسب تسمية السواحل الشريرة واقعيتها ومصداقيتها، فمن المؤكد أنه المعيار الاجتماعي الأشمل والأعمق من المعيار الاقتصادي. فهناك أغلبية شعبية كادحة، لا تملك غير العَرَق، ولم يعد من حقها شيء، حتى قضاء بضعة أيام في حضن الهواء النظيف، وموج البحر الشافي.

ساحل الجونة

هذا الشعب المحروم، ليس في وسعه غير التندر والتهكم على الأوضاع القاسية السائدة، وتوجيه سهامِ الانتقاد اللفظية إلى أهل المال والأعمال والنفوذ، الذين يقطنون الكمبوندات، ويركبون السيارات والطائرات الفارهة، ويعلّمون أبناءهم في المدارس والجامعات الأجنبية، ويرتدي رجالهم قمصانَ الكتان، وتلبس نساؤهم الملابسَ المبهرجة والرموش الاصطناعية والمجوهرات باهظة الثمن. فلتكن تلك السواحل شريرة، فقط لأنها محجوزة لهذه الفئة من مرتادي اليخوت، الذين احتكروا الحقيقة والخيال، الواقع والأحلام، هكذا يقول لسان حالهم.

مفردة "الشريرة" هنا هي توصيف فطري، وحصاد تراكمي معقّد، لكلِّ ما يعانيه المواطن الكادح من أذى وسوء وفساد في حياته البائسة، نتيجةَ سوء توزيع الثروات والمقدرات، بينما يطالع بعينيه وصلات حية لا تنقطع، من يوميات فاحشي الثراء في ممارساتهم وسلوكياتهم الفاحشة على الشواطئ وخارجها. ومن أخطر هذه السلوكيات بالتأكيد، حرص هؤلاء الأقلية على عزل أنفسهم في مجتمعات وأمكنة مغلقة على طول الخط، واعتبار أنهم وحدهم الصفوة داخل قلاعهم المصطفاة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard