شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
البوليزاريو في تونس... وتصدير الأزمة للشعب

البوليزاريو في تونس... وتصدير الأزمة للشعب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 5 سبتمبر 202210:25 ص

كلما عاشت الأنظمة العربية أزمات سياسيةً واجتماعيةً،، وفشلت اقتصادياً، عملت على تصدير أزماتها عبر أشكال مختلفة على رأسها الشعارات الوطنية والسيادة الوطنية وقضايا الهوية، فتُلهي بها شعوبها لكي تأخذ نفسها من الضغط الذي تمارسه تلك المجتمعات عليها، فيتحول الحاكم الفاشل إلى بطل قومي فجأة، فتختلق أزمة مع نظام بلد آخر، وتحاول استغلال نوع من الإعلام الرديء لإذكاء ذلك الخطاب الشعبوي والصراع الهووي الذي ينشأ بين الشعبين.

فتنتعش تلك السلطة، وتعيش أيامها الذهبية، حينما ينسى شعبُها أزماتِه، وينقلب مدافعاً عنها. حصل ذلك مع الأزمة الخليجية بين قطر والإمارات والسعودية،  وحصل بين الشعبين المصري والجزائري عام 2009 حول مقابلة لكرة القدم بالسودان، وحصلت بين التونسيين والليبيين زمن القذافي، وتستمر بين الشعبين الجزائري والمغربي، وبين الشعب السوداني والمصري، وها هي اليوم تحدث بين الشعبين التونسي والمغربي.

قيس سعيد والأفي مواجهة أزماته

يعيش الرئيس التونسي قيس سعيد منذ انقلاب 25 تموز/يوليو أزمة شرعية جعلت الشعب ينقسم إلى قسمين؛ واحد معه، وآخر ضده، بينما يعارض المجتمع الدولي مسارَه منذ ذلك التاريخ، ويحاول إرجاعه للديمقراطية الفتية التي بدأت تتشكل منذ ثورة كانون الأول/يناير 2011، والتي قضت نحبها على يديه بانقلابه بعد عقد من الزمن.

كلما عاشت الأنظمة العربية أزمات سياسية وفشلت اقتصادياً، عملت على تصدير أزماتها عبر أشكال مختلفة على رأسها الشعارات الوطنية  فتُلهي بها شعوبها لكي تأخذ نفسها من الضغط الذي تمارسه تلك المجتمعات عليها

هذه الأزمات صارت تتفاقم، وفضائح القصر تخرج يوماً إثر يوم، والاستقالات طالت كلَّ المحيطين به حتى من أصدقائه الخلّص، والمكتب الإعلامي، ورئيسة الديوان، ومهندسة الانقلاب نفسه. وكتب سعيد دستور البلاد وحده في سابقة تاريخية دون إشراك أحد، وفرضه على الشعب عبر عرض مسرحي من الكوميديا السوداء سماها "استفتاء".

غير أن المشكل لم ينته، فالشعب الذي قبل به وبدستوره حقاً أو زوراً، صار يطالبه بتنفيذ وعوده، فلم يعد في استطاعة النظام أن يدعي أن الأحزاب هي سبب هذا التأزم العنقودي الذي تعيشه تونس بعد أن صارت كل السلطة في يد الرئيس وحده، حتى أن التونسيين يجزمون أن الأخبار التي تنشر على صفحة رئاسة الجمهورية يكتبها بنفسه لما تحمله من تراكيب وعبارات عرف بها وحده.

تعددت خلال الفترة الأخيرة الانتهاكاتُ التي حدثت للفنانين والمواطنين من قبل الشرطة والنقابات الأمنية التي أكدت أن تونس قد سقطت في فترة دولة بوليسية جديدة أخطر من فترة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، لأن البوليس صار ينتزع شرعية سلوكه من دوره في تغيير النظام نفسه في 25 تموز/يوليو الماضي.

وصار المجتمع التونسي يعيش حالة من الإحباط الشديد واليأس وانغلاق الآفاق وخيبة الأمل اجتاحت حتى أنصار سعيد نفسه الذين تراجع الكثير منهم عن دعمه. فماذا يفعل نظام كنظامه عجز عن تصدير منتوجاته لانعدام الإنتاج نفسه وفقدان الأسواق الخارجية وسقوطه في تضخم مالي مهدَّد بإفلاس الدولة غير تصدير الأزمة إلى الشعب؟

الأزمةُ التي تتجلى اليوم في وجهين: الزيادة في الأسعار، والتهديد برفع الدعم على المواد الأساسية، وهذا زاد من تململ الشعب من سياسته. ولأن قيس سعيد يعلم أن الخبز هو محرار الانتفاضات التونسي يعمل جاهداً على ألا يصل إليه، ولكن المواد الأساسية بدأت تختفي من الأسواق كالسكّر، ما أثر في إنتاج العجين بمشتقاته، وهدد أكبر وأشهر مصانع البسكويت التي تصدر للخارج منذ نصف قرن، وأزمة الزيت وغيرها.

