كثيراً ما يتحدث الهنود عن عاداتهم وطقوسهم ومأكولاتهم لأي أجنبي يصادفونه، ويستفيضون في شرح التفاصيل، ويستمتعون بنقل ثقافتهم إلى الآخرين، ويتلذَّذون بوصف طعامهم ويفتخرون بتاريخهم وحضارتهم. وأكثر ما يمكن أن يسألوا عنه هو الطعام ومواعيد تناوله، حتى أنه عليك توقُّع سؤال أي عابر عما إذا كنت قد تناولت طعامك أم لا. طبعاً يشعرون بالصدمة إذا أجبتهم بأنك لم تتناول الفطور، واكتفيت بفنجان قهوة وقطعة حلوى أو "بيتيفور" والكثير من السجائر، كما هي العادة لدى كثير من السوريين.
قبل شهر، وخلال حديث روتيني عن الطعام، سألني أحد أساتذتي في الجامعة عن الفطور الذي نتناوله في سوريا، ولطالما كان هذا الأستاذ يستفيض في الشرح والتعريف عن المأكولات الهندية. وبعد ذكر عدد من مكونات فطورنا، لمَعت تلك الجوهرة الثمينة في مخيلتي، بألوانها الاستثنائية التي تضاهي كل الألوان المستخدمة في الهند، وحشوتها السحرية التي يستحيل أن تخطر ببال أعظم طبّاخ هندي، وزيت الزيتون الذي يدفع الهنود مبالغ باهظةً للحصول على بضعة ليترات منه؛ إنّه حبيب قلوبنا "المكدوس".
حقيقةً، أتت فكرة المكدوس على طبق من ذهب، لردّ الصاع على كل ما ذكره سابقاً من طعام هندي، وكأني في مفاخرة معه. بدأت بالشرح عنه، وهو أنصت بحرص خاصةً بعد ذكر أنه من الممكن استخدام حشوة الفليفلة الحارّة التي يعشقون. لا أنكر أني صادفت صعوبةً في شرح آلية وضع قطعة حجرية كبيرة لاستخلاص الماء من الباذنجان المسلوق، وتبرير الحيل الغريبة التي تُستَخدم لتبريد اليدين جرّاء لمس الفليفلة، كاللبن ومعجون الأسنان أو حتى بعض الأغاني الشعبية التي كانت تخترعها جدتي، وتطالب من خلالها الشعور بالألم بالاختفاء.
كان لسان الأستاذ يتفوَّه بكلمة واحدة “Seriously”، وأنا أتابع الحديث عن عصر الفليفلة بدرجة لا هي خشنة ولا ناعمة، كما كانت تطالبني أمي (تحت الوسط بنصف درجة)، وهذه كانت أُحجيةً حقيقيةً لطالما عانيت منها كوني مسؤول "العلاقات الخارجية" للمكدوس في المنزل، وعن الاستنفار العائلي الذي يحدث في صفوف والدتي وخالاتي وعمّاتي والجارات، مجتمعاتٍ على ترتيبها في "القطرميز" بطريقة هندسية فريدة.
كان لسان الأستاذ يتفوَّه بكلمة واحدة “Seriously”، وأنا أتابع الحديث عن عصر الفليفلة بدرجة لا هي خشنة ولا ناعمة، كما كانت تطالبني أمي
ازداد اندهاش الأستاذ أكثر عند سماعه عن التنافس في الحصول على أكبر كمية من الباذنجان الحموي المناسب للمكدوس، إذ كان بعض الباعة يتواطؤون مع زبائنهم المقرَّبين لبيعهم الباذنجان الأفضل في الصباح الباكر قبل عرضه على العامّة، ووصلتُ إلى أنه طقس من طقوس السوريين، وسألته بثقة: "أستاذ... فيك تعطيني شي بالهند بيجمع بين الأكل والعادات والطقوس وبيعملوه كل الهنود بموعد واحد؟". كانت علامات الدهشة واضحةً مع اهتزاز رأسه يميناً وشمالاً وهي العادة التي التي يشتهر بها الهنود. صمت لثوانٍ ثم قال: "إذاً، لديكم مهرجان في سوريا يُسمّى المكدوس". لم أستغرب صفة "مهرجان"، فالهنود يحتفلون بكل مناسبة مهما كانت بسيطةً، إذ كان لديهم من قبل 365 مهرجاناً في السنة، ليردّ أستاذ آخر: "يستحق المكدوس السوري فيزا خاصةً به"، أي على مبدأ الفيزا السياحية.
حل سحري في الغربة
بعد فشل محاولات عدة لإرسال المكدوس من سوريا إلى الهند، قررت أخيراً الطالبة السورية ريم محمد، خوض التجربة وصتعه بمفردها، فالحنين إلى فطور بنكهة سوريّة هو أكثر ما يحتاجه السوري في بلد يتناول سكانه الرز والحبوب والمقالي على الفطور.
