في يوم قائظ من صيف العام 1961، جلس الكاتب الصحافي لويس جريس على مقعده في القطار القادم من القاهرة متجهاً إلى الصعيد، ينظر من الشباك ويتأمل النخل العالي. ابتسم جريس العائد إلى قرى الجنوب، ومنّى نفسه في أن يجد بعض الموهوبين المنسيين في أقاصي الصعيد كي تنجح قصته الصحافية التي اقترحها على رئيس تحريره فتحي غانم، في اجتماع مجلة "صباح الخير".
يتوقف القطار في محطة قنا، يغادر لويس جريس المحطة، وفي طريقه يقابله شاب أسمر ذو ابتسامة ساحرة، فيطلب منه جريس أن يصطحبه إلى بيت الشاعر أمل دنقل، فيوافق ويمشي بجواره وعند الوصول إلى بيت دنقل، لا يجده. ثم يتجهان ناحية بيت القاص والروائي يحيى الطاهر عبدالله فلا يجدناه أيضًا، كان الأمل الأخير عند لويس جريس في رحلة بحثه أن يجد ثالث ثالوث قنا الإبداعي، الشاعر عبدالرحمن الأبنودي، لكنه لم يجده. سبقه الثلاثة إلى القاهرة قبل مجيئه بأيام.
كاد اليأس أن يصيب جريس بعد أن فقد فرصة الاستعانة بأدلته الثلاثة إلى المشهد الثقافي القنائي والصعيدي، إلا أن الشاب الأسمر الذي يعرف طريق بيوت الثلاثة، كان هو المُنقذ، فبينما يقف جريس على محطة القطار متأهباً لرحلة عودة خائبة في الاتجاه المعاكس، مد الشاب اللطيف يده في جيب جلبابه، وأخرج أوراقاً خط عليها بيده، وسلمها إلى جريس قائلاً في خجل: "دي قصايد أنا كتبتها أتمنى تعجبك أنا اسمي عبد الرحيم منصور".
بينما يقف لويس جريس على محطة القطار متأهباً لرحلة عودة خائبة في الاتجاه المعاكس، مد الشاب اللطيف يده في جيب جلبابه، وأخرج أوراقاً خط عليها بيده، وسلمها إلى جريس قائلاً في خجل: "دي قصايد أنا كتبتها أتمنى تعجبك، أنا اسمي عبد الرحيم منصور"
الحكاية التي حكاها جريس مراراً، كانت بداية رحلة قصيرة عامرة بإبداع متفرد، لشاعر رغم عمره القصير الذي لم يتجاوز 40 عاماً ورحيله المبكر في مطلع الثمانينيات، خلّف قصائد وأغاني لا تزال تجد صداها في نفوس أجيال جديدة، إذ ضمّنها مشاعر وأفكاراً باقية ما بقيت البلاد على حالها.
بداية المشوار
عاد جريس للقاهرة وقد نجح في مهمته التي راقه خلالها منصور، في إيجاد أصوات شابة في الصعيد، منجم فنون القول والكتابة في مصر، وعندما نشر قصائده، لفتت انتباه كبار الشعراء، في وقت كان الكبار لا يترفعون عن مساندة المواهب الجديدة ودعمها.
تحكي ابنة شقيقه الشاعرة مي منصور أن أخاها الراحل تلقى رسالة من الشاعر الراحل صلاح جاهين يقول له فيها: "احضر يا عبد الرحيم وامتع أسماع القاهرة بأشعارك".
لملم منصور قصائدة، وقبّل يد والدته التي علمته الشعر، وألقى السلام على أرض قنا واستقل القطار إلى القاهرة لتبدأ رحلة الغربة والأغنيات.
مال المقادير - كلمات عبدالرحيم منصور- ألحان أحمد منيب للمطرب الشعبي كنكوت الأمير
عبر أثير الإذاعة بدأ عبد الرحيم منصور مع مجدي نجيب وسيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودي في بث أشعارهم بالعامية، وبعد نحو سبع سنوات، جمع منصور قصائده ليصدر ديوانه الأول "الرقص عَ الحصى" على نفقته الخاصة، في عام الهزيمة 1967.
صدّر منصور الديوان بإهداء إلى والدته كتب فيه: "إلى أمي بنت الشيخ إسماعيل الخلاوي، من دندرة نجع الرد، بندر قنا. تعلمت على يديها الشعر، فحينما كنت صغيراً، كنت أجلس بجوارها أمام الفرن، وهي تخبز أرغفة الخبز على نيران شجر السنط، وأشعر أن الإنشادات التي تقولها أمام النار كأنها نقش الفراعنة على المعابد القديمة، وهذه الإنشادات هي التي تطيب الخبز وليس شجر السنط".
تقول إحدى الحكايات إن بليغ حمدي يجد مطربي الإذاعة المحترفين لتسجيل الأغنية، فاستعان بمجموعة من العمال في ماسبيرو ودربهم على اللحن وسجل الأغنية بأصواتهم، إلا أنها تبقى حكاية من حكايات عديدة وأساطير ومبالغات لا تزال تغلف تلك الأيام
"قول معايا يا شعب"
ككل أبناء جيله والأجيال التالية، تركت الهزيمة جرحاً ظل ينزف في نفس منصور حتى رحيله المبكر. انعكست الهزيمة في أشعاره الخاصة والوطنية، وإن حاول أن يستخدم شعره في مداواة ذلك الجرح لدى الآخرين، فكتب أشعاراً وطنية تحث على الأمل والتماسك وتبشر بنصر قريب.
شكل منصور مع الملحن الراحل – المتمرد مثله- بليغ حمدي ثنائياً فنياً "وطنياً"، وقدما أغنيات بالغة الحماسة، منها "مصر يا بلادي، قومي يا مصر" لعبد الحليم حافظ، و"أم الصابرين" لشادية، بينما نالت وردة – بطبيعة الحال- نصيب الأسد من الأغنيات.
كان قلب عبد الرحيم ينبض بحب مصر، ولم يتوقف شلال الأغاني الوطنية، وبينما الجنود في الجبهة وينطلق الرصاص وتصم الآذان أصوات المدافع، كان منصور في "ماسبيرو"، يحارب معهم بالكلمة وبليغ يحارب باللحن. كان المبنى يكاد يخلو من الموظفين، بينما بدأت حرب التحرير على الجبهة في سيناء ظهيرة 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973، كان الجنود يقاتلون لاستعادة الأرض تلاحقهم دعوات المصريين المتحلقين حول أجهزة الراديو بالنصر، بينما بليغ ومنصور في إستديوهات الإذاعة يكتبان ويسجلان نشيد النصر. خرجت الكلمات من قلب منصور طازجة إلى الورق "بسم الله. الله أكبر بسم الله. أذن وكبر بسم الله. وقول يارب، النصرة تكمل"، لحنها بليغ بسرعة البرق. وتقول إحدى الحكايات إنه لم يجد مطربي الإذاعة المحترفين لتسجيل الاغنية، فاستعان بمجموعة من العمال في المبنى ودربهم على اللحن وسجل الاغنية بأصواتهم، إلا أنها تبقى حكاية من حكايات عديدة وأساطير بقيت تغلف تلك الأيام.
وبعد نجاح القوات المسلحة في عبور قناة السويس، كتب منصور أجمل أغانيه "ع الربابة" من ألحان بليغ، وبصوت وردة الجزائرية وتم تسجيلها في الساعات الأولى من صباح 7 أكتوبر/ تشرين الأول 1973.
رباعيات وشعبيات
قدّم منصور العديد من الأغنيات للسينما والدراما التلفزيونية، وكانت البداية مع فيلم "عدوية" 1968 للفنان محمد رشدي وكتب أغنية "ما على العاشق ملام"، وتوالت النجاحات فتصدى لكتابة كل أغنيات فيلم "مولد يا دنيا" للمخرج حسين كمال، وتعاون مع الكاتبة سنية قراعة والمخرج نور الدمرداش وقدما المسلسل التلفزيوني "مارد الجبل" عام 1977، وكتب له منصور الحوار والأشعار، ثم مع نور الشريف والمخرج عاطف الطيب وطور من مهاراته ليكتب سيناريو وحوار وأشعار فيلم "الزمار" عام 1985 بمشاركة رفيق الصبان. وتبقى "حدوتة مصرية" بصوت محمد منير ولحن أحمد منيب هي الأهم في مشوار منصور السينمائي، وقدماها في الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه من إخراج يوسف شاهين، الذي أوصى بكتابة كلماتها على قبره "لا يهمني اسمك / لا يهمني عنوانك/ لا يهمني لونك/ ولا بلادك/ مكانك/ يهمني الإنسان".
كشاف النجوم
كتب عبد الرحيم منصور الأغاني لكبار المطربين مثل شادية، عبدالحليم حافظ، فايزة أحمد، نجاة، محمد قنديل، عفاف راضي، محمد نوح، وغيرهم، إلا أن ابن الصعيد والنوبة الملحن والمطرب الراحل أحمد منيب كان هو الأقرب إلى روح وكلمات منصور، فشكلا معاً وحدة فنية جديدة ومميزة، لا يزال الإبداع المتولد عنها هو الأبقى والأكثر نجاحاً، تشهد بذلك أرقام المشاهدات على منصات الاستماع مثل يوتيوب وسبوتيفاي وساوند كلاود.
أخرج منصور ومنيب معاً أغنيات "ربك هو العالم"، "ويا وعدي على الأيام"، وبالرغم من تعامله مع كبار المطربين كان بمثابة كشاف للنجوم الشابة يضيء لهم النور على أول الطريق، إذ تعرف على الشاب الصاعد حينذاك محمد منير عن طريق أحمد منيب وكتب له أجمل أغانيه، منها "اتكلمي، يا صبية، قمر الرحيل، شجر الليمون".
تعاون منصور كذلك مع الصاعد وقتها علي الحجار الذي كانت أولى أغنياته "على قد ما حبينا" من كلمات منصور، كما تعاون مع "الشاب البورسعيدي" عمرو دياب، الذي غنى من كلماته العديد من الأغنيات "طريق يا طريق، إيش حال الشجرة، نور يا ليل، قلوع". وكانت كلماته هي المياه المباركة لتعميد أنغام ومدحت صالح ونجوم آخرين.
حلم عبد الرحيم
ترك خلفه ما كان يحلم به شعراً وأغاني تتردد على لسان الملايين، ولكن ميراثه الأعظم كان في السيرة الطيبة التي تركها خلفه لعائلته التي مسها الشعر، إذ كان والده حكاء ماهر ووالدته زينب الخلاوي تغني وتردد المواويل والمربعات الشعرية، أما شقيقه الأصغر فهو الشاعر الراحل حمدي منصور أحد أبطال حرب أكتوبر 1973، وصاحب ديوان "الولد، قمرك أخضر" وصدر له العديد من الأعمال الشعرية بالعامية المصرية، منها "ما على العاشق ملامة، على الباب شتا". ولكنه بعد وفاة شقيقه عبد الرحيم، زهد في الدنيا حتى رحيله في هدوء في يناير/ كانون الثاني الماضي.
بعد وفاة عبد الرحيم وحمدي، تسلمت راية الشعر الشاعرة الشابة مي حمدي منصور. تقول مي عن عمها عبد الرحيم لرصيف22: "عبد الرحيم كان يكتب في أي وقت، لدرجة أنه كان ينام وبجانبه ورقة وقلم ليستيقظ مرات ويكتب جملة جاءته وسط الحلم، أو وهو يقود سيارته أو في أي مكان، دائماً ستجده يحمل ورقة وقلماً. وعندما يكتب قصيدة جديدة يتصل ببليغ حمدي ويسمعه الكلمات فيتحمس بليغ ويبدأ اللحن فوراً".