كان يجب أن يطلق سعيد قصة جديدة يجمع بها الحشود وراءه كما فعل في حملته الانتخابية بقصة التطبيع خيانةً، وليس مجرد جريمة، ولأنه لم يعد قادراً على الحديث عن هذا الملف لاعتبارات اقتصادية، ولأنه صار في السلطة فيجب أن يجد حلاً آخر.

كان موضوع الصحراء الغربية، قضية إشكالية، ولكنها أيضاً يمكن اللعب بها على مستويات متعددة؛ أولاً كسب الجار الجزائري ولو بالتضحية بتاريخ الدبلوماسية الرصينة التونسية، وثانياً كسب الشعب لأنه سيربط الخلاف بين تونس والمغرب في علاقة بقضية التطبيع، وبذلك يستعيد قيس سعيد جماهيره التي حشدها بأكذوبة "التطبيع خيانة عظمى"، ودون أن يكون ذلك معلناً ولا صريحاً منه.

فكان استقباله لممثل الصحراء الغربية وهو متأكد أنه يرتكب خطأ دبلوماسياً في العرف العربي، وينسف كلَّ ادعاءاته بحرصه على الاتحاد المغاربي والوحدة العربية. وهكذا انطلقت جماهير السياسة في مدح نظام يعيش حالةً من الفشل المزمن منذ سنتين، وتعض على بطونها تحت تأثير الخطابات القومجية التي يروجها أنصاره ويذكيها إعلام الرئيس.

المثقف بين دوره التنويري وورطة السياسي

لم ينجُ المثقف من حيلة السياسي هذه ولعبة الوطنية، فقد كان فريسة لها في كلّ الأزمات السياسية السابقة التي ذكرناها، وبعض المثقفين الذين نجوا منها جرت ملاحقتهم،  إما بالاعتقال،  أو خسارة وظائفهم، أو بالتشهير بهم واتهامهم بالعمالة.

وقد بدأت حشود قيس سعيد تتهم كلَّ من انتقد ما قام به قيس سعيد من انتهاك لأعراف الدبلوماسية العربية التي تقوم على احترام وحدة البلدان العربية وسلامة ترابها الوطني، بانخراط ذلك المثقف في مسار التطبيع مع إسرائيل الذي ذهبت فيه المغرب.

تعددت في المدة الأخيرة الانتهاكات التي تحدث للفنانين والمواطنين من قبل الشرطة والنقابات الأمنية التي أكدت أن تونس قد سقطت في فترة دولة بوليسية جديدة أخطر من فترة  زين العابدين بن علي

وبهذه التهمة الفخ التي وضعها سعيد يجرّ المثقفين إما إلى مساندته والاتكاء على الواقعية في تنظيم ندوة "تيكاد" اليابانية الإفريقية، وقصة السيادة الوطنية،  أو الصمت.

في الأزمة الجزائرية المصرية التي جرت منذ أكثر من عقد كان عمل بعض المثقفين الجزائريين والمصريين لتهدئة الأوضاع بين الشعبين التي أدت إلى قصص مأساوية من العنف والترحيل، عملا دونكيشوتيا، فالحشود لا تستمع إلى صوت العقل ولا الأصوات التي تدعوا إلى ضبط النفس والتذكير بمشاعر التآخي والتاريخ المشترك للبلدين، ويكفي أن نذكر السجال الذي حصل بين الروائي واسيني الأعرج والروائي يوسف زيدان.

ففي الوقت الذي كان منتظراً من المثقفين أن يكونوا أصوات العقل، كتب يوسف زيدان مقالة بعنوان "ذكريات جزائرية" جمع فيها كلَّ سخطه على الجزائر بطريقة مقرفة تكشف حقداً دفيناً رباه لسنين، نتيجة مصادفات أو سلوكيات شخصية أو سوءِ تنظيمٍ في ملتقى أدبي دفعه إلى السخرية من الجزائر، والتصغير منها، ولم يسلم حتى اسمها من السخرية فيقول "حين وصلت مع ثلاثة من المشاركين الذين ذهبوا من مصر إلى العاصمة الجزائرية الجزائر (عزَّتْ الأسماء وندرتْ، فجعلوا للبلد وعاصمته اسماً واحداً!)، لم نجد أحداً ينتظرنا فى المطار".

ويسدعي ذكرياته وهو طالب ليشتم الجزائريين فيقول في مقاله: "أتذكّر... كان معنا فى كلية الآداب طلاب جزائريون بالدراسات العليا، وكانوا والحق يقال مثالاً للغباء والعنف الداخلى، والتعصب المطلق (أي التعصب لأي سبب)، ومع أن المنح الدراسية المقدمة لهم، ويا للعجب، كانت مجانية، أي أن مصر (المحروسة) تقوم بسدادها عنهم، إلا أنهم كانوا لا يكفون عن التذمر، لأنهم كانوا حانقين على بلدهم! لأنها أرسلتهم إلى مصر وليس إلى فرنسا، كآخرين من زملائهم". والمقال مازال منشوراً بموقع "المصري اليوم".

هذا الموقف البائس للمؤرخ والروائي والمثقف المصري له ما يناظره طبعاً من الجهة الجزائرية، وما نشرته جريدة "الشروق" وغيرها، وكنت وقتها شاهداً على ذلك وأنا بالجزائر، فخصصت للموضوع قسماً مهما من كتابي "واحد صفر للقتيل"، أتأمل فيه العقليتين، وكيف سقطتا في شرك السياسي.

في المقابل كان الروائي الجزائري واسيني الأعرج في ردوده متمسكاً بواجب المثقف في زمن التجييش الشعبوي، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين دافع عن يوسف زيدان الذي شنت عليه الصحافة الجزائرية حملةً بسبب مقاله المسيء، وقال واسيني إنه لا يجب أن يختزل زيدان في مقال. ذلك المقال الذي جعل يوسف زيدان بعد مدة يعتذر عنه، ويعتذر لواسيني الأعرج، ويصف مقاله بالسيء جداً وبالكبوة.

لم يسلم واسيني الأعرج من الاتهام وقتها من الجزائريين بأن هدوءه وخطابه الرصين شكلان من أشكال الخيانة، فيقول واسيني في حوار مع غادة قدري لموقع "دوت مصر": "في وقت الصراع بين الجزائر ومصر حول كرة القدم، زرت الإسكندرية، واعتبر بعضُ الجزائريين ذلك بمثابة خيانة عظمى، لكني ظللت مؤمناً بأن كرة القدم لن تلغي علاقةً عريقة بين شعبين، فالشعب الجزائري مدين بالكثير إلى مصر".

كان الروائي الجزائري واسيني الأعرج في ردوده متمسكاً بواجب المثقف في زمن التجييش الشعبوي، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين دافع عن يوسف زيدان الذي شنت عليه الصحافة الجزائرية حملةً بسبب مقاله المسيء

قبل سنوات قليلة كادت الأزمة الجزائرية المصرية تعاد بين تونس والمغرب بسبب كرة القدم ومباراة بين فريق الترجي الرياضي التونسي والوداد البيضاوي. وقتها كتبتُ مقالاً بعنوان: "الترجي والوداد، وكرة القدم كآخر أسلحة الأنظمة الحاكمة".

أذكر منه حيرتي أمام المثقف العربي وأنا أتابع بداية التشنج، ورأيت أن المسألة في حاجة إلى "تحليل سوسيولوجي وبسيكولوجي لحالة النخبِ، وكيف يقع جرُّها بسرعة نحو مربع العنف الذي قضت عمرَها تحارِبه. ولا بد من وقفة تأملية في قدرة هذه النخب على مواجهة سلطةٍ يمكنها عبر مباراة كرة قدم تجنيدُها وتحويلُها إلى حالات انكشارية تَقتُل وتَضرب وتشتم على الهوية".

يبدو أن الأزمة الجديدة بين تونس والمغرب محتاجة إلى رصانة ورجاحة واسيني الأعرج والشاعر المصري أحمد بخيت، لا تسرع يوسف زيدان، لكيلا يندم التونسيون والمغاربة يوماً على ما قد يقولونه اليوم في ظلّ هذا التحريض الشعبوي الذي يريد به السياسيُّ النجاةَ من المساءلة الحقيقية: أين وعودك؟ أين الرخاء الذي وعدتَ به الفقراءُ يوم أجزتَ لنفسك الانقلاب، وأجزتَ لنفسك كتابة الدستور منفرداً، وأجزتَ لنفسك حلَّ المؤسسات، وحكم البلادِ وشعبٍ انتفض يوماً، وأسقط طاغية من أجل الكرامة والحرية، بالمراسيم؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image