استغرق إيجاد أصغر نوع ممكن من الباذنجان نحو أسبوعين. تقول ريم: "الباذنجان الهندي لا يتمتع بمزايا السوري، لكن الرمد أفضل من العمى". وعلى جري العادة نفسها التي تجري في سوريا، اجتمعت الطالبة السورية مع صديقاتها في السكن الجامعي، وقسّموا المهام، بين تقشير الثوم وعصر الفليفلة وسلق الباذنجان، بعد شراء كمية متواضعة من الجوز وزيت الزيتون. تقول ريم: "لا توجد في الهند ثقافة الحواضر، الأمر الذي يتطلب وقتاً طويلاً لإعداد الطعام يومياً، ومع ضغط الدراسة بالنسبة إلى طالب دكتوراه، يُعدّ المكدوس حلّاً سحرياً".
صيام المكدوس المزمن
منذ نحو ثلاثة سنوات وحتى اللحظة، يُجري عبد الكريم ضعون، حسابات تكلفة عمل المكدوس في الهند، والنتيجة لم تتغير؛ إلغاء الفكرة كلياً والاكتفاء بالوقوف على أطلال وسائل التواصل الاجتماعي من خلال متابعة الصفحات التي تنشر صورةً هنا أو فيديو هناك.
يقول ابن مدينة سلمية: "كنا نحصل على أفضل أنواع الباذنجان بأسعار رخيصة فضلاً عن أشجار الجوز الموجودة في حديقة المنزل وزيت الزيتون ذي الجودة العالية والكميات الوافرة، أما في الهند فالتكلفة ستكون أكثر من 50 دولاراً لصنع أقل من كيلوغرام واحد"، وهو المبلغ الذي يعيش به لشهر كامل ضمن خطة تقشف محكمة كان قد اتّبعها كنوع من التأقلم مع حالته المادية في سبيل دراسته، في حين يستطيع إنهاء الكمية بأقل من أسبوع.
أستخدم الفول السوداني بدل الجوز، وعندما أتناوله أفكر في مكدوس المنزل مستخرجاً ما في جعبة ذاكرتي من نكهة لأعوّض ما ينقصني هنا
وعلى الرغم من وجود بدائل للحشوة والزيت، إلا أنّه لا يريد العبث بنكهة المكدوس المطبوعة في ذاكرته. يقول عبد الكريم: "اخترت الصوم عن المكدوس إلى حين العودة إلى سوريا أو تحسن أوضاعي المادية في الهند"، وهو ما لم يتحمله الطالب محمد بكرو، الذي عمد إلى استخدام الفول السوداني بدل الجوز، ومزج زيت دوار الشمس بكمية قليلة من زيت الزيتون مع الإكثار من الفليفلة والثوم لرخص أسعارهما في الهند، قائلاً: "عندما أتناوله أفكر في مكدوس المنزل مستخرجاً ما في جعبة ذاكرتي من نكهة لأعوّض ما ينقصني هنا".
تضامن مع الأهل
كانت الأوضاع توحي بأنّها تتوجه إلى الهاوية اقتصادياً، عندما قررت غالية باكير، السفر إلى الهند عام 2019، بغرض الدراسة، لكنها لم تكن بالسوء الذي هي عليه الآن. لم تفكر عائلتها يوماً في تكلفة موسم المكدوس، أو أي شيء يتعلق بالغذاء اليومي. اليوم باتت كل أشكال المونة، بما فيها المكدوس، حلماً بعيد المنال بالنسبة إلى مائدة منزلها، مثلها مثل معظم الأسر السورية، إذ يعيش أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر، حسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر في سوريا.
كومار مستعدّ لأن يتخلى عن الرز والدال (وهي شوربة العدس، ويعتمد عليها الهنود مع الرز) في حال توفر المكدوس بشكل دائم
تقول غالية: "أستطيع تأمين كل مكونات المكدوس في الهند، ولو بكمية قليلة، لكني ألغيت الفكرة كلياً بعد أن قررت أمي إلغاء وجود المكدوس نهائياً من المنزل للمرة الأولى في حياتها. أنا متضامنة مع والدتي"، وتقدر كلفة المكدوسة الواحدة قبل إضافة زيت الزيتون، بأكثر من 1،500 ليرة سورية، الأمر الذي استحال معه صنع ولو "قطرميز" صغير.
بالنسبة لي، وصلني قبل نحو عامين، نصف كيلوغرام من المكدوس. حينها كان صديق هندي يزورني، فقدَّمت له قطعتين وكانت المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها هندياً يُقسم، إذ أقسم على أنها ألذ شيء تناوله في حياته، لكنه وصف طريقة صنعه بالأحجية التي تلزم كثيراً من الوقت لفهمها.
اتصلت به قبل يومين، وأخبرته بأني أُعدّ تقريراً عن المكدوس، فأبدى رغبته في الحديث، وأردف ممازحاً: "لدي شرط واحد هو حصولي على كمية كافية منه". يقول آجيت كومار: "مستعدّ لأن أتخلى عن الرز والدال (الدال هي شوربة العدس، ويعتمد عليها الهنود مع الرز على امتداد شبه القارة الهندية بشكل يومي في نظامهم الغذائي)، في حال توفر المكدوس بشكل دائم".
بين دهشة أستاذي في الجامعة، وإعجاب صديقي، مروراً بحنين الطلاب السوريين في الهند، يضيفُ المكدوس إنجازاً جديداً إلى جعبته، وهو أنّه عابر للقارات والثقافات والذاكرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...