وتضيف: "معظم ما كتبه عبد الرحيم منصور كان نابعاً من تجربة شخصية عاشها وكتبها بصدق فوصلت لنا بنفس الصدق وعاشت معنا، يكتب عن الغربة والتغريبة وحب الحياة، فيقول:
على الطريق وش غربة وخطو مالوش صاحب
والوقت ميت في تربة والتربة ما ليها صاحب
وبالرغم من كثرة المحبين حول منصور كان يفتقد الصديق الحقيقي، إذ لم يصادق كثيرين في حياته. بحسب مي، كان "بسيطاً يعشق البسطاء، عاشقاً للحرية، ودائماً يردد أنه عصفور يحط على كل غصن ويسافر وقتما يشاء" وتظهر تلك السمات في أشعاره، ومنها:
سيبوني أمشي لوحدي... سيبوني أتوه عريان
الدنيا توب على قدي... وما طِقش أنا الغطيان
تقول مي: "كان الملهم الأول له هو الحب، يجد نفسه في الحب، محباً لكل شيء وكل شخص. لا يبخل أن يعطي هذا لقب ابني أو ذاك لقب ولد عمي كما كان ينطقها بلهجته الصعيدية".
وتحكي ابنة شقيقه عنه: "لم يلق شعره مرة دون أن يتأثر، دائماً يشعرك وكأنه لأول مرة يلقي هذه القصيدة وكأنها أفضل قصائده وأعظم ما كتب، وهكذا في كل قصيدة، حتى إنك ترجوه أن لا يكف عن الإلقاء في الجلسة، وحتى يومنا هذا ما زال أصدقاؤه يحتفظون بقصاصات من قصائده كانوا يدونونها وهو يقرأ، من شدة تأثرهم بالكلمات".
أما عن الأشياء التي كانت تسعده وتؤلمه فتقول مي منصور: "كان يفرح من أبسط الأشياء. كلمة طيبة أو سؤال أحد الأشخاص عنه، أو كلمة جديدة يكتبها وتلقي نجاحاً وإعجاباً من الناس، بينما أكثر الأحداث التي آلمته كانت النكسة إذ كان في قمة الحزن حتى جاءت حرب أكتوبر ومعها النصر ليتحول إلى أسعد مخلوق على وجه البسيطة".
يوم الرحيل
في 28 يوليو/ تموز 1984، كتب منصور كلماته الأخيرة ومضى، عن عمر ناهز 43 عاماً. تروي مي ذكريات يوم الرحيل: "اتصل بعماتي وجدتي وكلمهم واحدة واحدة وقالهم وحشتوني وهجيلكم قريب قوي". وتضيف: "ولكن لم يستطع سامع صوت أبي لأنه لم يكن بالمنزل وترك له السلام والتحية واستأذن حتى يلحق موعده مع الموسيقار بليغ حمدي، ثم أغلق الخط وغادر إلى منزل بليغ الذي كان دائم السهر بمنزله، وبعد أن قضى الليلة معه عاد إلى منزله بصحبة سائق بليغ لعدم قدرته على قيادة سيارته، وما إن دخل المنزل حتى أخبر زوجته بأنه يشعر ببعض المرض، وذهبت إلى المطبخ لتغلي له كوباً من الأعشاب التي أحضرها معه آخر مرة سافر إلى الصعيد والتي كانت تهدئ أعصابه. وصلت زوجته إلى غرفته وبيدها الكوب وأخذت تناديه فلم يرد، وتلك كانت النهاية، وكان آخر ما كتبه قبل خروجه من منزله في ورقة صغيرة:
سقفة للغريب
سقفه راجع عن قريب
سقفه للحبيبة
سقفة راجعة للحبيب
سقفة للنصيب معاندة
وابتسم النصيب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين