شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
الشاعر كلباً... أحمد ندا وعضّة الأب على معصمه

الشاعر كلباً... أحمد ندا وعضّة الأب على معصمه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 7 أكتوبر 202203:57 م

لا نتحدث في هذا المقال عن المُقرئ المصريّ الشهير أحمد ندا، الذي يقال إنه مؤسس المدرسة المصرية في التغنيّ بالقرآن، بل نقصد أحمد ندا، الصحافي والسيناريست والشاعر المصري، الذي صدر له عام 2018 ديوان "بألف لينة" عن دار المتوسط.

ندا الذي تحول لقائي الصحافي معه حول الديوان إلى ما يشبه المشاتمة المقنّعة بالاحترام المصطنع، إذ قال لي حرفياً إن عبارة "تمارين لترويض المعنى" التي تخللت أحد أسئلتي، هي العبارة الوحيدة التي تستحق التعليق عليها في اللقاء بأكمله. اختفى بعدها ندا من الفضاء العام، متجاهلاً لاحقاً التعليقاتِ التي نالت ديوانه "بألف لينة"، حين انتشر تريند "الأغلفة البديلة"، إذ يكفي أن نفكر بسوء نية بكلمتي "ألف" و"لينة" لنتخيل فحوى الغلاف البديل.

عاد ندا إلى الفضاء العام منذ فترة، وصدر له ديوان "عضة اليد التي أصبحت ساعة" الصادر عن دار المرايا للنشر والتوزيع. العنوان المخادع لا يشبه ما يمكن أن نتخيله أو نتوقعه، أي طفل يصنع ساعة من عضة لساعده؛ فالإهداء في مطلع الديوان "إلى بابا"، لا إلى أبي، أو إلى الوالد، أو إلى "بابي" بل بابا. ذاك الذي فقده ندا دون أن يفقده كلياً. بمعنى آخر، بابا الذي يتحدث عنه ندا، يتجاوز كونه الوالدَ البيولوجي. هو الأب الرمزي الذي رفض القتل الأوديبي، حتى بعدما فارق الحياة. تاركاً ندا أمام صفعة أخيرة، لا يستطيع ردّها، فمهما صرخ ندا بوجه الميت، لا رد يأتيه.

كيف نكتب عن أب يرفض القتل الأوديبي، ويصر على البقاء حياً حتى بعد أن غادرت أنفاسه جسده؟ أنكتب الشعر، أنعوي، أو نبحث عن آخرين نجحوا في قتل آبائهم؟

مقاومة الأب للموت الأوديبي في الديوان، تتضح منذ المقطع الشعري الأول، ذاك الذي يفسر لفظ "بابا" التي حُرم منها ندا لأنها "للأطفال"، ومنذ تلك اللحظة، أي لحظة منعه من نطقها يحاول ندا قتل/الاختلاف عن والده، فربما لعنة الأبناء تتمثل بالضبط في التحول إلى آبائهم إلى حين قتلهم رمزياً، وحسب ندا: "ليس لمجرد أنه قد مات/يمنحه العذر/في ترك السجال مفتوحًا على انتصار رمزي له/وهو يراني أتحول إليه".

الحياة الأبدية للأب الرمزي تشبه ألعاب الفيديو، التي في كل مرة نظن أننا هزمنا فيها الخصم/الأبد، أي استنزفناه حد تلاشيه، يبعث للحياة مرة أخرى، ومن هذا اللاموت (حسب تعبير جيجيك) ينطلق ندا بحثاً عن آباء آخرين. ينتحل اقتباساً مزوراً على لسان هاملت، يستعيد أبياتاً لابن الوردي، بل نكتشف لاحقاً أن ندا سبق له أن نشر نصاً طويلاً عن الآباء وقتلهم، يتحذلق وفيه ويبحث عمن نجحوا بالانتقام أو قتل والدهم. لكن في الديوان، فالبحث النظري والأدبي أقل، لضرورة الشعر، أو لأن الأرواح تأنس للشعر إن كانت حاضرة. شخصياً أرى السبب أشد حذقاً. والد ندا نفسه يَتهم شعر ابنه بالكفر، فأراد أحمد أن يغيظ والده، أو يعلن انتصاراً واحداً لصالحه، فكتب ديواناً أهداه إلى والده.

الشاعر كـ"كلب"

يستعيد ندا صورة الشاعر ككلب، التهمة التي طالت الشريف المرتضى كونه لا يعرف سبعين اسماً للكلب، والشاعر علي ذرب صاحب "سأتذكر أني كلب وأعضك أيها العالم"، والروائي السوري مازن عرفة الذي تحول الراوي في روايته "سرير على الجبهة" إلى كلب، بل حتى فرانز كافكا نفسه كتب قصة "تحريات كلب". وهذا الملفت، مهما اختلفت احتمالات وسياقات تحول الكاتب/الشاعر إلى كلب، هي دوماً مرتبطة بخسارة شيء ما؛ فقدان الكلمات، فقدان الكرامة، فقدان الاعتراف. أي فقدان نقطة ما في تكوين الأنا، حجر صغير ينهار بعده كل الكيان، ليبقى العواء. وهنا الملفت، أن يتحول إلى كلب لا ينطق، بل يصف حاله وكأنه يتأمل نفسه التي انمسخت. فالعواء صوت بعد الكلام وبعد الألم؛ نداء بانتظار ردّ ما.

لم تترك لي خياراً آخر/غير أن أمعن في ضدك/حتى أنزع نفسي عن نفسي/يا شبيهي الذي لم أبتغه... أحمد ندا

يتحول ندا إلى كلب في نصه "ألعق يدي"، إذ يكتشف لعنة الوراثة، فالرجل السبعيني "بعد أن أزاح عن كتفيه ورأسه كل ما تعلّمه لسبعين عاماً" عوى، أو صرخ، حسب من حوله. لكن المفارقة ليست هنا، ففي لحظة غضب، أضحى ندا كوالده، كلباً يعوي، وإن كان الأول قد نسي الكلام. فندى ما زال يصارع الاختلاف عن أبيه، مع ذلك يقف "على باب غرفته ألعق يدي وأخبئ ذيلي المنتصب قبل أن يراه أحد". وهنا نعود لفقدان اللغة، ما إن يتحول الشاعر/الكاتب إلى كلب، حتى يعتريه الخجل، لا من "انمساخه" الكافكاوي، بل من عجزه عن التعبير. وربما تظهر مفارقة الشاعر/الكاتب ككلب، بوصفه لا ينسى فقط أسماءَ الكلاب، بل كل الأسماء.

ذاك الأب الذي لا يموت

يتضح في الديوان العجز اللغوي عن مخاطبة الأب، خصوصاً أننا أمام صورة "بتريارك" حازم وقاس، هدد لغة ندا كما في أول قصيدة مانعاً إياه من نداء "يا بابا". أب رفض أن "يُقتل"، وحتى حين أصبح جثة هامدة، وجّه ضربة أخيرة لندا الذي اكتشف صندوقاً قديماً لأسرار أبيه، يحوي قصاصتين متطابقتين من جريدة نشرت أول قصائد ندا. في الأولى اتَّهم الأبُ ابنَه معلقاً على الحاشية بأن المكتوب كفر أو شبه كفر، وفي الثانية، كتب ما معناه أن هذه أول قصيدة لابنه، ولن تكون الأخيرة.  

ما إن يتحول الشاعر/الكاتب إلى كلب، حتى يعتريه الخجل، لا من "انمساخه" الكافكاوي، بل من عجزه عن التعبير، وهنا تظهر مفارقة الكاتب/الشاعر ككلب، هو لا ينسى فقط أسماء الكلاب، بل كل الأسماء

ذات الأب الذي تأمل ابنه يحدّق حالماً بدفتر قصاصات ورقية على واجهة أحد المحلات، فلم يشتره له. وهنا الملفت في إشكالية استعصاء اللغة؛ كيف نقتل أباً نخاف أن نصبح مثله؟ أي الكلمات/الجينات في تكوين اللحم والأنا يجب لفظها خارجاً ليحافظ الابن عن "أناه" دون أن يصبح نسخة عن أبيه؟ يكتب ندا: "لم تترك لي خيارًا آخر/غير أن أمعن في ضدك /حتى أنزع نفسي عن نفسي/يا شبيهي الذي لم أبتغه".

أهذا أبي أم شخص غريب؟

يقع ندا في حيرة، هل الإشكالية مع والده المغترب في الخليج، والإسلامي السابق؟ أم مع إبراهيم ندا الذي لا يعرف عنه شيئاً سوى صورة قديمة له يرتدي شارلستون منقط؟ لا نمتلك إجابة؛ صورة الأب الذي لا يموت تعجز أمامها الكلمات، هو أبديّ إن صح التعبير، وتطغى نبرته وجيناته على صورة الفرد أو اللا-أب. ذاك الدور المتخيل المنفي لسبب بسيط، الابن موجود، ولا يمكن نسيانه أو تجاهله. 

تشتد هذه الحيرة حين يدرك/ندرك أن الزمن بمعناه الفيزيائي، لا يلعب دوراً في تهديد صور الأب، إذ لا تفنى بفناء عظامه، وأزمة الابن تسمر حتى وإن صار كلباً. هنا يمكن أن نفهم عنوان الديوان إذ نقرأ: "أما الوقت،/فلا يمر ولا يقف/إلا بأمري./وكيف له أن يكون حرًا/وقد حاصرته بفمٍ/دون عقارب/بعضةٍ من أبي/على معصمي/صارت ساعة".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard